الآية: 35 ( مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار )
قوله تعالى: « مثل الجنة التي وعد المتقون » اختلف النحاة في رفع « مثل » فقال سيبويه: ارتفع بالابتداء والخبر محذوف؛ والتقدير: وفيما يتلى عليكم مثل الجنة. وقال الخليل: ارتفع الابتداء وخبره « تجري من تحتها الأنهار » أي صفة الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ كقولك: قولي يقوم زيد؛ فقولي مبتدأ، ويقوم زيد خبره؛ والمثل بمعنى الصفة موجود؛ قال الله تعالى: « ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل » [ الفتح: 29 ] وقال: « ولله المثل الأعلى » [ النحل: 60 ] أي الصفة العليا؛ وأنكره أبو علي وقال: لم يسمع مثل بمعنى الصفة؛ إنما معناه الشبه؛ ألا تراه يجري مجراه في مواضعه ومتصرفاته، كقولهم: مررت برجل مثلك؛ كما تقول: مررت برجل شبهك؛ قال: ويفسد أيضا من جهة المعنى؛ لأن مثلا إذا كان معناه صفة كان تقدير الكلام: صفة الجنة التي فيها أنهار، وذلك غير مستقيم؛ لأن الأنهار في الجنة نفسها لا صفتها وقال الزجاج: مثل الله عز وجل لنا ما غاب عنا بما نراه؛ والمعنى: مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار؛ وأنكره أبو علي فقال: لا يخلو المثل على قوله أن يكون الصفة أو الشبه، وفي كلا الوجهين لا يصح ما قاله؛ لأنه إذا كان بمعنى الصفة لم يصح، لأنك إذا قلت: صفة الجنة جنة، فجعلت الجنة خبرا لم يستقم ذلك؛ لأن الجنة لا تكون الصفة، وكذلك أيضا شبه الجنة جنة؛ ألا ترى أن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين، وهو حدث؛ والجنة غير حدث؛ فلا يكون الأول الثاني. وقال الفراء: المثل مقحم للتأكيد؛ والمعنى: الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار؛ والعرب تفعل ذلك كثيرا بالمثل؛ كقوله: « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] : أي ليس هو كشيء. وقيل التقدير: صفة الجنة التي وعد المتقون صفة جنة « تجري من تحتها الأنهار » وقيل معناه: شبه الجنة التي وعد المتقون في الحسن والنعمة والخلود كشبه النار في العذاب والشدة والخلود؛ قاله مقاتل. « أكلها دائم وظلها » لا ينقطع؛ وفي الخبر: ( إذا أخذت ثمرة عادت مكانها أخرى ) وقد بيناه في « التذكرة » . « وظلها » أي وظلها كذلك؛ فحذف؛ أي ثمرها لا ينقطع، وظلها لا يزول؛ وهذا رد على الجهمية في زعمهم أن نعيم الجنة يزول ويفني. « تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار » أي عاقبة أمر المكذبين وآخرتهم النار يدخلونها.
الآية: 36 ( والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب )
قوله تعالى: « والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك » أي بعض من أوتي الكتاب يفرح بالقرآن، كابن سلام وسلمان، والذين جاؤوا من الحبشة؛ فاللفظ عام، والمراد الخصوص. وقال قتادة: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفرحون بنور القرآن؛ وقاله مجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيضا أنهم مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: هم جماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى يفرحون بنزول القرآن لتصديقه كتبهم. وقال أكثر العلماء: كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في أول ما أنزل، فلما أسلم عبدالله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة؛ فسألوا النبي عن ذلك؛ فأنزل الله تعالى: « قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى » [ الإسراء: 110 ] فقالت قريش: ما بال محمد يدعو إلى إله واحد فأصبح اليوم يدعو إلهين، الله والرحمن! والله ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب؛ فنزلت: « وهم بذكر الرحمن هم كافرون » [ الأنبياء: 36 ] « وهم يكفرون بالرحمن » [ الرعد: 30 ] ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن؛ فأنزل الله تعالى: « والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك » . « ومن الأحزاب » يعني مشركي مكة، ومن لم يؤمن من اليهود والنصارى والمجوس. وقيل: هم العرب المتحزبون على النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: ومن أعداء المسلمون من ينكر بعض ما في القرآن؛ لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السماوات والأرض. « قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به » قراءة الجماعة بالنصب عطفا على « أعبد » . وقرأ أبو خالد بالرفع على الاستئناف أي أفرده بالعبادة وحده لا شريك له، وأتبرأ عن المشركين، ومن قال: المسيح ابن الله وعزير ابن الله، ومن اعتقد التشبيه كاليهود. « إليه أدعو » أي إلى عبادته أدعو الناس. « وإليه مآب » أي أرجع في أموري كلها.
الآية: 37 ( وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق )
قوله تعالى: « وكذلك أنزلناه حكما عربيا » أي وكما أنزلنا عليك القرآن فأنكره بعض الأحزاب كذلك أنزلناه حكما عريبا؛ وإذا وصفه بذلك لأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي، فكذب الأحزاب بهذا الحكم أيضا. وقيل نظم الآية: وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم كذلك أنزلنا إليك القرآن حكما عربيا، أي بلسان العرب؛ ويريد بالحكم ما فيه من الأحكام. وقيل: أراد بالحكم العربي القرآن كله؛ لأنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم. « ولئن اتبعت أهواءهم » أي أهواء المشركين في عبادة ما دون الله، وفي التوجيه إلى غير الكعبة. « بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق » أي ناصر ينصرك. « ولا واق » يمنعك من عذابه؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد الأمة.
الآية: 38 ( ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب )
قيل: إن اليهود عابوا على النبي صلى الله عليه وسلم الأزواج، وعيرته بذلك وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا لشغله أم النبوة عن النساء؛ فأنزل الله هذه والآية، وذكرهم أمر داود وسليمان فقال: « ولقد أرسلنا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية » أي جعلناهم بشرا يقصون ما أحل الله من شهوات الدنيا، وإنما التخصيص في الوحي.
هذه الآية تدل على الترغيب في النكاح والحض عليه، وتنهي عن التبتل، وهو ترك النكاح، وهذه سنة المرسلين كما نصت عليه هذه الآية، والسنة واردة بمعناها؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ) الحديث. وقد تقدم في « آل عمران » وقال: ( من تزوج فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الثاني ) . ومعنى ذلك أن النكاح يعف عن الزني، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما الجنة فقال: ( من وقاه الله شر اثنتين ولج الجنة ما بين لحييه وما بين رجليه ) خرجه الموطأ وغيره. وفي صحيح البخاري عن أنس قال: ( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم! قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال الآخر: إني أصوم الدهر فلا أفطر. وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . خرجه مسلم بمعناه؛ وهذا أبين. وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: ( أراد عثمان أن يتبتل فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولو أجاز له ذلك لاختصينا، وقد تقدم في « آل عمران » الحض على طلب الولد والرد على من جهل ذلك. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: إني لأتزوج المرأة وما لي فيها من حاجة، وأطؤها وما أشتهيها؛ قيل له: وما يحملك على ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: حبي أن يخرج الله مني من يكاثر به النبي صلى الله عليه وسلم النبيين يوم القيامة؛ وإني سمعته يقول: ( عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها وأحسن أخلاقا وأنتق أرحاما وإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) يعني بقول: ( أنتق أرحاما ) أقبل للولد؛ ويقال للمرأة الكثيرة الولد ناتق؛ لأنها ترمي بالأولاد رميا. وخرج أبو داود عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال « لا » ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ) . صححه أبو محمد عبدالحق وحسبك.
قوله تعالى: « وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله » عاد الكلام إلى ما اقترحوا من الآيات - ما تقدم ذكره في هذه السورة - فأنزل الله ذلك فيهم؛ وظاهر الكلام حظر ومعناه النفي؛ لأنه لا يحظر على أحد ما لا يقدر عليه. « لكل أجل كتاب » أي لكل أمر قضاه الله كتاب عند الله؛ قال الحسن. وقيل: فيه تقديم وتأخير، المعنى: لكل كتاب أجل؛ قال الفراء والضحاك؛ أي لكل أمر كتبه الله أجل مؤقت، ووقت معلوم؛ نظيره. « لكل نبأ مستقر » [ الأنعام: 67 ] ؛ بين أن المراد ليس على اقتراح الأمم في نزول العذاب، بل لكل أجل كتاب. وقيل: المعنى لكل مدة كتاب مكتوب، وأمر مقدر لا تقف عليه الملائكة. وذكر الترمذي الحكيم في « نوادر الأصول » عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: لما ارتقى موسى صلوات الله عليه وسلامه طور سيناء رأى الجبار في إصبعه خاتما، فقال: يا موسى ما هذا؟ وهو أعلم به، قال: شيء من حلي الرجال، قال: فهل عليه شيء من أسمائي مكتوب أو كلامي؟ قال: لا، قال: فاكتب عليه « لكل أجل كتاب » .
الآية: 39 ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب )
قوله تعالى: « يمحو الله ما يشاء ويثبت » أي يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به. « ويثبت » ما يشاء؛ أي يؤخره إلى وقته؛ يقال: محوت الكتاب محوا، أي أذهبت أثره. « ويثبت » أي ويثبته؛ كقوله: « والذاكرين الله كثيرا والذاكرات » [ الأحزاب: 35 ] أي والذاكرات الله.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم « ويثبت » بالتخفيف، وشدد الباقون؛ وفي قراءة ابن عباس، واختيار أبي حاتم وأبي عبيد لكثرة من قرأ بها؛ لقول: « يثبت الله الذين آمنوا » [ إبراهيم: 27 ] . وقال ابن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السعادة والشقاوة والموت ) . وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء؛ الخَلق والخُلق والأجل والرزق والسعادة والشقاوة؛ وعنه: هما كتابان سوى أم الكتاب، يمحو الله منهما ما يشاء ويثبت. « وعنده أم الكتاب » الذي لا يتغير منه شيء. قال القشيري: وقيل السعادة والشقاوة والخلق والخلق والرزق لا تتغير؛ فالآية فيما عدا هذه الأشياء؛ وفي هذا القول نوع تحكم.
قلت: مثل هذا لا يدرك بالرأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ: توقيفا، فإن صح فالقول به يجب ويوقف عنده، وإلا فتكون الآية عامة في جميع الأشياء، وهو الأظهر والله أعلم؛ وهذا يروي معناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وأبي وائل وكعب الأحبار وغيرهم، وهو قول الكلبي. وعن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة والذنب فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة؛ فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب. وقال ابن مسعود: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء واكتبني في السعداء؛ فإنك: تمحو ما تشاء وتثبت؛ وعندك أم الكتاب. وكان أبو وائل يكثر أن يدعو: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامح واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقال كعب لعمر بن الخطاب: لولا آية في كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. « يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب » . وقال مالك بن دينار في المرأة التي دعا لها: اللهم إن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وقد تقدم في الصحيحين عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من سره أن يبسط له رزقه وينسأ له أثره فليصل رحمه ) . ومثله عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب ) فذكره بلفظه سواء؛ وفيه تأويلان: أحدهما: معنوي، وهو ما يبقى بعده من الثناء الجميل والذكر الحسن، والأجر المتكرر، فكأنه لم يمت. والآخر: يؤخر أجله المكتوب في اللوح المحفوظ؛ والذي في علم الله ثابت لا تبدل له، كما قال: « يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب » . وقيل لابن عباس لما روى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه ) كيف يزاد في العمر والأجل؟ ! فقال: قال الله عز وجل: « هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده » [ الأنعام: 2 ] . فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته، والأجل الثاني: يعني المسمى عنده - من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ لا يعلمه إلا الله؛ فإذا اتقى العبد ربه ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ؛ ما شاء، وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء، فيزيده في البرزخ فإذا تحتمل الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان؛ لقوله تعالى: « فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون » [ الأعراف: 34 ] فتوافق الخبر والآية؛ وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ، في اختيار حبر الأمة، والله أعلم. وقال مجاهد: يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة؛ وقد مضى القول فيه. وقال الضحاك: يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب؛ وروى معناه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال الكلبي: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم سئل الكلبي عن هذه الآية فقال: يكتب القول كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب، مثل قولك: أكلت وشربت ودخلت وخرجت ونحوه، وهو صادق، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب. وقال قتادة وابن زيد وسعيد بن جبير: يمحو الله ما يشاء من الفرائض والنوافل فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب؛ ونحوه ذكره النحاس والمهدوي عن ابن عباس؛ قال النحاس: وحدثنا بكر بن سهل، قال حدثنا أبو صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، « يمحو الله ما يشاء » يقول: يبدل الله من القرآن ما يشاء فينسخه، « ويثبت » ما يشاء فلا يبدله، « وعنده أم الكتاب » يقول: جملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ. وقال سعيد بن جبير أيضا: يغفر ما يشاء - يعني - من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفره. وقال عكرمة: يمحو ما يشاء - يعني بالتوبة - جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات قال تعالى: « إلا من تاب وأمن وعمل عملا صالحا » [ الفرقان: 70 ] الآية. وقال الحسن: « يمحو الله ما يشاء » من جاء أجله، « ويثبت » من لم يأت أجله. وقال الحسن: يمحو الآباء، ويثبت الأبناء. وعنه أيضا. ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسي. وقال السدي: « يمحو الله ما يشاء » يعني: القمر، « ويثبت » يعني: الشمس؛ بيانه قوله: « فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة » [ الإسراء: 12 ] وقال الربيع بن أنس: هذا في الأرواح حالة النوم؛ يقبضها عند النوم، ثم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه؛ بيانه قوله: « الله يتوفى الأنفس حين موتها » الآية [ الزمر: 42 ] . وقال علي بن أبي طالب يمحو الله ما يشاء من القرون، كقوله: « ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون » [ يس: 31 ] ويثبت ما يشاء منها، كقوله: « ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين » [ المؤمنون: 31 ] فيمحو قرنا، ويثبت قرنا. وقيل: هو الرجل يعمل الزمن الطويل بطاعة الله، ثم يعمل بمعصية الله فيموت على ضلاله؛ فهو الذي يمحو، والذي يثبت: الرجل يعمل بمعصية الله الزمان الطويل ثم يتوب، فيمحوه الله من ديوان السيئات، ويثبته في ديوان الحسنات؛ ذكره الثعلبي والماوردي عن ابن عباس. وقيل: يمحو الله ما يشاء - يعني الدنيا - ويثبت الآخرة. وقال قيس بن عباد في اليوم العاشر من رجب: هو اليوم الذي يمحو الله فيه ما يشاء، ويثبت فيه ما يشاء، وقد تقدم عن مجاهد أن ذلك يكون في رمضان. وقال ابن عباس: إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء، لها دفتان من ياقوتة حمراء، لله فيه كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء. وروي أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله سبحانه يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل فينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء ) . والعقيدة أنه لا تبديل لقضاء الله؛ وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء، وقد تقدم أن من القضاء ما يكون واقعا محتوما، وهو الثابت؛ ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو، والله أعلم. وقال الغزنوي: وعندي أن ما في اللوح خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة؛ فيحتمل التبديل؛ لأن إحاطة الخلق بجميع علم الله محال؛ وما في علمه من تقدير الأشياء لا يبدل. « وعنده أم الكتاب » أصل ما كتب من الآجال وغيرها. وقيل: أم الكتاب اللوح المحفوظ الذي لا يبدل ولا يغير. وقد قيل: إنه يجري فيه التبديل. وقيل: إنما يجري في الجرائد الأخر. وسئل ابن عباس عن أم الكتاب فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون؛ فقال لعلمه: كن كتابا، ولا تبديل في علم الله، وعنه أنه الذكر؛ دليله قوله تعالى: « ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر » [ الأنبياء: 105 ] وهذا يرجع معناه إلى الأول؛ وهو معنى قول كعب. قال كعب الأحبار: أم الكتاب علم الله تعالى بما خلق وبما هو خالق.
الآية: 40 ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب )
قوله تعالى: « وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم » « ما » زائدة، والتقدير: وإن نرينك بعض الذي نعدهم، أي من العذاب لقوله: « لهم عذاب في الحياة الدنيا » [ الرعد: 34 ] وقوله: « ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة » [ الرعد: 31 ] أي إن أريناك بعض ما وعدناهم « أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ » فليس عليك إلا البلاغ؛ أي التبليغ؛ « وعلينا الحساب » أي الجزاء والعقوبة.
الآية: 41 ( أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب )
قوله تعالى: « أولم يروا » يعني، أهل مكة، « أنا نأتي الأرض » أي نقصدها. « ننقصها من أطرافها » اختلف فيه؛ فقال ابن عباس ومجاهد: « ننقصها من أطرافها » موت علمائها وصلحائها قال القشيري: وعلى هذا فالأطراف الأشراف؛ وقد قال ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم؛ ولكن هذا القول بعيد، لأن مقصود الآية: أنا أريناهم النقصان في أمورهم، ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز؛ إلا أن يحمل قول ابن عباس على موت أحبار اليهود والنصارى. وقال مجاهد أيضا وقتادة والحسن: هو ما يغلب عليه المسلمون مما في أيدي المشركين؛ وروي ذلك عن ابن عباس، وعنه أيضا هو خراب الأرض حتى يكون العمران في ناحية منها؛ وعن مجاهد: نقصانها خرابها وموت أهلها. وذكر وكيع بن الجراح عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى: « أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها » قال: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. قال أبو عمر بن عبدالبر: قول عطاء في تأويل الآية حسن جدا؛ تلقاه أهل العلم بالقبول.
قلت: وحكاه المهدوي عن مجاهد وابن عمر، وهذا نص القول الأول نفسه، روى سفيان عن منصور عن مجاهد، « ننقصها من أطرفها » قال: موت الفقهاء والعلماء؛ ومعروف في اللغة أن الطرف الكريم من كل شيء؛ وهذا خلاف ما ارتضاه أبو نصر عبدالرحيم بن عبدالكريم من قول ابن عباس. وقال عكرمة والشعبي: هو النقصان وقبض الأنفس. قال أحدهما: ولو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك. وقال الآخر: لضاق عليك حش تتبرز فيه. قيل: المراد به هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وهلاك أرضهم بعدهم؛ والمعنى: أو لم تر قريش هلاك من قبلهم، وخراب أرضهم بعدهم؟! أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ذلك؛ وروي ذلك أيضا عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج. وعن ابن عباس أيضا أنه بركات الأرض وثمارها وأهلها. وقيل: نقصها بجور ولاتها.
قلت: وهذا صحيح معنى؛ فإن الجور والظلم يخرب البلاد، بقتل أهلها وانجلائهم عنها، وترفع من الأرض البركة، والله أعلم.
قوله تعالى: « والله يحكم لا معقب لحكمه » أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقص ولا تغير. « وهو سريع الحساب » أي الانتقام من الكافرين، سريع الثواب للمؤمن. وقيل: لا يحتاج. في حسابه إلى روية قلب، ولا عقد بنان؛ حسب ما تقدم في « البقرة » بيانه.
الآية: 42 ( وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار )
قوله تعالى: « وقد مكر الذين من قبلهم » أي من قبل مشركي مكة، مكروا بالرسل وكادوا لهم وكفروا بهم. « فلله المكر جميعا » أي هو مخلوق له مكر الماكرين، فلا يضر إلا بإذنه. وقيل: فلله خير المكر؛ أي يجازيهم به. « يعلم ما تكسب كل نفس » من خير وشر، فيجازي عليه. « وسيعلم الكفار » كذا قراءه نافع وابن كثير وأبي عمرو. الباقون: « الكفار » على الجمع. وقيل: عني به أبو جهل. « لمن عقبى الدار » أي عاقبة دار الدنيا ثوابا وعقابا، أو لمن الثواب والعقاب في الدار الآخرة؛ وهذا تهديد ووعيد.