الآية: 6 ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب )
قوله تعالى: « ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة » أي لفرط إنكارهم وتكذيبهم يطلبون العذاب؛ قيل هو قولهم: « اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء » [ الأنفال: 32 ] . قال قتادة: طلبوا العقوبة قبل العافية؛ وقد حكم سبحانه بتأخير العقوبة عن هذه الأمة إلى يوم القيامة. وقيل: « قبل الحسنة » أي قبل الإيمان الذي يرجى به الأمان والحسنات. « وقد خلت من قبلهم المثلات » العقوبات؛ الواحدة مثلة. ورى عن الأعمش أنه قرأ « المثلات » بضم الميم وإسكان الثاء؛ وهذا جمع مثلة، ويجوز « المثلات » تبدل من الضمة فتحة لثقلها، وقيل: يؤتى بالفتحة عوضا من الهاء. وروي عن الأعمش أنه قرأ « المثلات » بفتح الميم وإسكان الثاء؛ فهذا جمع مثلة، ثم حذف الضمة لثقلها؛ ذكره جميعه النحاس رحمه الله. وعلى قراءة الجماعة واحدة مثلة، نحو صدقة وصدقة؛ وتميم تضم الثاء والميم جميعا، واحدها على لغتهم مثلة، بضم الميم وجزم الثاء؛ مثل: غرفة وغرفات، والفعل منه مثلت به أمثل مثلا، بفتح الميم وسكون الثاء.
قوله تعالى: « وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب » أي لذو تجاوز عن المشركين إذا أمنوا، وعن المذنبين إذا تابوا. وقال ابن عباس: أرجى آية في كتاب الله تعالى « وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم » . « وإن ربك لشديد العقاب » إذا أصروا على الكفر. وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت: « وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لولا عفو الله ورحمته وتجاوزه لما هَنَأَ أحداً عيشٌ ولولا عقابه ووعيده وعذابه لاتكل كل أحد ) .
الآية: 7 ( ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد )
قوله تعالى: « ويقول الذين كفروا لولا » أي هلا « أنزل عليه آية من ربه » . لما اقترحوا الآيات وطلبوها قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: « إنما أنت منذر » أي معلم. « ولكل قوم هاد » أي نبي يدعوهم إلى الله. وقيل: الهادي الله؛ أي عليك الإنذار، والله هادي، كل قوم إن أراد هدايتهم.
الآيتان: 8 - 9 ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال )
قوله تعالى: « الله يعلم ما تحمل كل أنثى » أي من ذكر وأنثى، صبيح وقبيح، صالح وطالح؛ وقد تقدم في سورة « الأنعام » أن الله سبحانه منفرد بعلم الغيب وحده لا شريك له؛ وذكرنا هناك حديث البخاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( مفاتيح الغيب خمس ) الحديث. وفيه ( لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ) . واختلف العلماء في تأويل قوله: « وما تغيض الأرحام وما تزداد » فقال قتادة: المعنى ما تسقط قبل التسعة الأشهر، وما تزداد فوق التسعة؛ وكذلك قال ابن عباس. وقال مجاهد: إذا حاضت المرأة في حملها كان ذلك نقصانا في ولدها؛ فإن زادت على التسعة كان تماما لما نقص؛ وعنه: الغيض ما تنقصه الأرحام من الدم، والزيادة ما تزداد منه. وقيل: الغيض والزياد. يرجعان إلى الولد، كنقصان إصبع أو غيرها، وزيادة إصبع أو غيرها. وقيل: الغيض انقطاع دم الحيض. « وما تزداد » بدم النفاس بعد الوضع.
في هذه الآية دليل على أن الحامل تحيض؛ وهو مذهب مالك والشافعي في أحد قوليه. وقال عطاء والشعبي وغيرهما: لا تحيض؛ وبه قال أبو حنيفة؛ ودليله الآية. قال ابن عباس في تأويلها: إنه. حيض الحبالى، وكذلك روي عن عكرمة ومجاهد؛ وهو قول عائشة، وأنها كانت تفتي النساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصلاة؛ والصحابة إذ ذاك متوافرون، ولم ينكر منهم أحد عليها، فصار كالإجماع؛ قاله ابن القصار. وذكر أن رجلين، تنازعا ولدا، فترافعا إلى عمر رضي الله عنه فعرضه على القافة، فألحقه القافة بهما، فعلاه عمر بالدرة، وسأل نسوة من قريش فقال: انظرن ما شأن هذا الولد؟ فقلن: إن الأول خلا بها وخلاها، فحاضت على الحمل، فظنت أن عدتها انقضت؛ فدخل بها الثاني، فانتعش الولد بماء الثاني؛ فقال عمر: الله أكبر! وألحقه بالأول، ولم يقل إن الحامل لا تحيض، ولا قال ذلك أحد من الصحابة؛ فدل أنه إجماع، والله أعلم. واحتج المخالف بأن قال لو كان الحامل تحيض، وكان ما تراه المرأة من الدم حيضا لما صح استبراء الأمة بحيض؛ وهو إجماع وروي عن مالك في كتاب محمد ما يقتضي أنه ليس بحيض.
في هذه الآية دليل على أن الحامل قد تضع حملها لأقل من تسعة أشهر والأكثر، وأجمع العلماء على أن أقل الحمل ستة أشهر، وأن عبدالملك، بن مروان ولد لستة أشهر. وهذه الستة الأشهر هي بالأهلة كسائر أشهر الشريعة؛ ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك، وأظنه في كتاب ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها؛ حكاه ابن عطية.
واختلف العلماء في أكثر الحمل؛ فروى ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحول ظل المغزل؛ ذكره الدارقطني. وقالت جميلة بنت سعد - أخت عبيد بن سعد، وعن الليث بن سعد - إن أكثره ثلاث سنين. وعن الشافعي أربع سنين؛ وروي عن مالك في إحدى روايتيه، والمشهور عنه خمس سنين؛ وروي عنه لا حد له، ولو زاد على العشرة الأعوام؛ وهي الرواية الثالثة عنه. وعن الزهري ست وسبع. قال أبو عمر: ومن الصحابة من يجعله إلى سبع؛ والشافعي: مدة الغاية منها أربع سنين. والكوفيون يقولون: سنتان لا غير. ومحمد بن عبدالحكم يقول: سنة لا أكثر. وداود يقول: تسعة أشهر، لا يكون عنده حمل أكثر منها. قال أبو عمر: وهذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد، والرد إلى ما عرف من أمر النساء وبالله التوفيق. روى الدارقطني عن الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك ابن أنس إني حدثت عن عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال: سبحان الله! من يقول هذا؟ ! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان، تحمل وتضع في أربع سنين، امرأة صدق، وزوجها رجل صدق؛ حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين. وذكره عن المبارك ابن مجاهد قال: مشهور عندنا كانت امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين، وكانت تسمى حاملة الفيل. وروى أيضا قال: بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل فقال: يا أبا يحيى! ادع لامرأة حبلى منذ أربع سنين قد أصبحت في كرب شديد؛ فغضب مالك وأطبق المصحف ثم قال: ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء! ثم قرأ، ثم دعا، ثم قال: اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها الساعة، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها بها غلاما، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب، ورفع مالك يده، ورفع الناس أيديهم، وجاء الرسول إلى الرجل فقال: أدرك امرأتك، فذهب الرجل، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط، ابن أربع سنين، قد استوت أسنانه، ما قطعت سراره؛ وروي أيضا أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى؛ فشاور عمر الناس في رجمها، فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين! إن كان لك عليها سبيل فليس لك على ما في بطنها سبيل؛ فاتركها حتى تضع، فتركها، فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه؛ فعرف الرجل الشبه فقال: ابني ورب الكعبة!؛ فقال عمر: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ؛ لولا معاذ لهلك عمر. وقال الضحاك: وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين، فولدتني وقد خرجت سني. ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين، وقيل: ثلاث سنين. ويقال: إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين، فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه. وقال حماد بن سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرما لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين. وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين، وقد طلعت سنه فسمي ضحاكا. وقال عباد بن العوام: ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه، فمر به طير فقال: كش.
قال ابن خويز منداد: أقل الحيض والنفاس وأكثره وأقل الحمل وأكثره مأخوذ من طريق الاجتهاد؛ لأن علم ذلك استأثر الله به، فلا يجوز أن يحكم في شيء منه إلا بقدر ما أظهره لنا، ووجد ظاهرا في النساء نادرا أو معتادا؛ ولما وجدنا امرأة قد حملت أربع سنين وخمس سنين حكمنا بذلك، والنفاس والحيض لما لم نجد فيه أمرا مستقرا رجعنا فيه إلى ما يوجد في النادر منهن.
قال ابن العربي: نقل بعض المتساهلين من المالكيين أن أكثر الحمل تسعة أشهر؛ وهذا ما لم ينطق به قط إلا هالكي، وهم الطبائعيون الذين يزعمون أن مدبر الحمل في الرحم الكواكب السبعة؛ تأخذه شهرا شهرا، ويكون الشهر الرابع منها للشمس؛ ولذلك يتحرك ويضطرب، وإذا تكامل التداول في السبعة الأشهر بين الكواكب السبعة عاد في الشهر الثامن إلى زحل، فيبقله ببرده؛ فيا ليتني تمكنت من مناظرتهم أو مقاتلتهم! ما بال المرجع بعد تمام الدور يكون إلى زحل دون غيره؟ الله أخبركم بهذا أم على الله تفترون؟ ! وإذا جاز أن يعود إلى اثنين منها لم لا يجوز أن يعود التدبير إلى ثلاث أو أربع، أو يعود إلى جميعها مرتين أو ثلاثا؟ ! ما هذا التحكم بالظنون الباطلة على الأمور الباطنة!.
قوله تعالى: « وكل شيء عنده بمقدار » يعني من النقصان والزيادة. ويقال: « بمقدار » قدر خروج الولد من بطن أمه، وقد مكثه في بطنها إلى خروجه. وقال قتادة: في الرزق والأجل. والمقدار القدر؛ وعموم الآية يتناول كل ذلك، والله سبحانه أعلم.
قلت: هذه الآية تمدح الله سبحانه وتعالى بها بأنه « عالم الغيب والشهادة » أي هو عالم بما غاب عن الخلق، وبما شهدوه. فالغيب مصدر بمعنى الغائب. والشهادة مصدر بمعنى الشاهد؛ فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه في ذلك أحد؛ فأما أهل الطب الذين يستدلون بالأمارات والعلامات فإن قطعوا بذلك فهو كفر، وإن قالوا إنها تجربة تركوا وما هم عليه، ولم يقدح ذلك في الممدوح؛ فإن العادة يجوز انكسارها، والعلم لا يجوز تبدله. و « الكبير » الذي كل شيء دونه. « المتعال » عما يقول المشركون، المستعلي على كل شيء بقدرته وقهره؛ وقد ذكرناهما في شرح الأسماء مستوفى، والحمد لله.
الآية: 10 ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار )
قوله تعالى: « سواء منكم من أسر القول ومن جهر به » إسرار القول: ما حدث به المرء نفسه، والجهر ما حدث به غيره؛ والمراد بذلك أن الله سبحانه يعلم ما أسره الإنسان من خير وشر، كما يعلم ما جهر به من خير وشر. و « منكم » يحتمل أن يكون وصفا لـ « سواء » التقدير: سير من أسر وجهر من جهر سواء منكم؛ ويجوز أن يتعلق « بسواء » على معنى: يستوي منكم، كقولك: مررت بزيد. ويجوز أن يكون على تقدير: سر من أسر منكم وجهر من جهر منكم. ويجوز أن يكون التقدير: ذو سواء منكم من أسر القول ومن جهر به، كما تقول: عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل. وقيل: « سواء » أي مستو، فلا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف. « ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار » « بالنهار » أي يستوي في علم الله السر والجهر، والظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات. وقال الأخفش وقطرب: المستخفي بالليل الظاهر؛ ومنه خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته؛ وأخفيت الشيء أي استخرجته؛ ومنه قيل للنباش: المختفي. وقال امرؤ القيس:
خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
والسارب المتواري، أي الداخل سربا؛ ومنه قولهم: انسرب الوحشي إذا دخل في كناسه. وقال ابن عباس: « مستخف » مستتر، « وسارب » ظاهر. مجاهد: « مستخف » بالمعاصي، « وسارب » ظاهر. وقيل: معنى « سارب » ذاهب؛ قال الكسائي: سرب يسرب سربا وسروبا إذا ذهب؛ وقال الشاعر:
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيدة فهو سارب
أي ذاهب. وقال أبو رجاء: السارب الذاهب على وجهه في الأرض؛ قال الشاعر:
أني سربت وكنت غير سروب
وقال القتبي: « سارب بالنهار » أي منصرف في حوائجه بسرعة؛ من قولهم: أنسرب الماء. وقال الأصمعي: خل سربه أي طريقه.
الآية: 11 ( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال )
قوله تعالى: « له معقبات » قوله تعالى: « له معقبات » أي لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار؛ فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار. وقال: « معقبات » والملائكة ذكران لأنه جمع معقبة؛ يقال: ملك معقب، وملائكة معقبة، ثم معقبات جمع الجمع. وقرأ بعضهم - « له معاقيب من بين يديه ومن خلفه » . ومعاقيب جمع معقب؛ وقيل للملائكة معقبة على لفظ الملائكة وقيل: أنث لكثرة ذلك منهم؛ نحو نسابة وعلامة وراوية؛ قال الجوهري وغيره. والتعقب العود بعد البدء؛ قال الله تعالى: « ولى مدبرا ولم يعقب » [ النمل: 10 ] أي لم يرجع؛ وفي الحديث: ( معقبات لا يخيب قائلهن - أو - فاعلهن ) فذكر التسبيح والتحميد والتكبير. قال أبو الهيثم: سمين « معقبات » لأنهن عادت مرة بعد مرة، فعل من عمل عملا ثم عاد إليه فقد عقب. والمعقبات من الإبل اللواتي يقمن عند أعجاز الإبل المعتركات على الحوض؛ فإذا انصرفت ناقة دخلت مكانها أخرى. وقوله: « من بين يديه ومن خلفه » أي المستخفي بالليل والسارب بالنهار.
قوله تعالى: « يحفظونه من أمر الله » اختلف في هذا الحفظ؛ فقيل: يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرة، لطفا منه به، فإذا جاء القدر. خلوا بينه وبينه؛ قال ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. قال أبو مجلز: جاء رجل من مراد إلى علي فقال: احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك؛ فقال: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه ما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله، وإن الأجل حصن حصينة؛ وعلى هذا، « يحفظونه من أمر الله » أي بأمر الله وبإذنه؛ فـ « من » بمعنى الباء؛ وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض. وقيل: « من » بمعنى عن؛ أي يحفظونه عن أمر الله، وهذا قريب من الأول؛ أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم؛ وهذا قول الحسن؛ تقول: كسوته عن عري ومن عري؛ ومنه قوله عز وجل: « أطعمهم من جوع » [ قريش: 4 ] أي عن جوع. وقيل: يحفظونه من ملائكة العذاب، حتى لا تحل به عقوبة؛ لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة، وتزول عنهم الحفظة المعقبات. وقيل: يحفظونه من الجن؛ قال كعب: لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن. وملائكة العذاب من أمر الله؛ وخصهم بأن قال: « من أمر الله » لأنهم غير معاينين؛ كما قال: « قل الروح من أمر ربي » [ الإسراء: 85 ] أي ليس مما تشاهدونه أنتم. وقال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره، له معقبات من أم الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه. وهو مروي عن مجاهد وابن جريج والنخعي؛ وعلى أن ملائكة العذاب والجن من أمر الله لا تقديم فيه ولا تأخير. وقال ابن جريج: إن المعنى يحفظون عليه عمله؛ فحذف المضاف. وقال قتادة: يكتبون أقواله وأفعاله. ويجوز إذا كانت المعقبات الملائكة أن تكون الهاء في « له » لله عز وجل، كما ذكرنا؛ ويجوز أن تكون للمستخفي، فهذا قول.
وقيل: « له معقبات من بين يديه ومن خلفه » يعني به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي أن الملائكة تحفظه من أعدائه؛ وقد جرى ذكر الرسول في قوله: « لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر » [ الرعد: 7 ] أي سواء منكم من أسر القول ومن جهر به في أنه لا يضر النبي صلى الله عليه وسلم، بل له معقبات يحفظونه عليه السلام؛ ويجوز أن يرجع هذا إلى جميع الرسل؛ لأنه قد قال: « ولكل قوم هاد » [ الرعد: 7 ] أي يحفظون الهادي من بين يديه ومن خلفه. وقول رابع: أن المراد. بالآية السلاطين والأمراء الذين لهم قوم من بين أيديهم ومن خلفهم يحفظونهم؛ فإذا جاء أمر الله لم يغنوا عنهم من الله شيئا؛ قال ابن عباس وعكرمة؛ وكذلك قال الضحاك: هو السلطان المتحرس من أمر الله، المشرك. وقد قيل: إن في الكلام على هذا التأويل نفيا محذوفا، تقديره: لا يحفظونه من أمر الله تعالى، ذكره الماوردي. قال المهدوي: ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى: يحفظونه من أمر الله على ظنه وزعمه. وقيل: سواء من أسر القول ومن جهر به فله حراس وأعوان يتعاقبون عليه فيحملونه على المعاصي، ويحفظونه من أن ينجع فيه وعظ؛ قال القشيري: وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذاب؛ وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار فيصير ذلك سببا للعقوبة؛ فكأنه الذي يحل العقوبة بنفسه؛ فقوله: « يحفظونه من أمر الله » أي من امتثال أمر الله. وقال عبدالرحمن بن زيد: المعقبات ما يتعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده؛ قال الماوردي: ومن قال بهذا القول ففي تأويل قوله: « يحفظونه من أمر الله » وجهان: أحدهما: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجل؛ قاله الضحاك. الثاني: يحفظونه من الجن والهوام المؤذية، ما لم يأت قدر؛ - قاله أبو أمامة وكعب الأحبار - فإذا جاء المقدور خلوا عنه؛ والصحيح أن المعقبات الملائكة، وبه قال الحسن ومجاهد وقتادة وابن جريج؛ وروي عن ابن عباس، واختاره النحاس، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ) الحديث، رواه الأئمة.
وروى الأئمة عن عمرو عن ابن عباس قرأ - « معقبات من بين يديه ووقباء من خلفه من أمر الله يحفظونه » فهذا قد بين المعنى. وقال كنانة العدوي: دخل عثمان رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ قال: ( ملك عن يمينك يكتب الحسنات وآخر عن الشمال يكتب السيئات والذي على اليمين أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أأكتب قال لا لعله يستغفر الله تعالى أو يتوب إليه فإذا قال ثلاثا قال نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عز وجل وأقل استحياءه منا يقول الله تعالى « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد » [ ق: 18 ] وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله تعالى « له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله » وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك وملكان على شفتيك وليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد وآله وملك قاسم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار لأن ملائكة الليل ليسوا بملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس مع ابن آدم بالنهار وولده بالليل ) . ذكره الثعلبي. قال الحسن: المعقبات أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر. واختيار الطبري: أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء وخلفهم؛ والهاء في « له » لهن؛ على ما تقدم. وقال العلماء رضوان الله عليهم: إن الله سبحانه جعل أوامره على وجهين: أحدهما: قضى حلوله ووقوعه بصاحبه؛ فذلك لا يدفعه أحد ولا يغيره. والآخر: قضى مجيئه ولم يقض حلوله ووقوعه، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظ.
قوله تعالى: « إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم » أخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يغير ما بقوم حتى يقع منهم تغيير، إما منهم أو من الناظر لهم، أو ممن هو منهم بسبب؛ كما غير الله بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة بأنفسهم، إلى غير هذا من أمثلة الشريعة؛ فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: وقد ( سئل أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث ) . والله أعلم.
قوله تعالى: « وإذا أراد الله بقوم سوءا » أي هلاكا وعذابا، « فلا مرد له » وقيل: إذا أراد بهم بلاء من أمراض وأسقام فلا مرد لبلائه. وله: إذا أراد الله بقوم سوءا أعمى أبصارهم حتى يختاروا ما فيه البلاء ويعملوه؛ فيمشون إلى هلاكهم بأقدامهم، حتى يبحث أحدهم عن حتفه بكفه، ويسعى بقدمه إلى إراقة دمه. « وما لهم من دونه من وال » أي ملجأ؛ وهو معنى قول السدي. وقيل: من ناصر يمنعهم من عذابه؛ وقال الشاعر:
ما في السماء سوى الرحمن من وال
ووال وولي كقادر وقدير.
الآيتان: 12 - 13 ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال، ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال )
قوله تعالى: « هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال » أي بالمطر. « السحاب » جمع، والواحدة سحابة، وسحب وسحائب في الجمع أيضا. « ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته » قد مضى في « البقرة » القول في الرعد والبرق والصواعق فلا معنى للإعادة؛ والمراد بالآية بيان كمال قدرته؛ وأن تأخير العقوبة ليس عن عجز؛ أي يربكم البرق في السماء خوفا للمسافر؛ فإنه يخاف أذاه لما ينال من المطر والهول والصواعق؛ قال الله تعالى: « أذى من مطر » [ النساء: 102 ] وطمعا للحاضر أن يكون عقبه مطر وخصب؛ قال معناه قتادة ومجاهد وغيرهما. وقال الحسن: خوفا من صواعق البرق، وطمعا في غيثه المزيل للقحط. « وينشئ السحاب الثقال » قال مجاهد: أي بالماء. « ويسبح الرعد بحمده » من قال إن الرعد صوت السحاب فيجوز أن يسبح الرعد بدليل خلق الحياة فيه؛ ودليل، صحة هذا القول قوله: « والملائكة من خيفته » فلو كان الرعد ملكا لدخل في جملة الملائكة. ومن قال إنه ملك قال: معنى. « من خيفته » من خيفة الله؛ قاله الطبري وغيره. قال ابن عباس: إن الملائكة خائفون من الله ليس كخوف ابن آدم؛ لا يعرف واحدهم من على يمينه ومن على يساره، لا يشغلهم عن عبادة الله طعام ولا شراب؛ وعنه قال: الرعد ملك يسوق السحاب، وإن بخار الماء لفي نقرة إبهامه، وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث يؤمر، وإنه يسبح الله؛ فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح، فعندها ينزل القطر، وعنه أيضا كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. وروى مالك عن عامر بن عبدالله عن أبيه أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال: سبحانه الذي يسح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا وعيد لأهل الأرض شديد. وقيل: إنه ملك جالس على كرسي بين السماء والأرض، وعن يمينه سبعون ألف ملك وعن يساره مثل ذلك؛ فإذا أقبل على يمينه وسبح سبح الجميع من خوف الله، وإذا أقبل على يساره وسبح سبح الجميع من خوف الله.
قوله تعالى: « ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء » ذكر الماوردي عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب ومجاهد: نزلت في يهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني! من أي شيء ربك؛ أمن لؤلؤ أم من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأحرقته. وقيل: نزلت في بعض كفار العرب؛ قال الحسن: ( كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام فقال لهم: أخبروني عن رب محمد ما هو، ومم هو، أمن فضة أم من حديد أم نحاس؟ فاستعظم القوم مقالته؛ فقال: أجيب محمدا إلى رب لا يعرفه! فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليه مرارا وهو يقول مثل هذا؛ فبينا النفر ينازعونه ويدعونه إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وأبرقت ورمت بصاعقة، فأحرقت الكافر وهم جلوس؛ فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أحترق صاحبكم، فقالوا: من أين علمتم؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. « ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء » ) . ذكره الثعلبي عن الحسن؛ والقشيري بمعناه عن أنس، وسيأتي. وقيل: نزلت الآية في أربد بن ربيعة أخي لبيد بن ربيعة، وفي عامر بن الطفيل؛ قال ابن عباس: ( أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة العامريان يريدان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد جالس في نفر من أصحابه، فدخلا المسجد، فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور، وكان من أجمل الناس؛ فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا يا رسول الله عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك؛ فقال: ( دعه فإن يرد الله به خيرا يهده ) فأقبل حتى قام عليه فقال؛ يا محمد مالي إن أسلمت؟ فقال: ( لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين ) . قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: ( ليس ذاك إلي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء ) . قال: أفتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال: ( لا ) . قال: فما تجعل لي؟ قال: ( أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها في سبيل الله ) . قال: أو ليس لي أعنة الخيل اليوم؟ قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر أومأ إلى أربد: إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم ويراجعه؛ فاخترط أربد من سيفه شبرا ثم حبسه الله، فلم يقدر على سله، ويبست يده على سيفه؛ وأرسل الله عليه صاعقة في يوم صائف صاح فأحرقته؛ وولى عامر هاربا وقال: يا محمد! دعوت ربك على أربد حتى قتلته؛ والله لأملأنها عليك خيلا جردا، وفتيانا مردا؛ فقال عليه السلام: ( يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة ) يعني الأوس والخزرج؛ فنزل عامر بيت امرأة سلولية؛ وأصبح وهو يقول: والله لئن أصحر لي محمد وصاحبه - يريد ملك الموت - لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب؛ وخرجت على ركبته غدة عظيمة في الوقت؛ فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية؛ ثم ركب على فرسه فمات على ظهره ) . ورثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد فقال:
يا عين هلا بكيت أربد إذ قمـ ـنا وقام الخصوم في كبد
أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بالفا رس يوم الكريهة النجد
وفيه قال:
إن الرزية لا رزية مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب
يا أربد الخير الكريم جدوده أفردتني أمشي بقرن أعضب
وأسلم لبيد بعد ذلك رضي الله عنه.
مسألة: روى أبان عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تأخذ الصاعقة ذاكرا لله عز وجل ) . وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد يقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته ) . وذكر الخطيب من حديث سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس عن أبيه عن جده قال: كنا مع عمر في سفر فأصابنا رعد وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ ففعلنا فعوفينا؛ ثم لقيت عمر بن الخطاب رضى الله عنه فإذا بردة قد أصابت أنفه فأثرت به، فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذا؟ قال بردة أصابت أنفي فأثرت، فقلت: إن كعبا حين سمع الرعد قال لنا: من قال حين يسمع الرعد سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ثلاثا عوفي مما يكون في ذلك الرعد؛ فقلنا فعوفينا؛ فقال عمر: أفلا قلتم لنا حتى نقولها؟ وقد تقدم هذا المعنى في « البقرة » .
قوله تعالى: « وهم يجادلون في الله » يعني جدال اليهودي حين سأل عن الله تعالى: من أي شيء هو؟ قال مجاهد. وقال ابن جريج: جدال أربد فيما هم به من قتل النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون، « وهم يجادلون في الله » حالا، ويجوز أن يكون منقطعا. وروى أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى عظيم من المشركين يدعوه إلى الله عز وجل، فقال لرسول الله: أخبرني عن إلهك هذا؟ أهو من فضة أم من ذهب أم من نحاس؟ فاستعظم ذلك؛ فرجع إليه فأعلمه؛ فقال: ارجع إليه فادعه فرجع إليه وقد أصابته صاعقة، وعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل: « وهم يجادلون في الله » « وهو شديد المحال » قال ابن الأعرابي: « المحال » المكر، والمكر من الله عز وجل التدبير بالحق. النحاس: المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر. وروى ابن اليزيدي عن أبي زيد « وهو شديد المحال » أي النقمة. وقال الأزهري: « المحال » أي القوة والشدة. والمحل: الشدة؛ الميم أصلية، وما حلت فلانا محالا أي قاويته حتى يتبين أينا أشد. وقال أبو عبيد: « المحال » العقوبة والمكروه. وقال ابن عرفة: « المحال » الجدال؛ يقال: ما حل عن أمره أي جادل. وقال القتيبي: أي شديد الكيد؛ وأصله من الحيلة، جعل ميمه كميم المكان؛ وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت. وقال الأزهري: غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة؛ بل هي أصلية، وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية؛ مثل: مهاد وملاك ومراس، وغير ذلك من الحروف. ومفعل إذا كانت من بنات الثلاثة فإنه يجيء بإظهار الواو مثل: مزود ومحول ومحور، وغيرها من الحروف؛ وقال: وقرأ الأعرج ـ « وهو شديد الَمحال » بفتح الميم؛ وجاء تفسيره على هذه القراءة عن ابن عباس أنه الحول، ذكر هذا كله أبو عبيد الهروي، إلا ما ذكرناه أولا عن ابن الأعرابي؛ وأقاويل الصحابة والتابعين بمعناها؛ وهي ثمانية: أولها: شديد العداوة، قاله ابن عباس. وثانيها: شديد الحول، قاله ابن عباس أيضا. وثالثها: شديد الأخذ، قال علي بن أبي طالب. ورابعها: شديد الحقد، قاله ابن عباس. وخامسها: شديد القوة، قال مجاهد. وسادسها: شديد الغضب، قاله وهب بن منبه. وسابعها: شديد الهلاك بالمحل، وهو القحط؛ قاله الحسن أيضا. وثامنها: شديد الحيلة؛ قاله قتادة. وقال أبو عبيدة معمر: المحال والمماحلة المماكرة والمغالبة؛ وأنشد للأعشى:
فرع نبع يهتز في غصن المجـ ـد كثير الندى شديد المحال
وقال آخر:
ولبس بن أقوام فكل أعد له الشغازب والمحالا
وقال عبدالمطلب:
لا هم إن المرء يمـ ـنع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم ومحا لهم عدوا محالك