الآية: 65 ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم )
قوله تعالى: « ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض » ذكر نعمة أخرى، فأخبر أنه سخر لعباده ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار. « والفلك » أي وسخر لكم الفلك في حال جريها. وقرأ أبو عبدالرحمن الأعرج « والفلك » رفعا على الابتداء وما بعده خبره. الباقون بالنصب نسقا على قوله « ما في الأرض » . « ويمسك السماء أن تقع على الأرض » أي كراهية أن تقع. وقال الكوفيون: لئلا تقع. وإمساكه لها خلق السكون فيها حالا بعد حال. « إلا بإذنه » أي إلا بإذن الله لها بالوقوع، فتقع بإذنه، أي بإرادته وبحيلته. « إن الله بالناس لرؤوف رحيم » أي في هذه الأشياء التي سخرها لهم.
الآية: 66 ( وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور )
قوله تعالى: « وهو الذي أحياكم » أي بعد أن كنتم نطفا. « ثم يميتكم » عند انقضاء آجالكم. « ثم يحييكم » أي للحساب والثواب والعقاب. « إن الإنسان لكفور » أي لجحود لما ظهر من الآيات الدالة على قدرته ووحدانيته. قال ابن عباس: يريد الأسود بن عبد الأسد وأبا جهل بن هشام والعاص بن هشام وجماعة من المشركين. وقيل: إنما قال ذلك لأن الغالب على الإنسان كفر النعم؛ كما قال تعالى: « وقليل من عبادي الشكور » [ سبأ: 13 ] .
الآية: 67 ( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم )
قوله تعالى: « لكل أمة جعلنا منسكا » أي شرعا. « هم ناسكوه » أي عاملون به. « فلا ينازعنك في الأمر » أي لا ينازعنك أحد منهم فيما يشرع لأمتك؛ فقد كانت الشرائع في كل عصر. وروت فرقة أن هذه الآية نزلت بسبب جدال الكفار في أم الذبائح، وقولهم للمؤمنين: تأكلون ما ذبحتم ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة، فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم بسكاكينكم؛ فنزلت الآية بسبب هذه المنازعة. وقد مضى هذا في « الأنعام » والحمد لله. وقد تقدم في هذه السورة ما للعلماء في قوله تعالى « منسكا » [ الحج: 34 ] . وقوله: « هم ناسكوه » يعطي أن المنسك المصدر، ولو كان الموضع لقال هم ناسكون فيه. وقال الزجاج: « فلا ينازعنك في الأمر » أي فلا يجادلنك؛ ودل على هذا « وإن جادلوك » . ويقال: قد نازعوه فكيف قال فلا ينازعنك؛ فالجواب أن المعنى فلا تنازعهم أنت. نزلت الآية قبل الأمر بالقتال؛ تقول: لا يضاربنك فلان فلا تضاربه أنت؛ فيجري هذا في باب المفاعلة. ولا يقال: لا يضربنك زيد وأنت تريد لا تضرب زيدا. وقرأ أبو مجلز « فلا ينزعنك في الأمر » أي لا يستخلفنك ولا يغلبنك عن دينك. وقراءة الجماعة من المنازعة. ولفظ النهي في القراءتين للكفار، والمراد النبي صلى الله عليه وسلم. « وادع إلى ربك » أي إلى توحيده ودينه والإيمان به. « إنك لعلى هدى » أي دين. « مستقيم » أي قويم لا اعوجاج فيه.
الآيتان: 68 - 69 ( وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون، الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون )
قوله تعالى: « وإن جادلوك » أي خاصموك يا محمد؛ يريد مشركي مكة. « فقل الله أعلم بما تعملون » يريد من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم؛ عن ابن عباس. وقال مقاتل: ( هذه الآية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وهو في السماء السابعة لما رأى من آيات ربه الكبرى؛ فأوحى الله إليه ) « وإن جادلوك » بالباطل فدافعهم بقولك « الله أعلم بما تعملون » من الكفر والتكذيب؛ فأمره الله تعالى بالإعراض عن مماراتهم صيانة له عن الاشتغال بتعنتهم؛ ولا جواب لصاحب العناد. « الله يحكم بينكم يوم القيامة » يريد بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه. « فيما كنتم فيه تختلفون » يريد في خلافكم آياتي، فتعرفون حينئذ الحق من الباطل.
مسألة: في هذه الآية أدب حسن علمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا ومراء ألا يجاب ولا يناظر ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة بالسيف؛ يعني السكوت عن مخالفه والاكتفاء بقوله: « الله يحكم بينكم » .
الآية: 70 ( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير )
قوله تعالى: « ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض » أي وإذ قد علمت يا محمد هذا وأيقنت فاعلم أنه يعلم أيضا ما أنتم مختلفون فيه فهو يحكم بينكم. وقد قيل: إنه استفهام تقرير للغير. « إن ذلك في كتاب » أي ما يجري في العالم فهو مكتوب عند الله في أم الكتاب. « إن ذلك على الله يسير » أي إن الفصل بين المختلفين على يسير. وقيل: المعنى إن كتاب القلم الذي أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة على الله يسير.
الآية: 71 ( ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير )
قوله تعالى: « ويعبدون » يريد كفار قريش. « من دون الله ما لم ينزل به سلطانا » أي حجة وبرهانا. وقد تقدم في ( آل عمران ) . « وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير » .
الآية: 72 ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير )
قوله تعالى: « وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات » يعني القرآن. « تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر » أي الغضب والعبوس. « يكادون يسطون » أي يبطشون. والسطوة شدة البطش؛ يقال: سطا به يسطو إذا بطش به؛ كان ذلك بضرب أو بشتم، وسطا عليه. « بالذين يتلون عليهم آياتنا » وقال ابن عباس: ( يسطون يبسطون إليهم أيديهم ) . محمد بن كعب: أي يقعون بهم. الضحاك: أي يأخذونهم أخذا باليد، والمعنى واحد. وأصل السطو القهر. والله ذو سطوات؛ أي أخذات شديدة. « قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار » أي أكره من هذا القرآن الذي تسمعون هو النار. فكأنهم قالوا: ما الذي هو شر؛ فقيل هو النار. وقيل: أي هل أنبكم بشر مما يلحق تالي القرآن منكم هو النار؛ فيكون هذا وعيدا لهم على سطواتهم بالذين يتلون القرآن. ويجوز في « النار » الرفع والنصب والخفض؛ فالرفع على هو النار، أو هي النار. والنصب بمعنى أعني، أو على إضمار فعل مثل الثاني، أو يكون محمولا على المعنى؛ أي أعرفكم من ذلكم النار. والخفض على البدل. « وعدها الله الذين كفروا » في القيامة. « وبئس المصير » أي الموضع الذي يصيرون إليه وهو النار.