الآية: 24 ( وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد )
قوله تعالى: « وهدوا إلى الطيب من القول » أي أرشدوا إلى ذلك. قال ابن عباس: ( يريد لا إله إلا الله والحمد لله ) . وقيل: القرآن، ثم قيل: هذا في الدنيا، هدوا إلى الشهادة، وقراءة القرآن. « وهدوا إلى صراط الحميد » أي إلى صراط الله. وصراط الله: دينه وهو الإسلام. وقيل: هدوا في الآخرة إلى الطيب من القول، وهو الحمد لله؛ لأنهم يقولون غدا الحمد لله الذي هدانا لهذا، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن؛ فليس في الجنة لغو ولا كذب فما يقولونه فهو طيب القول. وقد هدوا في الجنة إلى صراط الله، إذ ليس في الجنة شيء من مخالفة أمر الله. وقيل: الطيب من القول ما يأتيهم من الله من البشارات الحسنة. « وهدوا إلى صراط الحميد » أي إلى طريق الجنة.
الآية: 25 ( إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم )
قوله تعالى: « إن الذين كفروا ويصدون » أعاد الكلام إلى مشركي العرب حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وذلك أنه لم يعلم لهم صد قبل ذلك الجمع؛ إلا أن يريد صدهم لأفراد من الناس، فقد وقع ذلك في صدر المبعث. والصد: المنع؛ أي وهم يصدون. وبهذا حسن عطف المستقبل على الماضي. وقيل: الواو زائدة « ويصدون » خبر « إن » . وهذا مفسد للمعنى المقصود، وإنما الخبر محذوف مقدر عند قوله ( والباد ) تقديره: خسروا إذا هلكوا. وجاء « ويصدون » مستقبلا إذ هو فعل يديمونه؛ كما جاء قوله تعالى: « الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله » [ الرعد: 28 ] ؛ فكأنه قال: إن الذين كفروا من شأنهم الصد. ولو قال إن الذين كفروا وصدروا لجاز. قال النحاس: وفي كتابي عن أبي إسحاق قال وجائز أن يكون - وهو الوجه - الخبر « نذقه من عذاب أليم » . قال أبو جعفر: وهذا غلط، ولست أعرف ما الوجه فيه؛ لأنه جاء بخبر « إن » جزما، وأيضا فإنه جواب الشرط، ولو كان خبر « إن » لبقي الشرط بلا جواب، ولا سيما والفعل الذي في الشرط مستقبل فلا بد له من جواب.
قوله تعالى: « والمسجد الحرام » قيل: إنه المسجد نفسه، وهو ظاهر القرآن؛ لأنه لم يذكر غيره. وقيل: الحرم كله؛ لأن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عنه عام الحديبية، فنزل خارجا عنه؛ قال الله تعالى: « وصدوكم عن المسجد الحرام » [ الفتح: 25 ] وقال: « سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام » [ الإسراء: 1 ] . وهذا صحيح، لكنه قصد هنا بالذكر المهم المقصود من ذلك. « الذي جعلناه للناس » أي للصلاة والطواف والعبادة؛ وهو كقوله تعالى: « إن أول بيت وضع للناس » [ آل عمران: 96 ] . « سواء العاكف فيه والباد » العاكف: المقيم الملازم. والبادي: أهل البادية ومن يقدم عليهم. يقول: سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك فيه الحاضر والذي يأتيه من البلاد؛ فليس أهل مكة أحق من النازح إليه. وقيل: إن المساواة إنما هي في دوره ومنازله، ليس المقيم فيها أولى من الطارئ عليها. وهذا على أن المسجد الحرام الحرم كله؛ وهذا قول مجاهد ومالك؛ رواه عنه ابن القاسم. وروي عن عمر وابن عباس وجماعة ( إلى أن القادم له النزول حيث وجد، وعلى رب المنزل أن يؤويه شاء أو أبى ) . وقال ذلك سفيان الثوري وغيره، وكذلك كان الأمر في الصدر الأول، كانت دورهم بغير أبواب حتى كثرت السرقة؛ فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر وقال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة، فتركه فاتخذ الناس الأبواب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضا أنه كان يأمر في الموسم بقلع أبواب دور مكة، حتى يدخلها الذي يقدم فينزل حيث شاء، وكانت الفساطيط تضرب في الدور. وروي عن مالك أن الدور ليست كالمسجد ولأهلها الامتناع منها والاستبداد؛ وهذا هو العمل اليوم. وقال بهذا جمهور من الأمة.
وهذا الخلاف يبنى على أصلين: أحدهما أن دور مكة هل هي ملك لأربابها أم للناس. وللخلاف سببان: أحدهما هل فتح مكة كان عنوة فتكون مغنومة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسمها وأقرها لأهلها ولمن جاء بعدهم؛ كما فعل عمر رضي الله عنه بأرض السواد وعفا لهم عن الخراج كما عفا عن سبيهم واسترقاقهم إحسانا إليهم دون سائر الكفار فتبقى على ذلك لاتباع ولا تكرى، ومن سبق إلى موضع كان أولى به. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي. أو كان فتحها صلحا - وإليه ذهب الشافعي - فتبقى ديارهم بأيديهم، وفي أملاكهم يتصرفون كيف شاؤوا. وروي عن عمر أنه اشترى دار صفوان بن أمية بأربعة آلاف وجعلها سجنا، وهو أول من حبس في السجن في الإسلام، على ما تقدم بيانه في آية المحاربين من سورة « المائدة » . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة. وكان طاوس يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة.
قلت: الصحيح ما قاله مالك؛ وعليه تدل ظواهر الأخبار الثابتة بأنها فتحت عنوة. قال أبو عبيد: ولا نعلم مكة يشبهها شيء من البلاد. وروى الدارقطني عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وزاد في رواية: وعثمان. وروي أيضا عن علقمة بن نضلة الكناني قال: كانت تدعى بيوت مكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما السوائب، لا تباع؛ من احتاج سكن ومن استغنى أسكن. وروي أيضا عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها - وقال - من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا ) . قال الدارقطني: كذا رواه أبو حنيفة مرفوعا ووهم فيه، ووهم أيضا في قوله عبيدالله بن أبي يزيد وإنما هو ابن أبي زياد القداح، والصحيح أنه موقوف، وأسند الدارقطني أيضا عن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله: ( مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها ) . وروى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله؛ ألا أبني لك بمنى بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟ فقال: ( لا، إنما هو مناخ من سبق إليه ) . وتمسك الشافعي رضي الله عنه بقوله تعالى: « الذين أخرجوا من ديارهم » الحج: 40 ] فأضافها إليهم. وقال عليه السلام يوم الفتح: ( من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) .
قرأ جمهور الناس « سواء » بالرفع، وهو على الابتداء، و « العاكف » خبره. وقيل: الخبر « سواء » وهو مقدم؛ أي العاكف فيه والبادي سواء؛ وهو قول أبي علي، والمعنى: الذي جعلناه للناس قبلة أو متعبدا العاكف فيه والبادي سواء. وقرأ حفص عن عاصم « سواء » بالنصب، وهي قراءة الأعمش. وذلك يحتمل أيضا وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولا ثانيا لجعل، ويرتفع « العاكف » به لأنه مصدر، فأعمل عمل اسم الفاعل لأنه في معنى مستو. والوجه الثاني: أن يكون حالا من الضمير في جعلناه. وقرأت فرقة « سواء » بالنصب « العاكف » بالخفض، و « البادي » عطفا على الناس، التقدير: الذي جعلناه للناس العاكف والبادي. وقراءة ابن كثير في الوقف والوصل بالياء، ووقف أبو عمرو بغير ياء ووصل بالياء. وقرأ نافع بغير ياء في الوصل والوقف. وأجمع الناس على الاستواء في نفس المسجد الحرام، واختلفوا في مكة؛ وقد ذكرناه.
قوله تعالى: « ومن يرد فيه بإلحاد بظلم » شرط، وجوابه « نذقه من عذاب أليم » . والإلحاد في اللغة: الميل؛ إلا أن الله تعالى بين أن الميل بالظلم هو المراد. واختلف في الظلم؛ فروى علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس ( « ومن يرد فيه بإلحاد بظلم » قال: الشرك ) . وقال عطاء: الشرك والقتل. وقيل: معناه صيد حمامه، وقطع شجره؛ ودخول غير محرم. وقال ابن عمر: ( كنا نتحدث أن الإلحاد فيه أن يقول الإنسان: لا والله! وبلى والله! وكلا والله! ولذلك كان له فسطاطان، أحدهما في الحل والآخر في الحرم؛ فكان إذا أراد الصلاة دخل فسطاط الحرم، وإذا أراد بعض شأنه دخل فسطاط الحل، صيانة للحرم عن قولهم كلا والله وبلى والله، حين عظم الله الذنب فيه ) . وكذلك كان لعبدالله بن عمرو بن العاص فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، وإذا أراد أن يصلي صلى في الحرم، فقيل له في ذلك فقال: إن كنا لنتحدث أن من الإلحاد في الحرم أن نقول كلا والله وبلى والله، والمعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فتكون المعصية معصيتين، إحداهما بنفس المخالفة والثانية بإسقاط حرمة البلد الحرام؛ وهكذا الأشهر الحرم سواء. وقد تقدم. وروى أبو داود عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ) . وهو قول عمر بن الخطاب. والعموم يأتي على هذا كله.
ذهب قوم من أهل التأويل منهم الضحاك وابن زيد إلى أن هذه الآية تدل على أن الإنسان يعاقب على ما ينويه من المعاصي بمكة وإن لم يعمله. وقد روي نحو ذلك عن ابن مسعود وابن عمر قالوا: لو هم رجل بقتل رجل بهذا البيت وهو ( بعدن أبين ) لعذبه الله.
قلت: هذا صحيح، وقد جاء هذا المعنى في سورة « ن والقلم » القلم: 1 ] مبينا، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى.
الباء في « بإلحاد » زائدة كزيادتها في قوله تعالى: « تنبت بالدهن » [ المؤمنون:20 ] ؛ وعليه حملوا قول الشاعر:
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أراد: نرجو الفرج. وقال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
أي رزق: وقال آخر:
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
أي ما لاقت؛ والباء زائدة، وهو كثير. وقال الفراء: سمعت أعرابيا وسألته عن شيء فقال: أرجو بذاك، أي أرجو ذاك. وقال الشاعر:
بواد يمان ينبت الشث صدرة وأسفله بالمرخ والشبهان
أي المرخ. وهو قول الأخفش، والمعنى عنده: ومن يرد فيه إلحادا بظلم. وقال الكوفيون: دخلت الباء لأن المعنى بأن يلحد، والباء مع أن تدخل وتحذف. ويجوز أن يكون التقدير: ومن برد الناس فيه بإلحاد. وهذا الإلحاد والظلم يجمع المعاصي من الكفر إلى الصغائر؛ فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه. ومن نوى سيئة ولم يعملها لم يحاسب عليها إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم. وقد ذكرناه آنفا.
الآية: 26 ( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود )
قوله تعالى: « وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت » أي واذكر إذ بوأنا لإبراهيم؛ يقال: بوأته منزلا وبوأت له. كما يقال: مكنتك ومكنت لك؛ فاللام في قوله: « لإبراهيم » صلة للتأكيد؛ كقوله: « ردف لكم » [ النمل: 72 ] ، وهذا قول الفراء. وقيل: « بوأنا لإبراهيم مكان البيت » أي أريناه أصله ليبنيه، وكان قد درس بالطوفان وغيره، فلما جاءت مدة إبراهيم عليه السلام أمره الله ببنيانه، فجاء إلى موضعه وجعل يطلب أثرا، فبعث الله ريحا فكشفت عن أساس آدم عليه السلام؛ فرتب قواعده عليه؛ حسبما تقدم بيانه في « البقرة » . وقيل: « بوأنا » نازلة منزلة فعل يتعدى باللام؛ كنحو جعلنا، أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت مبوأ. وقال الشاعر:
كم من أخ لي ماجد بوأته بيدي لحدا
« أن لا تشرك » هي مخاطبة لإبراهيم عليه السلام في قول الجمهور. وقرأ عكرمة « أن لا يشرك » بالياء، على نقل معنى القول الذي قيل له. قال أبو حاتم: ولا بد من نصب الكاف على هذه القراءة، بمعنى لئلا يشرك. وقيل: إن « أن » مخففة من الثقيلة. وقيل مفسرة. وقيل زائدة؛ مثل « فلما أن جاء البشير » [ يوسف: 96 ] . وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت؛ أي هذا كان الشرط على أبيكم ممن بعده وأنتم، فلم تفوا بل أشركتم. وقالت فرقة: الخطاب من قول « أن لا تشرك » لمحمد صلى الله عليه وسلم؛ وأمر بتطهير البيت والأذان بالحج. والجمهور على أن ذلك لإبراهيم؛ وهو الأصح. وتطهير البيت عام في الكفر والبدع وجميع الأنجاس والدماء. وقيل: عنى به التطهير عن الأوثان؛ كما قال تعالى: « فاجتنبوا الرجس من الأوثان » [ الحج: 30 ] ؛ وذلك أن جرهما والعمالقة كانت لهم أصنام في محل البيت وحوله قبل أن يبنيه إبراهيم عليه السلام. وقيل: المعنى نزه بيتي عن أن يعبد فيه صنم. وهذا أمر بإظهار التوحيد فيه. وقد مضى ما للعلماء في تنزيه المسجد الحرام وغيره من المساجد بما فيه كفاية في سورة « التوبة » . والقائمون هم المصلون. وذكر تعالى من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود.
الآية: 27 ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق )
قوله تعالى: « وأذن في الناس بالحج » قرأ جمهور الناس « وأذن » بتشديد الذال. وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن محيصن « وآذن » بتخفيف الذال ومد الألف. ابن عطية: وتصحف هذا على ابن جني، فإنه حكى عنهما « وآذن » على أنه فعل ماض، وأعرب على ذلك بأن جعله عطفا على « بوأنا » . والأذان الإعلام، وقد تقدم في « التوبة » .
لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج، قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الإبلاغ؛ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس! إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا؛ فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك! فمن أجاب يومئذ حج على قدر الإجابة؛ إن أجاب مرة فمرة، وإن أجاب مرتين فمرتين؛ وجرت التلبية على ذلك؛ قاله ابن عباس وابن جبير. وروي عن أبي الطفيل قال قال لي ابن عباس: ( أتدري ما كان أصل التلبية؟ قلت لا! قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن في الناس بالحج خفضت الجبال رؤوسها ورفعت له القرى؛ فنادى في الناس بالحج فأجابه كل شيء: لبيك اللهم لبيك ) . وقيل: إن الخطاب لإبراهيم عليه السلام تم عند قوله « السجود » ، ثم خاطب الله عز وجل محمدا عليه الصلاة والسلام فقال « وأذن في الناس بالحج » أي أعلمهم أن عليهم الحج. وقول ثالث: إن الخطاب من قوله « أن لا تشرك » مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا قول أهل النظر؛ لأن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما فيه من المخاطبة فهي له إلا أن يدل دليل قاطع على غير ذلك. وههنا دليل آخر يدل على أن المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو « أن لا تشرك بي » بالتاء، وهذا مخاطبة لمشاهد، وإبراهيم عليه السلام غائب، فالمعنى على هذا: وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت فجعلنا لك الدلائل على توحيد الله تعالى وعلى أن إبراهيم كان يعبد الله وحده. وقرأ جمهور الناس « بالحج » بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق في كل القرآن بكسرها. وقيل: إن نداء إبراهيم من جملة ما أمر به من شرائع الدين. والله أعلم.
قوله تعالى: « يأتوك رجالا وعلى كل ضامر » وعده إجابة الناس إلى حج البيت ما بين راجل وراكب، وإنما قال « يأتوك » وإن كانوا يأتون الكعبة لأن المنادي إبراهيم، فمن أتى الكعبة حاجا فكأنما أتى إبراهيم؛ لأنه أجاب نداءه، وفيه تشريف إبراهيم. ابن عطية: « رجالا » جمع راجل مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب. وقيل: الرجال جمع رجل، والرجل جمع راجل؛ مثل تجار وتجر وتاجر، وصحاب وصحب وصاحب. وقد يقال في الجمع: رجال، بالتشديد؛ مثل كافر وكفار. وقرأ ابن أبي إسحاق وعكرمة « رجالا » بضم الراء وتخفيف الجيم، وهو قليل في أبنية الجمع، ورويت عن مجاهد. وقرأ مجاهد « رجالى » على وزن فعالى؛ فهو مثل كسالى. قال النحاس: في جمع راجل خمسة أوجه، ورجالة مثل ركاب، وهو الذي روي عن عكرمة، ورجال مثل قيام، ورجلة، ورجل، ورجالة. والذي روي عن مجاهد رجالا غير معروف، والأشبه به أن يكون غير منون مثل كسالى وسكارى، ولو نون لكان على فعال، وفعال في الجمع قليل. وقدم الرجال على الركبان في الذكر لزيادة تعبهم في المشي. « وعلى كل ضامر يأتين » لأن معنى « ضامر » معنى ضوامر. قال الفراء: ويجوز « يأتي » على اللفظ. والضامر: البعير المهزول الذي أتعبه السفر؛ يقال: ضمر يضمر ضمورا؛ فوصفها الله تعالى بالمآل الذي انتهت عليه إلى مكة. وذكر سبب الضمور فقال: « يأتين من كل فج عميق » أي أثر فيها طول السفر. ورد الضمير إلى الإبل تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها؛ كما قال: « والعاديات ضبحا » [ العاديات: 1 ] في خيل الجهاد تكرمة لها حين سعت في سبيل الله.
قال بعضهم: إنما قال « رجالا » لأن الغالب خروج الرجال إلى الحج دون الإناث؛ فقول « رجالا » من قولك: هذا رجل؛ وهذا فيه بعد؛ لقوله « وعلى كل ضامر » يعني الركبان، فدخل فيه الرجال والنساء. ولما قال تعالى: « رجالا » وبدأ بهم دل ذلك على أن حج الراجل أفضل من حج الراكب. قال ابن عباس: ( ما آسى على شيء فاتني إلا أن لا أكون حججت ماشيا، فإني سمعت الله عز وجل يقول « يأتوك رجالا » ) . وقال ابن أبي نجيح: حج إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ماشيين. وقرأ أصحاب ابن مسعود « يأتون » وهي قراءة ابن أبي عبلة والضحاك، والضمير للناس.
لا خلاف في جواز. الركوب والمشي، واختلفوا في الأفضل منهما؛ فذهب مالك والشافعي في آخرين إلى أن الركوب أفضل، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكثرة النفقة ولتعظيم شعائر الحج بأهبة الركوب. وذهب غيرهم إلى أن المشي أفضل لما فيه من المشقة على النفس، ولحديث أبي سعيد قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة، وقال: ( اربطوا أوساطكم بأزركم ) ومشى خلط الهرولة؛ خرجه ابن ماجه في سننه. ولا خلاف في أن الركوب عند مالك في المناسك كلها أفضل؛ للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
استدل بعض العلماء بسقوط ذكر البحر من هذه الآية على أن فرض الحج بالبحر ساقط. قال مالك في الموازية: لا أسمع للبحر ذكرا، وهذا تأنس، لا أنه يلزم من سقوط ذكره سقوط الفرض فيه؛ وذلك أن مكة ليست في ضفة بحر فيأتيها الناس في السفن؛ ولابد لمن ركب البحر أن يصير في إتيان مكة إما راجلا وإما على ضامر؛ فإنما ذكرت حالتا الوصول؛ وإسقاط فرض الحج بمجرد البحر ليس بالكثير ولا بالقوي. فأما إذا اقترن به عدو وخوف أو هول شديد أو مرض يلحق شخصا، فمالك والشافعي وجمهور الناس على سقوط الوجوب بهذه الأعذار، وأنه ليس بسبيل يستطاع. قال ابن عطية: وذكر صاحب الاستظهار في هذا المعنى كلاما. ظاهره أن الوجوب لا يسقط بشيء من هذه الأعذار؛ وهذا ضعيف.
قلت: وأضعف من ضعيف، وقد مضى في « البقرة » بيانه. والفج: الطريق الواسعة، والجمع فجاج. وقد مضى في « الأنبياء » . والعميق معناه البعيد. وقراءة الجماعة « يأتين » . وقرأ أصحاب عبدالله « يأتون » وهذا للركبان و « يأتين » للجمال؛ كأنه قال: وعلى إبل ضامرة يأتين « من كل فج عميق » أي بعيد؛ ومنه بئر عميقة أي بعيدة القعر؛ ومنه:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
واختلفوا في الواصل إلى البيت، هل يرفع يديه عند رؤيته أم لا؛ فروى أبو داود قال: سئل جابر بن عبدالله عن الرجل يرى البيت ويرفع يديه فقال: ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نكن نفعله. وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ترفع الأيدي في سبع مواطن افتتاح الصلاة واستقبال البيت والصفا والمروة والموقفين والجمرتين ) . وإلى حديث ابن عباس هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق وضعفوا حديث جابر؛ لأن مهاجرا المكي راوية مجهول. وكان ابن عمر يرفع يديه عند رؤية البيت. وعن ابن عباس مثله.
الآيتان: 28 - 29 ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير، ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق )
قوله تعالى: « ليشهدوا » أي أذن بالحج يأتوك رجالا وركبانا ليشهدوا؛ أي ليحضروا. والشهود الحضور. « منافع لهم » أي المناسك، كعرفات والمشعر الحرام. وقيل المغفرة. وقيل التجارة. وقيل هو عموم؛ أي ليحضروا منافع لهم، أي ما يرضي الله تعالى من أمر الدنيا والآخرة؛ قال مجاهد وعطاء واختاره ابن العربي؛ فإنه يجمع ذلك كله من نسك وتجارة ومغفرة ومنفعة دنيا وأخرى. ولا خلاف في أن المراد بقوله: « ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم » [ البقرة: 198 ] التجارة. « ويذكروا اسم الله في أيام معلومات » قد مضى في « البقرة » الكلام في الأيام المعلومات والمعدودات. والمراد بذكر اسم الله ذكر التسمية عند الذبح والنحر؛ مثل قولك: باسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك. ومثل قولك عند الذبح « إن صلاتي ونسكي » [ الأنعام:162 ] الآية. وكان الكفار يذبحون على أسماء أصنامهم، فبين الرب أن الواجب الذبح على اسم الله؛ وقد مضى في « الأنعام » .
واختلف العلماء في وقت الذبح يوم النحر؛ فقال مالك رضي الله عنه: بعد صلاة الإمام وذبحه؛ إلا أن يؤخر تأخيرا يتعدى فيه فيسقط الاقتداء به. وراعى أبو حنيفة الفراغ من الصلاة دون ذبح. والشافعي دخول وقت الصلاة ومقدار ما توقع فيه الخطبتين؛ فاعتبر الوقت دون الصلاة، هذه رواية المزني عنه، وهو قول الطبري. وذكر الربيع عن البويطي قال قال الشافعي: ولا يذبح أحد حتى يذبح الإمام إلا أن يكون ممن لا يذبح، فإذا صلى وفرغ من الخطبة حل الذبح. وهذا كقول مالك. وقال أحمد: إذا انصرف الإمام فاذبح. وهو قول إبراهيم. وأصح هذه الأقوال قول مالك؛ لحديث جابر بن عبدالله قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم خرجه مسلم والترمذي وقال: وفي الباب عن جابر وجندب وأنس وعويمر بن أشقر وابن عمر وأبي زيد الأنصاري، وهذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم ألا يضحى بالمصر حتى يصلي الإمام. وقد احتج أبو حنيفة بحديث البراء، وفيه: ( ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين ) . خرجه مسلم أيضا. فعلق الذبح على الصلاة ولم يذكر الذبح، وحديث جابر يقيده. وكذلك حديث البراء أيضا، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ) الحديث. وقال أبو عمر بن عبدالبر: لا أعلم خلافا بين العلماء أن من ذبح قبل الصلاة وكان من أهل المصر أنه غير مضح؛ لقوله عليه السلام: ( من ذبح قبل الصلاة فتلك شاة لحم ) .
وأما أهل البوادي ومن لا أمام له فمشهور مذهب مالك يتحرى وقت ذبح الإمام، أو أقرب الأئمة إليه. وقال ربيعة وعطاء فيمن لا إمام له: إن ذبح قبل طلوع الشمس لم يجزه، ويجزيه إن ذبح بعده. وقال أهل الرأي: يجزيهم من بعد الفجر. وهو قول ابن المبارك، ذكره عنه الترمذي. وتمسكوا بقوله تعالى: « ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام » ، فأضاف النحر إلى اليوم. وهل اليوم من طلوع الفجر أو من طلوع الشمس، قولان. ولا خلاف أنه لا يجزى ذبح الأضحية قبل طلوع الفجر من يوم النحر.
واختلفوا كم أيام النحر؟ فقال مالك: ثلاثة، يوم النحر ويومان بعده. وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل، وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك من غير اختلاف عنهما. وقال الشافعي: أربعة، يوم النحر وثلاثة بعده. وبه قال الأوزاعي، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وروي عنهم أيضا مثل قول مالك وأحمد. وقيل: ( هو يوم النحر خاصة وهو العاشر من ذي الحجة ) ؛ وروي عن ابن سيرين. وعن سعيد بن جبير وجابر بن زيد أنهما قالا: النحر في الأمصار يوم واحد وفي منى ثلاثة أيام. وعن الحسن البصري في ذلك ثلاث روايات: إحداها كما قال مالك، والثانية كما قال الشافعي، والثالثة إلى آخر يوم من ذي الحجة؛ فإذا أهل هلال المحرم فلا أضحى.
قلت: وهو قول سليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبدالرحمن، ورويا حديثا مرسلا مرفوعا خرجه الدارقطني: الضحايا إلى هلال ذي الحجة؛ ولم يصح، ودليلنا قوله تعالى: « في أيام معلومات » الآية، وهذا جمع قلة؛ لكن المتيقن منه الثلاثة، وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به. قال أبو عمر بن عبدالبر: أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم أضحى، وأجمعوا أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان: أحدهما: قول مالك والكوفيين. والآخر: قول الشافعي والشاميين؛ وهذان القولان مرويان عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما؛ لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ولا في قول الصحابة، وما خرج عن هذين فمتروك لهما. وقد روي عن قتادة قول سادس، وهو أن الأضحى يوم النحر وستة أيام بعده؛ وهذا أيضا خارج عن قول الصحابة فلا معنى له. واختلفوا في ليالي النحر هل تدخل مع الأيام فيجوز فيها الذبح أولا؛ فروي عن مالك في المشهور أنها لا تدخل فلا يجوز الذبح بالليل. وعليه جمهور أصحابه وأصحاب الرأي؛ لقوله تعالى: « ويذكروا اسم الله في أيام » فذكر الأيام، وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: الليالي داخلة في الأيام ويجزى الذبح فيها. وروي عن مالك وأشهب نحوه، ولأشهب تفريق بين الهدي والضحية، فأجاز الهدي ليلا ولم يجز الضحية ليلا. قوله تعالى: « على ما رزقهم » أي على ذبح ما رزقهم. « من بهيمة الأنعام » والأنعام هنا الإبل والبقر والغنم. وبهيمة الأنعام هي الأنعام، فهو كقولك صلاة الأولى، ومسجد الجامع.
قوله تعالى: « فكلوا منها » أمر معناه الندب عند الجمهور. ويستحب للرجل أن يأكل من هديه وأضحيته وأن يتصدق بالأكثر، مع تجويزهم الصدقة بالكل وأكل الكل. وشذت طائفة فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية. ولقول عليه السلام: ( فكلوا وادخروا وتصدقوا ) . قال الكيا: قوله تعالى: « فكلوا منها وأطعموا » يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ولا التصدق بجميعه.
دماء الكفارات لا يأكل منها أصحابها. ومشهور مذهب مالك رضي الله عنه أنه لا يأكل من ثلاث: جزاء الصيد، ونذر المساكين وفدية الأذى، ويأكل مما سوى ذلك إذا بلغ محله واجبا كان أو تطوعا، ووافقه على ذلك جماعة من السلف وفقهاء الأمصار.
فإن أكل مما منع منه فهل يغرم قدر ما أكل أو يغرم هديا كاملا؛ قولان في مذهبنا، وبالأول قال ابن الماجشون. قال ابن العربي: وهو الحق، لا شيء عليه غيره. وكذلك لو نذر هديا للمساكين فيأكل منه بعد أن بلغ محله لا يغرم إلا ما أكل - خلافا للمدونة - لأن النحر قد وقع، والتعدي إنما هو على اللحم، فيغرم قدر ما تعدى فيه.
قوله تعالى: « وليوفوا نذورهم » يدل على وجوب إخراج النذر إن كان دما أو هديا أو غيره، ويدل ذلك على أن النذر لا يجوز أن يأكل منه وفاء بالنذر، وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى؛ لأن المطلوب أن يأتي به كاملا من غير نقص لحم ولا غيره، فإن أكل من ذلك كان عليه هدي كامل. والله أعلم.
هل يغرم قيمة اللحم أو يغرم طعاما؛ ففي كتاب محمد عن عبدالملك أنه يغرم طعاما. والأول أصح؛ لأن الطعام إنما هو في مقابلة الهدي كله عند تعذره عبادة، وليس حكم التعدي حكم العبادة.
فإن عطب من هذا الهدي المضمون الذي هو جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين شيء قبل محله أكل منه صاحبه وأطعم منه الأغنياء والفقراء ومن أحب، ولا يبيع من لحمه ولا جلده ولا من قلائده شيئا. قال إسماعيل بن إسحاق: لأن الهدي المضمون إذا عطب قبل أن يبلغ محله كان عليه بدله، ولذلك جاز أن يأكل منه صاحبه ويطعم. فإذا عطب الهدي التطوع قبل أن يبلغ محله لم يجز أن يأكل منه ولا يطعم؛ لأنه لما لم يكن عليه بدله خيف أن يفعل ذلك بالهدي وينحر من غير أن يعطب، فاحتيط على الناس، وبذلك مضى العمل. وروى أبو داود عن ناجية الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معه بهدي وقال: ( إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين الناس ) . وبهذا الحديث قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن اتبعهم في الهدي التطوع: لا يأكل منها سائقها شيئا، ويخلى بينها وبين الناس يأكلونها. وفي صحيح مسلم: ( ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك ) . وبظاهر هذا النهي قال ابن عباس والشافعي في قوله الآخر، واختاره ابن المنذر، فقالا: لا يأكل منها ولا أحد من أهل رفقته. قال أبو عمر: قوله عليه السلام ( ولا يأكل منها أحد ولا أحد من أهل رفقتك ) لا يوجد إلا في حديث ابن عباس. وليس ذلك في حديث هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية. وهو عندنا أصح من حديث ابن عباس، وعليه العمل عند الفقهاء. ويدخل في قوله عليه السلام: ( خل بينها وبين الناس ) أهل رفقته وغيرهم. وقال الشافعي وأبو ثور: ما كان من الهدي أصله واجبا فلا يأكل منه، وما كان تطوعا ونسكا أكل منه وأهدى وادخر وتصدق. والمتعة والقرآن عنده نسك. ونحوه مذهب الأوزاعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يأكل من هدي المتعة والتطوع، ولا يأكل مما سوى ذلك مما وجب بحكم الإحرام. وحكي عن مالك: لا يأكل من دم الفساد. وعلى قياس هذا لا يأكل من دم الجبر؛ كقول الشافعي والأوزاعي. تمسك مالك بأن جزاء الصيد جعله الله للمساكين بقوله تعالى: « أو كفارة طعام مساكين » [ المائدة: 95 ] . وقال في فدية الأذى: « ففدية من صيام أو صدقة أو نسك » [ البقرة: 196 ] . وقال صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: ( أطعم ستة مساكين مدين لكل مسكين أو صم ثلاثة أيام أو انسك شاة ) . ونذر المساكين مصرح به، وأما غير ذلك من الهدايا فهو باق على أصل قوله: « والبدن جعلناها لكم من شعائر الله » إلى قوله « فكلوا منها » [ الحج: 36 ] . وقد أكل النبي صلى الله عليه وسلم وعلي رضي الله عنه من الهدي الذي جاء به وشربا من مرقه. وكان عليه السلام قارنا في أصح الأقوال والروايات؛ فكان هديه على هذا واجبا، فما تعلق به أبو حنيفة غير صحيح. والله أعلم. وإنما أذن الله سبحانه من الأكل من الهدايا لأجل أن العرب كانت لا ترى أن تأكل من نسكها، فأمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم؛ فلا جرم كذلك شرع وبلغ، وكذلك فعل حين أهدى وأحرم صلى الله عليه وسلم.
« فكلوا منها » قال بعض العلماء: قوله تعالى: « فكلوا منها » ناسخ لفعلهم، لأنهم كانوا يحرمون لحوم الضحايا على أنفسهم ولا يأكلون منها - كما قلناه في الهدايا - فنسخ الله ذلك بقوله: « فكلوا منها » وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ضحى فليأكل من أضحيته ) ولأنه عليه السلام أكل من أضحيته وهديه. وقال الزهري: من السنة أن تأكل أولا من الكبد.
ذهب أكثر العلماء إلى أنه يستحب أن يتصدق بالثلث ويطعم الثلث ويأكل هو وأهله الثلث. وقال ابن القاسم عن مالك: ليس عندنا في الضحايا قسم معلوم موصوف. قال مالك في حديثه: وبلغني عن ابن مسعود، وليس عليه العمل. روى الصحيح وأبو داود قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة ثم قال: ( يا ثوبان، أصلح لحم هذه الشاة ) قال: فما زلت أطعمه منها حتى قدم المدينة. وهذا نص في الفرض. واختلف قول الشافعي؛ فمرة قال: يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله تعالى: « فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير » فذكر شخصين. وقال مرة: يأكل ثلثا ويهدي ثلثا ويطعم ثلثا، لقوله تعالى: « فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر » [ الحج: 36 ] فذكر ثلاثة.
المسافر يخاطب بالأضحية كما يخاطب بها الحاضر؛ إذ الأصل عموم الخطاب بها، وهو قول كافة العلماء. وخالف في ذلك أبو حنيفة والنخعي، وروي عن علي؛ والحديث حجة عليهم. واستثنى مالك من المسافرين الحاج بمنى، فلم ير عليه أضحية، وبه قال النخعي. وروي ذلك عن الخليفتين أبي بكر وعمر وجماعة من السلف رضي الله عنهم؛ لأن الحاج إنما هو مخاطب في الأصل بالهدي. فإذا أراد أن يضحي جعله هديا، والناس غير الحاج إنما أمروا بالأضحية ليتشبهوا بأهل منى فيحصل لهم حظ من أجرهم.
اختلف العلماء في الادخار على أربعة أقوال. روي عن علي وابن عمر رضي الله عنهما من وجه صحيح أنه لا يدخر من الضحايا بعد ثلاث. وروياه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي. وقالت جماعة: ما روي من النهي عن الادخار منسوخ؛ فيدخر إلى أي وقت أحب. وبه قال أبو سعيد الخدري وبريدة الأسلمي، وقالت فرقة: يجوز الأكل منها مطلعا. وقالت طائفة: إن كانت بالناس حاجة إليها فلا يدخر، لأن النهي إنما كان لعلة وهي قوله عليه السلام: ( إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت ) ولما ارتفعت ارتفع المنع المتقدم لارتفاع موجبه، لا لأنه منسوخ. وتنشأ هنا مسألة أصولية: وهي الفرق بين رفع الحكم بالنسخ ورفعه لارتفاع علته. أعلم أن المرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع لارتفاع علته يعود الحكم لعود العلة؛ فلو قدم على أهل بلدة ناس محتاجون في زمان الأضحى؛ ولم يكن عند أهل ذلك البلد سعة يسدون بها فاقتهم إلا الضحايا لتعين عليهم ألا يدخروها فوق ثلاث كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
الأحاديث الواردة في هذا الباب بالمنع والإباحة صحاح ثابتة. وقد جاء المنع والإباحة معا؛ كما هو منصوص في حديث عائشة وسلمة بن الأكوع وأبي سعيد الخدري رواها الصحيح. وروى الصحيح عن أبي عبيد مولى ابن أزهر أنه شهد العيد مع عمر بن الخطاب قال: ثم صليت العيد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ قال: فصلى لنا قبل الخطبة ثم خطب الناس فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوها. وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. قال سالم: فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث. وروى أبو داود عن نبيشة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنا كنا نهيناكم عن لحومها فوق ثلاث لكي تسعكم جاء الله بالسعة فكلوا وادخروا واتجروا إلا أن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل ) . قال أبو جعفر النحاس: وهذا القول أحسن ما قيل في هذا حتى تتفق الأحاديث ولا تضاد، ويكون قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وعثمان محصور، لأن الناس كانوا في شدة محتاجين، ففعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمت الدافة. والدليل على هذا ما حدثنا إبراهيم بن شريك قال: حدثنا أحمد قال حدثنا ليث قال حدثني الحارث بن يعقوب عن يزيد بن أبي يزيد عن امرأته أنها سألت عائشة رضي الله عنها عن لحوم الأضاحي فقالت: قدم علينا علي بن أبي طالب من سفر فقدمنا إليه منه، فأبى أن يأكل حتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله فقال: « كل من ذي الحجة إلى ذي الحجة ) . وقال الشافعي: من قال بالنهي عن الادخار بعد ثلاث لم يسمع الرخصة. ومن قال بالرخصة مطلقا لم يسمع النهي عن الادخار. ومن قال بالنهي والرخصة سمعهما جميعا فعمل بمقتضاهما. والله أعلم. وسيأتي في سورة » الكوثر « الاختلاف في وجوب الأضحية وندبيتها وأنها ناسخة لكل ذبح تقدم، إن شاء الله تعالى.»
قوله تعالى: « وأطعموا البائس الفقير » « الفقير » من صفة البائس، وهو الذي ناله البؤس وشدة الفقر؛ يقال: بئس يبأس بأسا إذا افتقر؛ فهو بائس. وقد يستعمل فيمن نزلت به نازلة دهر وإن لم يكن فقيرا؛ ومنه قوله عليه السلام: ( لكن البائس سعد بن خولة ) . ويقال: رجل بئيس أي شديد. وقد بؤس يبؤس بأسا إذ اشتد؛ ومنه قوله تعالى: « وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس » [ الأعراف: 165 ] أي شديد. وكلما كان التصدق بلحم الأضحية أكثر كان الأجر أوفر. وفي القدر الذي يجوز أكله خلاف قد ذكرناه؛ فقيل النصف؛ لقوله: « فكلوا » ، « وأطعموا » وقيل الثلثان؛ لقوله: ( ألا فكلوا وادخروا واتجروا ) أي اطلبوا الأجر بالإطعام. واختلف في الأكل والإطعام؛ فقيل واجبان. وقيل مستحبان. وقيل بالفرق بين الأكل والإطعام؛ فالأكل مستحب والإطعام واجب؛ وهو قول الشافعي.
قوله تعالى: « ثم ليقضوا تفثهم » أي ثم ليقضوا بعد نحر الضحايا والهدايا ما بقي عليهم من أمر الحج؛ كالحلق ورمي الجمار وإزالة شعث ونحوه. قال ابن عرفة: أي ليزيلوا عنهم أدرانهم. وقال الأزهري: التفث الأخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة؛ وهذا عند الخروج من الإحرام. وقال النضر بن شميل: التفث في كلام العرب إذهاب الشعث وسمعت الأزهري يقول: التفث في كلام العرب لا يعرف إلا من قول ابن عباس وأهل التفسير. وقال الحسن: ( هو إزالة قشف الإحرام. وقيل: التفث مناسك الحج كلها ) ، رواه ابن عمر وابن عباس. قال ابن العربي: لو صح عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة، قال: وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا ولا أحاطوا بها خبرا؛ لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال: إنه قص الأظفار وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح. قال: ولم يجيء فيه شعر يحتج به. وقال صاحب العين: التفث هو الرمي والحلق والتقصير والذبح وقص الأظفار والشارب والإبط. وذكر الزجاج والفراء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء. وقال قطرب: تفث الرجل إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصلت:
حفوا رؤوسهم لم يحلقوا تفثا ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا
وما أشار إليه قطرب هو الذي قال ابن وهب عن مالك، وهو الصحيح في التفث. وهذه صورة إلقاء التفث لغة، وأما حقيقته الشرعية فإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه وحلق رأسه وأزال وسخه وتطهر وتنقى ولبس فقد أزال تفثه ووفى نذره؛ والنذر ما لزم الإنسان والتزمه. قلت: ما حكاه عن قطرب وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي وذكر بيتا آخر فقال:
قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا إلى نجد وما انتظروا عليا
وقال الثعلبي: وأصل التفث في اللغة الوسخ؛ تقول العرب للرجل تستقذره: ما أتفثك؛ أي ما أوسخك وأقذرك. قال أمية بن أبي الصلت:
ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
الماوردي: قيل لبعض الصلحاء ما المعنى في شعث المحرم؟ قال: ليشهد الله تعالى منك الإعراض عن العناية بنفسك فيعلم صدقك في بذلها لطاعته.
قوله تعالى: « وليوفوا نذورهم » أمروا بوفاء النذر مطلقا إلا ما كان معصية؛ لقوله عليه السلام: ( لا وفاء لنذر في معصية الله ) ، وقوله: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه ) « وليطوفوا بالبيت العتيق » الطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج. قال الطبري: لا خلاف بين المتأولين في ذلك. للحج ثلاثة أطواف: طواف القدوم، وطواف الإفاضة، وطواف الوداع. قال إسماعيل بن إسحاق: طواف القدوم سنة، وهو ساقط عن المراهق وعن المكي وعن كل من يحرم بالحج من مكة. قال: والطواف الواجب الذي لا يسقط بوجه من الوجوه، وهو طواف الإفاضة الذي يكون بعد عرفة؛ قال الله تعالى: « ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق » . قال: فهذا هو الطواف المفترض في كتاب الله عز وجل، وهو الذي يحل به الحاج من إحرامه كله. قال الحافظ أبو عمر: ما ذكره إسماعيل في طواف الإفاضة هو قول مالك عند أهل المدينة، وهي رواية ابن وهب وابن نافع وأشهب عنه. وهو قول جمهور أهل العلم من فقهاء أهل الحجاز والعراق. وقد روى ابن القاسم وابن عبدالحكم عن مالك أن طواف القدوم واجب. وقال ابن القاسم في غير موضع من المدونة ورواه أيضا عن مالك: الطواف الواجب طواف القادم مكة. وقال: من نسي الطواف في حين دخوله مكة أو نسي شوطا منه، أو نسي السعي أو شوطا منه حتى رجع إلى بلده ثم ذكره، فإن لم يكن أصاب النساء رجع إلى مكة حتى يطوف بالبيت ويركع ويسعى بين الصفا والمروة، ثم يهدي. وإن أصاب النساء رجع فطاف وسعى، ثم اعتمر وأهدى. وهذا كقوله فيمن نسي طواف الإفاضة سواء. فعلى هذه الرواية الطوافان جميعا واجبان، والسعي أيضا. وأما طواف الصدر وهو المسمى بطواف الوداع فروى ابن القاسم وغيره عن مالك فيمن طاف طواف الإفاضة على غير وضوء: أنه يرجع من بلده فيفيض إلا أن يكون تطوع بعد ذلك. وهذا مما أجمع عليه مالك وأصحابه، وأنه يجزيه تطوعه عن الواجب المفترض عليه من طوافه. وكذلك أجمعوا أن من فعل في حجه شيئا تطوع به من عمل الحج، وذلك الشيء واجب في الحج قد جاز وقته، فإن تطوعه ذلك يصير للواجب لا للتطوع؛ بخلاف الصلاة. فإذا كان التطوع ينوب عن الفرض في الحج كان الطواف لدخول مكة أحرى أن ينوب عن طواف الإفاضة، إلا ما كان من الطواف بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر أو بعده للوداع. ورواية ابن عبدالحكم عن مالك بخلاف ذلك؛ لأن فيها أن طواف الدخول مع السعي ينوب عن طواف الإفاضة لمن رجع إلى بلده مع الهدي، كما ينوب طواف الإفاضة مع السعي لمن لم يطف ولم يسع حين دخوله مكة مع الهدي أيضا عن طواف القدوم. ومن قال هذا قال: إنما قيل لطواف الدخول واجب ولطواف الإفاضة واجب لأن بعضهما ينوب عن بعض، ولأنه قد روي عن مالك أنه يرجع من نسي أحدهما من بلده على ما ذكرنا، ولأن الله عز وجل لم يفترض على الحاج إلا طوافا واحدا بقوله: « وأذن في الناس بالحج » ، وقال في سياق الآية: « وليطوفوا بالبيت العتيق » والواو عندهم في هذه الآية وغيرها لا توجب رتبة إلا بتوقيف. وأسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى: « وليطوفوا بالبيت العتيق » فقال: هو طواف الوداع. وهذا يدل على أنه واجب، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأنه عليه السلام رخص للحائض أن تنفر دون أن تطوفه، ولا يرخص إلا في الواجب.
اختلف المتأولون في وجه صفة البيت بالعتيق؛ فقال مجاهد والحسن: العتيق القديم. يقال: سيف عتيق، وقد عتق أي قدم؛ وهذا قول يعضده النظر. وفي الصحيح ( أنه أول مسجد وضع في الأرض ) . وقيل عتيقا لأن الله أعتقه من أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان؛ قال معناه ابن الزبير مجاهد. وفي الترمذي عن عبدالله بن الزبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار ) قال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. فإن ذكر ذاكر الحجاج بن يوسف ونصبه المنجنيق على الكعبة حتى كسرها قيل له: إنما أعتقها عن كفار الجبابرة؛ لأنهم إذا أتوا بأنفسهم متمردين ولحرمة البيت غير معتقدين، وقصدوا الكعبة بالسوء فعصمت منهم ولم تنلها أيديهم، كان ذلك دلالة على أن الله عز وجل صرفهم عنها قسرا. فأما المسلمون الذين اعتقدوا حرمتها فإنهم إن كفوا عنها لم يكن في ذلك من الدلالة على منزلتها عند الله مثل ما يكون منها في كف الأعداء؛ فقصر الله تعالى هذه الطائفة عن الكف بالنهي والوعيد، ولم يتجاوزه إلى الصرف بالإلجاء والاضطرار، وجعل الساعة موعدهم، والساعة أدهى وأمر. وقالت طائفة: سمي عتيقا لأنه لم يملك موضعه قط. وقالت فرقة: سمي عتيقا لأن الله عز وجل يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب. وقيل: سمي عتيقا لأنه أعتق من غرق الطوفان؛ قال ابن جبير. وقيل: العتيق الكريم. والعتق الكرم. قال طرفة يصف أذن الفرس:
مؤللتان تعرف العتق فيهما كسامعتي مذعورة وسط ربرب
وعتق الرقيق: الخروج من ذل الرق إلى كرم الحرية. ويحتمل أن يكون العتيق صفة مدح تقتضي جودة الشيء؛ كما قال عمر: حملت على فرس عتيق؛ الحديث. والقول الأول أصح للنظر والحديث الصحيح. قال مجاهد: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي عام، وسمي عتيقا لهذا؛ والله أعلم.
الآية [ 30 ] في الصفحة التالية ...