لآيتان: 64 - 65 ( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا، رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا )
روى الترمذي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل ( ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ) قال: فنزلت هذه الآية: « وما نتنزل إلا بأمر ربك » إلى آخر الآية. قال هذا حديث حسن غريب ورواه البخاري حدثنا خلال بن يحيى حدثنا عمر بن ذر قال سمعت أبي يحدث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل ( ما يمنعك أن مزورنا أكثر مما تزرونا فنزلت « وما نتنزل إلا بأمر ربك » الآية؛ قال كان هذا الجواب لمحمد صلى وقال مجاهد أبطأ الملك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاه فقال: ( ما الذي أبطأك ) قال: كيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تأخذون من شواربكم، ولا تنقون رواجبكم، ولا تستاكون؛ قال مجاهد: فنزلت الآية في هذا وقال مجاهد أيضا وقتادة وعكرمة والضحاك ومقاتل والكلبي أحتبس جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأل قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ولم يدر ما يجيبهم ورجا أن يأتيه جبريل بجواب ما سألوه عنه قال عكرمة فأبطأ عليه أربعين يوم وقال مجاهد اثنتي عشرة ليلة وقيل خمسة عشر يوما وقيل ثلاثة عشر وقيل ثلاثة أيام فقال النبي صلي ( أبطأت علي حتى ساء ظني واشتقت إليك ) فقال جبريل عليه السلام إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست فنزلت الآية ( وما نتنزل إلا بأمر ربك ) وأنزل ( والضحى والليل إذا سجى وما ودعك ربك وما قلى ) ذكره الثعلبي والواحدي والقشيري وغيرهم وقيل هو إخبار من أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها وما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر ربك وعلى هذا تكون الآية متصلة به قبل وعلى ما ذكرنا من الأقوال قبل: تكون غير متصلة بما قبلها والقرآن سور ثم السور تشتمل على جمل، وقد تنفصل جملة عن جملة « وما نتنزل » أي قال الله تعالى قل يا جبريل « وما نتنزل إلا بأمر ربك » وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: إنا إذا أمرنا نزلنا عليك الثاني إذا أمرك ربك نزلنا عليك فيكون الأمر على الأول متوجها إلى النزول وعلى الوجه الثاني متوجها إلى التنزيل.
قوله تعالى: « له » أي لله « ما بين أيدينا » أي علم ما بين أيدينا « وما خلفنا وما بين ذلك » قال ابن عباس وابن جريج: ما مضى أمامنا من أمر الدنيا، وما يكون بعدنا من أمرها وأمر الآخرة « وما بين ذلك » من البرزخ. وقال قتادة ومقاتل: « له ما بين أيدينا » من أمر الآخرة « وما خلفنا » ما مضى من الدنيا « وما بين ذلك » ما بين النفختين وبينهما أربعون سنة. الأخفش: « ما بين أيدينا » ما كان قبل أن نخلق « وما خلفنا » ما يكون بعد أن نموت « وما بين ذلك » ما يكون منذ خلقنا إلى أن نموت. وقيل: « ما بين أيدينا » من الثواب والعقاب وأمور الآخرة « وما خلفنا » ما مضى من أعمالنا في الدنيا ( وما بين ذلك ) أي ما يكون من هذا الوقت إلى يوم القيامة ويحتمل خامسا « ما بين أيدينا » السماء « وما خلفنا » الأرض « و بين ذلك » أي ما بين السماء والأرض وقال ابن عباس في رواية « و ما بين أيدينا » يريد الدنيا إلى الأرض « وما خلفنا » يريد السموات وهذا على عكس ما قبله « ما بين ذلك » يريد الهواء ذكر الأول الماوردي والثاني القشيري الزمخشري: وقيل ما مضى من أعمارنا وما عبر منها والحال التي نحن فيها ولم يقل ما بين ذينك لأن المراد ما بين ما ذكرنا كما قال « لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك » أي بين ما ذكرنا « وما كان ربك نسيا » أي ناسيا إذا شاء أن يرسل إليك أرسل وقيل المعنى لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي وقيل المعنى أنه عالم بجميع الأشياء متقدمها ومتأخرها ولا ينسى شيئا منها.
قوله تعالى: « رب السماوات والأرض وما بينهما » أي ربهما وخالقهما وخالق ما بينهما ومالكهما ومالك ما بينهما؛ فكما إليه تدبير الأزمان كذلك إليه تدبير الأعيان. « فاعبده »
أي وحده لذلك وفي هذا دلالة على أن اكتسابات الخلق مفعولة لله تعالى كما يقول أهل الحق وهو القول الحق لأن الرب في هذا الموضوع لا يمكن حمله على معنى من معانيه إلا على المالك وإذا ثبت أنه مالك ما بين السماء والأرض دخل في ذلك اكتساب الخلق ووجبت عبادته لما ثبت أنه المالك على الإطلاق وحقيقة العبادة الطاعة بغاية الخضوع ولا يستحقها أحد سوى المالك المعبود « واصطبر لعبادته » أي لطاعته ولا تحزن لتأخير الوحي عنك بل اشتغل بما أمرت به وأصل اصطبر اصتبر فثقل الجمع بين التاء والصاد لاختلافهما فأبدل من التاء طاء كما تقول من الصوم صطام « هل تعلم له سميا » قال ابن عباس يريد هل تعلم له ولدا أي نظيرا أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن وقال مجاهد مأخوذ من المساماة وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال ( هل تعلم له ولدا أي نظيرا أو مثلا أو شبيها يستحق مثل اسمه الذي هو الرحمن ) وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: ( هل تعلم له أحدا سمي الرحمن ) . قال النحاس وهذا أجل إسناد علمته روي في هذا الحرف وهو قول صحيح ولا يقال الرحمن إلا لله
قلت وقد مضى هذا مبينا في البسملة والحمد لله روى ابن أبي نجيح عن مجاهد ( هل تعلم له سميا ) قال مثلا ابن المسيب عدلا قتادة والكلبي هل تعلم أحدا يسمى الله تعالى غير الله أو يقال له الله إلا الله وهل لا أي لا تعلم والله تعالى أعلم.
الآيتان: 66 - 67 ( ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا، أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا )
قوله تعالى: « ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا » الإنسان هنا أبي بن خلف وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال: زعم محمد أنا نبعث بعد الموت قال الكلبي ذكره الواحدي والثعلبي والقشيري وقال المهدوي نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه وهو قول ابن عباس واللام في « لسوف أخرج حيا » للتأكيد كأنه قيل له إذا ما مت لسوف تبعث حيا فقال « أئذا ما مت لسوف أخرج حيا » ! قال ذلك منكرا فجاءت اللام في الجواب هما كانت في القول الأول ولو كان مبتدئا لم تدخل اللام لأنها للتأكيد والإيجاب وهو منكر للبعث وقرا ابن ذكوان « إذا ما مت » على الخبر والباقون بالاستفهام على أصولهم بالهمز وقرأ الحسن وأبو حيوة « لسوف اخرج حيا » قال استهزاء لأنهم لا يصدقون بالبعث والإنسان ههنا الكافر
قوله تعالى: « أولا يذكر الإنسان » أي أو لا يذكر هذا القائل « أنا خلقناه من قبل » أي من قبل سؤاله وقوله هذا القول « ولم يك شيئا » فالإعادة مثل الابتداء فلم يناقض وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما وأهل مكة وأبو عمر وأبو جعفر « أولا يذكر » وقرأ شيبه ونافع وعاصم « أو لا يذكر » بالتخفيف. والاختيار التشديد وأصله يتذكر لقوله تعالى « إنما يتذكر أولو الألباب » وأخواتها وفي حرف أبي « أولا يتذكر » وهذه القراءة على التفسير لأنها مخالفة لخط المصحف: ومعنى « يتذكر » يتفكر ومعنى « يذكر » يتنبه ويعلم قال النحاس
الآيات: 68 - 70 ( فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا، ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا، ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا )
قوله تعالى: « فوربك لنحشرنهم » أقسم بنفسه بعد إقامة الحجة بأنه يحشرهم من قبورهم إلى المعاد كما يحشر المؤمنين. « والشياطين » أي ولنحشرن الشياطين قرناء لهم قيل يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة كما قال « احشروا الذين ظلموا وأزواجهم » [ الصافات: 22 ] الزمخشري والواو في « والشياطين » يجوز أن تكون للعطف وبمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذي أغووهم؛ يقرنون كل كافر مع شيطان في سلسلة. فإن قلت هذا إذا أريد بالإنسان الكفرة خاصة فإن أريد الأناسي على العموم فكيف يستقيم حشرهم مع الشياطين؟ قلت إذا حشر جميع الناس حشرا واحدا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين كما حشروا مع الكفرة فإن قلت هلا عزل السعداء عن الأشقياء في الحشر كما عزلوا عنهم في الجزاء؟ قلت لم يفرق بينهم في المحشر وأحضروا حيث تجاثوا حول جهنم وأوردوا معهم النار ليشاهد السعداء الأحوال التي نجاهم الله منها وخلصهم، فيزدادوا لذلك غبطة وسرورا إلى سرور ويشمتوا بأعداء الله تعالى وأعدائهم فتزداد مساءتهم وحسرتهم وما يغيظهم من سعادة أولياء الله وشماتتهم بهم فإن قلت ما معنى إحضارهم جثيا؟ قلت أما إذا فسر الإنسان بالخصوص فالمعنى أنهم يعتلون من المحشر إلى شاطئ جهنم علا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم وذلك أن أهل الموقف وصفوا بالجثو قال الله تعالى « وترى كل أمة جاثية » على الحالة المعهودة في مواقف المقاولات والمناقلات من تجاثي أهلها على الركب لما في ذلك من الاستيفاز والقلق وإطلاق الحبا خلاف الطمأنينة أولما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على أرجلهم فيجسون على ركبهم جثوا وإن فسر بالعموم فالمعنى أنهم يتجاثون عند موافاة شاطئ جهنم أن « جثيا » حال مقدرة كما كانوا في الموقف متجاثين لأنه من توابع التواقف للحساب، قبل التواصل إلى الثواب والعقاب ويقال: إن معنى « ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا » أي جثيا على ركبهم عن مجاهد وقتادة أي أنهم لشدة ما هم فيه لا يقدرون على القيام « وحول جهنم » يجوز أن يكون داخلها كما تقول: جلس القوم حول البيت أي داخله مطيفين به فقوله ( حول جهنم ) على هذا يجوز أن يكون بعد الدخول ويجوز أن يكون قبل الدخول و « جثيا » جمع جاث. يقال جثا على ركبتيه يجثو ويجثي جثوا وجثيا على فعول فيهما وأجثاه غيره وقوم جثي أيضا مثل جلس جلوسا وقوم جلوس وجثي أيضا بكسر الجيم لما بعدها من الكسر وقال ابن عباس: « جثيا » جماعات وقال مقاتل: جمعا جمعا وهو على هذا التأويل جمع وجثوة ثلاث لغات وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع فأهل الخمر على حدة وأهل الزنى على حدة وهكذا قال طرفة:
ترى جثوتين من تراب عليها صفائح صم من صفيح منضد
وقال الحسن والضحاك جاثية الركب وهو على هذا التأويل جمع جاث على ما تقدم وذلك لضيق المكان أي لا يمكنهم أن يجلسوا جلوسا تاما وقيل جثيا على ركبهم للتخاصم كقوله تعالى « ثم إنكم يوم لقيامة عند ربكم تختصمون » وقال الكميت:
هم تركوا سراتهم جثيا وهم دون السراة مقرنينا
قوله تعالى: « ثم لننزعن من كل شيعة » أي لنستخرجن من كل أمة وأهل دين. « أيهم أشد على الرحمن عتيا » النحاس: وهذه آية مشكلة في الإعراب لأن القراء كلهم يقرؤون « أيهم » بالرفع إلا هارون القارئ الأعور فإن سيبويه حكى عنه « ثم لننزعن من كل شيعة أيهم » بالنصب أوقع على أيهم لننزعن. قال أبو إسحاق في رفع « أيهم » ثلاثة أقوال؛ قال الخليل بن أحمد حكاه عنه سيبويه: إنه مرفوع على الحكاية والمعنى ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال من أجل عتوه أيهم أشد على الرحمن عتيا وأنشد الخليل فقال:
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له لا هو حرج ولا محروم. وقال أبو جعفر النحاس: ورأيت أبا إسحاق يختار هذا القول ويستحسنه قال لأنه معنى قول أهل التفسير وزعم أن معنى « ثم لننزعن من كل شيعة » ثم لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى. كأنه يبتدأ بالتعذيب بأشدهم عتيا ثم الذي يليه وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية. وقال يونس: « لننزعن » بمنزلة الأفعال التي تلغى ورفع « أيهم » على الابتداء المهدوي والفعل هو « لننزعن » عند يونس معلق قال أبو علي: معنى ذلك أنه يعمل في موضع « أيهم أشد » لا أنه ملغى. ولا يلعق عند الخليل وسيبويه مثل « لننزعن » إنما يعلق بأفعال الشك وشبهها ما لم يتحقق وقوعه وقال سيبويه: « أيهم » مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف؛ لأنك لو قلت: رأيت الذي أفضل ومن أفضل كان قبيحا، حتى تقول من هو أفضل، والحذف في « أيهم » جائز. قال أبو جعفر: وما علمت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذا وسمعت أبا إسحاق يقول: ما يبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما؛ قال وقد علمنا أن سيبويه أعرب أيا وهى مفردة لأنها تضاف، فكيف يبنيها وهي مضافة؟ ! ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال أبو علي إنما وجب البناء على مذهب سيبويه لأنه حذف منه ما يتعرف به وهو الضمير مع افتقار إليه كما حذف في « من قبل ومن بعد » ما يتعرفان به مع افتقار المضاف إلى المضاف إليه لأن الصلة تبين الموصول وتوضحه كما أن المضاف إليه يبين المضاف ويخصصه قال أبو جعفر وفيه أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة التي ذكرها أبو إسحاق قال الكسائي « لننزعن » واقعة على المعنى كما تقول لبست من الثياب وأكلت من الطعام، ولم يقع « لننزعن » على « أيهم » فينصبها. زاد المهدوي: وإنما الفعل عنده واقع على موضع « من كل شيعة » وقوله: « أيهم أشد » جملة مستأنفة مرتفعة بالابتداء ولا يرى سيبويه زيادة « من » في الواجب وقال الفراء المعنى ثم لننزعن بالنداء ومعنى « لننزعن » لننادين المهدى ونادى فمل يعلق إذا كان بعده جملة كظننت فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ قال أبو جعفر وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في « أيهم » معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها والمعنى ثم لننزعن من كل فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا كما تقول ضربت القوم أيهم غضب والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو جعفر فهذه ستة أقوال وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال « أيهم » متعلق « بشيعة » فهو مرفوع بالابتداء والمعنى ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم أي من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد على الرحمن عتيا وهذا قول حسن وقد حكى الكسائي أن التشايع التعاون و « عتيا » نصب على البيان
قوله تعالى: « ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا » أي أحق بدخول النار يقال صلى يصلى صليا ونحو مضى الشيء يمضي مضيا إذا ذهب وهوى يهوي هويا وقال الجوهري ويقال صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجح لحته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصليته تصلية وقرئ « ويصلى سعيرا » ومن خفف فهو من قولهم: صلي فلان بالنار ( بالكسر ) يصلى صليا أحترق قال الله تعالى « هم أولى بها صليا » قال العجاج
والله لولا النار أن نصلاها
ويقال أيضا صلي بالأمر إذا قاسى حره وشدته قال الطهوي
ولا تبلى بسالتهم وإن هم صلوا بالحرب حينا بعد حين
واصطليت بالنار وتصليت بها قال أبو ربيد:
وقد تصليت حر حربهم كما تصلى المقرور من قرس
وفلان لا يصطلى بناره إذا كان شجاعا لا يطاق.
الآيتان: 71 - 72 ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا )
قوله تعالى « وإن منكم » هذا قسم والواو ينضمنه ويفسره حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم ) قال الزهري: كأنه يريد هذه الآية ( وإن منكم إلا واردها ) ذكره داود الطيالسي فقوله « إلا تحلة القسم » يخرج في التفسير المسند لأن القسم المذكور هذا الحديث معناه عند أهل العلم قوله تعالى « وإن منكم إلا واردها » وقد قيل إن المراد بالقسم قوله تعالى « والذاريات ذروا » إلى قوله « إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والأول أشهر؛ والمعنى متقارب »
واختلف الناس في الورود فقيل الورد الدخول روي عن جابر بن عبدالله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم « ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا » أسنده أبو عمر في كتاب « التمهيد » وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم وروي عن يونس أنه كان يقرأ « وإن منكم إلا واردها » الورود الدخول على التفسير للورود فغلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن وفي الدرامي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فمنهم كلمح البصر ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب المجد في رحله ثم كشد الرجل في مشيته ) وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي ( أما أنا وأنت فلا بد أن نردها أما أنا فينجيني الله منها وأما أنت فما أظنه ينجيك لتكذيبك ) وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر وقد بيناه في « التذكرة » وقالت فرقة الورود الممر على الصراط وروي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي ورواه السدي ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقاله الحسن أيضا قال ( ليس الورود الدخول إنما تقول وردت البصرة ولم أدخلها قال فالورود أن يمروا على الصراط ) قال أبو بكر الأنباري وقد بنى على مذهب الحسن قوم من أهل اللغة واحتجوا بقول الله تعالى: « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها وكان هؤلاء يقرؤون « ثم » بفتح الثاء « ننجي الذين اتقوا » واحتج عليهم الآخرون أهل المقالة الأولى بأن معنى قوله: « أولئك عنها مبعدون » عن العذاب فيها والإحراق بها قالوا فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعا ولا ألما فهو مبعد عنها في الحقيقة ويستدلون بقوله تعالى « ثم ننجي الذين اتقوا » بضم الثاء فـ « ثم » تدل على نجاء بعد الدخول.
قلت وفي صحيح مسلم ( ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم ) قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: ( دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم ) الحديث وبه احتج من قال إن الجواز على الصراط هو الورود الذي تضمنه هذه الآية لا الدخول فيها وقالت فرقة بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب وذلك أنه يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة « ونذر الظالمين » أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى « ولما ورد ماء مدين ) أي أشرف عليه لا أنه دخله وقال زهير: »
فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم
وروت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية ) قالت فقلت يا رسول الله وأين قول الله تعالى « وإن منكم إلا واردها » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فَمَهْ « ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا » ) أخرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عند حفصة الحديث ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » وقال مجاهد: ورود المؤمنين النار هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا، وهي حظ المؤمن من النار فلا يردها. روى أبو هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم عاد مريضا من وعك به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول « هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار » ) أسنده أبو عمر قال: حدثنا عبدالوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيدالله ( عن أبي صالح ) الأشعري عن أبي هريرة عن النبي عاد مريضا وفي كره وفي الحديث ( الحمى حظ المؤمن من النار ) وقالت فرقة الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز ويصلاها من قدر عليه دخولها، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى واحتجوا بحديث ابن عمر: ( إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ) الحديث وروى وكيع عن شعبة عن عبدالله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى: ( وإن منكم إلا واردها ) قال: هذا خطاب للكفار. وروي عنه أنه كان يقرأ « وإن منهم » ردا على الآيات التي قبلها في الكفار: قوله « فوربك لنحضرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منهم ) ( مريم: 68 ] وكذلك قرأ عكرمة وجماعة وعليها فلا شعب في هذه القراءة وقالت فرقة المراد بـ ( منكم ) الكفرة والمعنى قل لهم يا محمد وهذا التأويل أيضا سهل التناول والكاف في ( منكم ) راجحة إلى الهاء في ( لنحشرنهم والشياطين. ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ) فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء؛ فقد عرف ذلك في قوله عز وجل » وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا « [ الإنسان:21 - 22 ] معناه كان لهم فرجعت الكاف إلى الهاء. وقال الأكثر: المخاطب العالم كله بد من ورود الجميع وعليه نشأ الخلاف في الورود وقد بينا أقوال العلماء فيه وظاهر الورود الدخول لقول عليه الصلاة والسلام ( فتمسه النار ) لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين وينجون منها سالمين قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا ألم يقل ربنا إنا نرد النار؟ فيقال لقد وردتموها فألقيتموها رمادا.»
قلت: وهذا القول يجمع شتات لأقوال فإن من وودها ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أبعد عنها ونجي منها نجانا الله تعالى منها وكرمه وجعلنا ممن وردها فدخلها سالما وخرج منها غانما. فان قيل: فهل يدخل الأنبياء النار؟ قلنا لانطلق هذا ولكن نقول: إن الخلق جميعا يردونها كما دل عليه حديث جابر أول الباب فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء لشفاعتهم فبين الدخولين بون وقال ابن الأنباري محتجا لمصحف عثمان وقراءة العامة جائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب كما قال ( وسقاهم ربهم شرابا طهورا. إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا ) فأبدل الكاف من الهاء. وقد تقدم هذا المعنى في ( يونس ) .
الاستثناء في قوله عليه السلام ( إلا تحلة القسم ) يحتمل أن يكون استثناء منقطعا لكن تحلة القسم وهذا معروف في كلام العرب والمعنى ألا تمسه النار أصلا وتم الكلام هنا ثم ابتدأ ( إلا تحلة القسم ) أي لكن تحله القسم لابد منها في قوله تعالى « وإن منكم إلا واردها » وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة، فلا يكون في ذلك شيء من مسيس لقوله عليه الصلاة والسلام ( لا يموت لأحدكم ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار ) والجنة الوقاية والستر ومن وقي النار سترعنها فلن تمسه أصلا ولو مسته لما كان موقى
هذا الحديث يفسر الأول لأن فيه ذكر الحسبة؛ ولذلك جعله مالك بأثره مفسرا له ويقيد هذا الحديث الثاني أيضا ماروا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجابا من النار أو دخل الجنة ) فقوله عليه السلام ( لم يبلغوا الحنث ) ومعناه عند أهل العلم لم يبلغوا الحلم ولم يبلغوا أن يلزمهم حنث دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة والله أعلم لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يرحموا من أجل ( من ) ليس بمرحوم. وهذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من الجبرية فجعلتهم المشيئة وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا تجوز مخالفتهم، ولا يجوز على مثلهم إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات العدول؛ وأن قوله عليه الصلاة والسلام ( الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وأن الملك ينزل فيكتب أجله وعمله ورزقه ) الحديث مخصوص، وأن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد في بطن أمه ولم يثق بدليل الأحاديث والإجماع وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها: ( يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ) ساقط ضعيف مردود بالإجماع والآثار وطلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه. وقد روى شعبة عن معاوية بن قرة بن إياس المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من الأنصار مات له ابن صغير فوجد عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أما يسرك ألا تأتى بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك ) فقالوا يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال ( بل للمسلمين عامة ) قال أبو عمر هذا حديث ثابت صحيح يعني ما ذكرناه مع إجماع الجمهور؛ وهو يعارض حديث يحيى ويدفعه قال أبو عمر: الوجه عندي في هذا الحديث وما أشبهه من الآثار أنها لمن حافظ على أداء فرائضه واجتنب الكبائر، وصبر واحتسب في مصيبته؛ فإن الخطاب لم يتوجه في ذلك العصر إلا إلى قوم الأغلب من أمرهم ما وصفنا وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وذكر النقاش عن بعضهم أنه قال: نسخ قوله تعالى « وإن منكم إلا واردها » قوله « إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون » [ الأنبياء:101 ] وهذا ضعيف، وهذا ليس موضع نسخ. وقد بينا أنه إذا لم تمسه النار فقد أبعد عنها وفي الخبر: ( تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ) .
قوله تعالى: « كان على ربك حتما مقضيا » الحتم إيجاب القضاء أي كان ذلك حتما. « مقضيا » أي قضاه الله تعالى عليكم وقال ابن مسعود أي قسما واجبا « ثم ننجي الذين اتقوا » أي نخلصهم « ونذر الظالمين فيها جثيا » وهذا مما يدل على أن الورود الدخول لأنه لم يقل وندخل الظالمين وقد مضى هذا المعنى مستوفى. والمذهب أن صاحب الكبيرة وإن دخلها فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو وقالت المرجئة لا يدخل. وقالت الوعيدية: يخلد وقد مضى بيان هذا في غير موضع وقرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة « ثم ننجي » مخففة من أنجى وهي قراءة حميد ويعقوب والكسائي وثقل الباقون وقرأ ابن أبي ليلى « ثمه » بفتح الثاء أي هناك و « ثم » ظرف إلا أنه مبني لأنه غير محصل فبني كما بني ذا؛ والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف في الوصل ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فشبت في الوصل تاء.
الآيتان: 73 - 74 ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا، وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا )
قوله تعالى: « وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات » أي على الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى « أئذا ما مت لسوف أخرج حيا » [ مريم: 66 ] وقال فيهم « ونذر الظالمين فيها جثيا » أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعززوا بالدنيا، وقالوا: فما بالنا إن كنا على باطل أكثر أموالا وأعز نقرا وغرضهم إدخال الشبهة المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه المحق في دينه وكأنهم لم يروا فيهم فقيرا ولا في المسلمين غنيا ولم يعلموا أن الله تعالى نحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها. و « بينات » معناه مرتلات الألفاظ ملخصة المعاني، مبينات المقاصد؛ إما محاكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو تبيين الرسول صلى قولا أو فعلا أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى « وهو الحق مصدقا » لأن آيات الله تعالى لا تكون إلا واضحة. « قال الذين كفروا » يريد مشركي قريش النضر بن الحرث وأصحابه. « للذين آمنوا » يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين « أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا » قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد « مقاما » بضم الميم وهو موضع الإقامة. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإقامة الباقون « مقاما » بالفتح؛ أي منزلا ومسكنا. وقيل: المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة؛ أي أي الفريقين أكثر جاها وأنصارا. « وأحسن نديا » أي مجلسا؛ عن ابن عباس وعنه أيضا المنظر وهو المجلس في اللغة وهو النادي ومنه دار الندوة لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم وناداه جالسه في النادي قال
أنادي به آل الوليد وجعفرا
والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي [ والمنتدى ] والمتندى، فإن تفرق القوم فليس بندي قاله الجوهري.
قوله تعالى: « وكم أهلكنا قبلهم من قرن » أي من أمة وجماعة. « هم أحسن أثاثا ورئيا »
أي متاعا كثيرا؛ قال:
وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل
والأثاث متاع البيت. وقيل: هو ماجد الجراثي والخرثي ما لبس منها وأنشد الحسن بن علي الطوسي فقال:
تقادم العهد من أم الوليد بنا دهرا وصار أثاث البيت خرثيا
وقال ابن عباس: هيئة مقاتل ثيابا « ورئيا » أي منظرا حسنا. وفيه خمس قراءات قرأ أهل المدينة « وريا » بغير همز. وقرأ أهل الكوفة « ورئيا » بالهمز. وحكى يعقوب أن طلحة قرأ « وريا » بياء واحدة مخففة. وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس « هم أحسن أثاثا وزيا » بالزاي؛ فهذه أربع قراءات قال أبو إسحاق ويجوز « هم أحسن أثاثا وريئا » بياء بعدها همزة. النحاس: وقراءة أهل المدينة في هذا حسنة وفيها تقريران: أحدهما: أن تكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء. وكان هذا حسنا لتتفق رؤوس الآيات لأنها غير مهموزات. وعلى هذا قال ابن عباس: ( الرئي المنظر ) فالمعنى: هم أحسن أثاثا ولباسا. والوجه الثاني: أن جلودهم مرتوية من النعمة؛ فلا يجوز الهمز على هذا. وفي رواية ورش عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر « ورئيا » بالهمز تكون على الوجه الأول. وهي قراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل. وقراءة طلحة بن مصرف ( وريا ) بياء واحدة مخففة أحسبها غلطا. وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها الهمز فقلبت الهمزة ياء، ثم حذفت إحدى اليائين. المهدوي: ويجوز أن يكون « ريئا » فقلبت ياء فصارت رييا ثم نقلت حركة الهمزة على الياء وحذفت. وقد قرأ بعضهم « وريا » على القلب وهي القراءة الخامسة. وحكى سيبويه راء بمعنى رأى. الجوهري: من همزه جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي فقال:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث
ومن لم يهمز إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا؛ أي امتلأت وحسنت. وأما قراءة ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي ويزيد البربري « وزيا » بالزاي فهو الهيئة والحسن. ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت؛ فيكون أصلها زيا فقلبت الواو ياء. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( زويت لي الأرض ) أي جمعت؛ أي فلم يغن ذلك عنهم شيئا من عذاب الله تعالى؛ فليعش هؤلاء ما شاؤوا فمصيرهم إلى الموت والعذاب وإن عمروا؛ أو العذاب العاجل يأخذهم الله تعالى به.
الآية: 75 ( قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا )
قوله تعالى: « قل من كان في الضلالة » أي في الكفر « فليمدد له الرحمن مدا » أي فليدعه في طغيان جهله وكفره فلفظه لفظ الأم ومعناه الخبر أي من كان الضلالة مده الرحمن مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك اشد لعقابه نظيره « إنما نملي لهم ليزدادوا إثما » [ آل عمران:178 ] وقوله: « ونذرهم في طغيانهم يعمهون » [ الأنعام: 110 ] ومثله كثير؛ أي فليعش ما شاء، وليوسع لنفسه في العمر؛ فمصيره إلى الموت والعقاب. وهذا غاية في التهديد والوعيد. وقيل: هذا دعاء أم به النبي صلى الله عليه وسلم؛ تقول: من سرق مالي فليقطع الله تعالى يده؛ فهو دعاء على السارق. وهو جواب الشرط وعلى هذا فليي ؟؟ قوله « فليمدد » خبرا. « حتى إذا رأوا ما يوعدون » قال « رأوا » لأن لفظ « من » يصلح للواحد والجمع. و « إذا » مع الماضي بمعنى المستقبل؛ أي حتى يروا ما يوعدون والعذاب هنا إما أن يكون بنصر المؤمنين عليهم فيعذبونهم بالسيف والأسر؛ وإما أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار. « فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا »
أي تنكشف حينئذ الحقائق وهذا رد لقولهم: ( أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ) .
الآية: 76 ( ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا )
قوله تعالى: « ويزيد الله الذين اهتدوا هدى » أي ويثبت الله المؤمنين على الهدى ويزيدهم في النصرة وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم وقيل يزيدهم هدى بتصديقهم بالناسخ والمنسوخ الذي كفر به غيرهم قال معناه الكلبي ومقاتل ويحتمل ثالثا أي « ويزيد الله الذين اهتدوا » إلى الطاعة « هدى » إلى الجنة والمعنى متقارب وقد تقدم القول في معنى زيادة الأعمال وزيادة الإيمان الهدي في « آل عمران » وغيرها « والباقيات الصالحات » تقدم. « خير عند ربك ثوابا » أي جزاء « وخير مردا » أي في الآخرة مما افتخر به الكفار في الدنيا. و ( المرد ) مصدر كالرد؛ أي وخير ردا على عاملها بالثواب؛ يقال هذا أرد عليك أي أنقع لك. وقيل « خير مردا » أي مرجعا فكل أحد يرد إلى عمله الذي عمله.