الآيات: 34 - 40 ( ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون، ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم، فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم، أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين، وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون، إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون )
قوله تعالى: « ذلك عيسى ابن مريم » أي ذلك الذي ذكرناه عيسى بن مريم فكذلك اعتقدوه، لا كما تقول اليهود إنه لغير رشدة وأنه ابن يوسف النجار، ولا كما قالت النصارى: إنه الإله أو ابن الإله. « قول الحق » قال الكسائي: « قول الحق » نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم « قول الحق » وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله؛ والحق هو الله عز وجل. وقال أبو حاتم: المعنى هو قول الحق. وقيل: التقدير هذا الكلام قول الحق. قال ابن عباس: ( يريد هذا كلام عيسى صلى الله عليه وسلم قول الحق ليس بباطل؛ وأضيف القول إلى الحق كما قال: ( وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) [ الأحقاف: 16 ] أي الوعد والصدق. وقال: « وللدار الآخرة خير » [ الأنعام:32 ] أي ولا الدار الآخرة. وقرأ عاصم وعبدالله بن عامر « قول الحق » بالنصب على الحال؛ أي أقول قولا حقا. والعامل معنى الإشارة في ( ذلك ) . الزجاج: هو مصدر أي أقول قول الحق لأن ما قبله يدل عليه. وقيل: مدح. وقيل: إغراء. وقرأ عبدالله « قال الحق » وقرأ الحسن « قول الحق » بضم القاف، وكذلك في « الأنعام » « قول الحق » والقول والقال والقول بمعنى واحد، كالرهب والرهب والرهب. « الذي » من نعت عيسى. « فيه يمترون » أي يشكون؛ أي ذلك عيسى بن مريم الذي فيه يمترون القول الحق. وقيل: « يمترون » يختلفون. ذكر عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى ( ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ) قال: اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في عيسى حين رفع؛ فقال أحدهم: هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية. فقالت الثلاثة: كذبت. ثم قال اثنان منهم للثالث: قل فيه، قال: هو ابن الله وهم النسطورية، فقال الاثنان كذبت، ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه، فقال: هو ثالث ثلاثة، الله إله وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. قال الرابع: كذبت بل هو عبدالله ورسول وروحه وكلمته وهم المسلمون، فكان لكل رجل منهم أتباع - على ما قال - فاقتتلوا فظهر على المسلمين، فذلك قول الله تعالى: ( ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ) [ آل عمران:21 ] . وقال قتادة: وهم الذين قال الله تعالى فيهم: ( فاختلف الأحزاب من بينهم ) اختلفوا فيه فصاروا أحزابا فهذا معنى قول ( الذي فيه تمترون ) بالتاء المعجمة من فوق وهي قراءة أبي عبدالرحمن السلمي وغيره قال ابن عباس فمر بمريم ابن عمها ومعها ابنها إلى مصر فكانوا فيها اثنتي عشرة سنة حتى مات الملك الذي كانوا يخافونه؛ ذكره الماوردي.
قلت ووقع في تاريخ مصر فيما رأيت وجاء في الإنجيل الظاهر أن السيد المسيح لما ولد في بيت لحم كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا وأن الله تعالى أوعى إلى يوسف النجار في الحلم وقال له قم فخذ الصبي وأمه واذهب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فإن هيرودس مزمع أن يطلب عيسى ليهلكه فقام من نومه وامتثل أمر ربه وأخذ السيد المسيح ومريم أمه وجاء إلى مصر، وفي حال مجيئه إلى مصر نزل ببئر البلسان التي بظاهر القاهرة وغسلت ثيابه على ذلك البئر فالبلسان لا يطلع ولا ينبت إلا في تلك الأرض ومنه يخرج الدهن الذي يخالط الزيت الذي تعمد به النصارى ولذلك كانت قارورة واحدة في أيام المصريين لها مقدار عظيم، وتقع في نفوس ملوك النصارى مثل ملك القسطنطينية وملك صقلية وملك الحبشة وملك النوبة وملك الفرنجة وغيرهم من الملوك عندما يهاديهم به ملوك مصر موقعا جليلا جدا وتكون أحب إليهم من كل هدية لها قدر وفي تلك السفرة وصل السيد المسيح إلى مدينة الأشمونين وقسقام المعروفة الآن بالمحرقة فلذلك يعظمها النصارى إلى الآن، ويحضروا إليها في عيد الفصح من كل مكان؛ لأنها نهاية ما وصل إليها من أرض مصر، ومنها عاد إلى الشام. والله أعلم.
قوله تعالى: « ما كان لله » أي ما ينبغي له ولا يجوز « أن يتخذ من ولد » « من » صلة للكلام؛ أي أن يتخذ ولدا. و « أن » في موضع رفع اسم « كان » أي ما كان لله أن يتخذ ولدا؛ أي ما كان من صفته اتخاذ الولد، ثم نزه نفسه تعالى عن مقالتهم فقال: « سبحانه » أن يكون له « إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون » تقدم. « وإن الله ربي وربكم » قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح « أن » وأهل الكوفة « وإن » بكسر الهمزة على أنه مستأنف. تدل عليه قراءة أبي « كن فيكون. إن الله » بغير واو على العطف على « قال إني عبدالله » وفي الفتح أقوال: فمذهب الخليل وسيبويه أن المعنى؛ ولأن الله ربي وربكم، وكذا « وأن المساجد لله » فـ « أن » في موضع نصب عندهما. وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض على حذف اللام، وأجاز أن يكون أيضا في موضع خفض بمعنى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبأن الله ربي وربكم؛ وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بمعنى؛ والأمر أن الله ربي وربكم. وفيها قول خامس حكى أبو عبيد أن أبا عمرو بن العلاء قاله، وهو أن يكون المعنى: وقضى أن الله ربي وربكم؛ فهي معطوفة على قوله: « أمرا » من قوله: « إذا قضى أمرا » والمعنى إذا قضى أمرا وقضى أن الله. ولا يبتدأ بـ « أن » على هذا التقدير، ولا على التقدير الثالث. ويجوز الابتداء بها على الأوجه الباقية. « هذا صراط مستقيم » أي دين قويم لا اعوجاج فيه.
قوله تعالى: « فاختلف الأحزاب من بينهم » « من » زائدة أي اختلف الأحزاب بينهم. وقال قتادة: أي ما بينهم فاختلفت الفرق أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام فاليهود بالقدح والسحر. والنصارى قالت النسطورية منهم: هو ابن الله. والملكانية ثالث ثلاثة. وقالت اليعقوبية: هو الله؛ فأفرطت النصار وغلت، وفرطت اليهود وقصرت. وقد تقدم هذا في « النساء » وقال ابن عباس: المراد من الأحزاب الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه من المشركين. « فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم » أي من شهود يوم القيامة، والمشهد بمعنى المصدر، والشهود الحضور ويجوز أن يكون الحضور لهم، ويضاف إلى الظرف لوقوعه فيه، كما يقال: ويل لفلان من قتال يوم كذا؛ أي من حضوره ذلك اليوم. وقيل: المشهد بمعنى الموضع الذي يشهده الخلائق، كالمحشر للموضع الذي يحشر إليه الخلق. وقيل: فويل للذين كفروا من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور، فأجمعوا على الكفر بالله، وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة.
قوله تعالى: « أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا » قال أبو العباس: العرب تقول هذا في موضع التعجب؛ فتقول أسمع بزيد وأبصر بزيد أي ما أسمعه وأبصره. قال: فمعناه أنه عجب نبيه منهم. قال الكلبي: لا أحد أسمع يوم القيامة ولا أبصر، حين يقول الله تبارك وتعالى لعيسى: ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) [ المائدة: 116 ] . وقيل: « أسمع » بمعنى الطاعة؛ أي ما أطوعهم لله في ذلك اليوم « لكن الظالمون اليوم » يعني في الدنيا « في ضلال مبين » وأي ضلال أبين من أن يعتقد المرء في شخص مثله حملته الأرحام، وأكل وشرب، وأحدث واحتاج أنه إله؟ ! ومن هذا وصفه أصم أعمى ولكنه سيبصر ويسمع في الآخرة إذا رأى العذب، ولكنه لا ينفعه ذلك؛ قال معناه قتادة وغيره.
قوله تعالى: « وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر » روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال: ما من أحد يدخل النار إلا وله بيت في الجنة فيتحسر عليه. وقيل: تقع الحسرة إذا أعطي كتابه بشماله. « إذ قضي الأمر » أي فرغ من الحساب، وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يأهل الجنة هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - ثم يقال يأهل النار هل تعرفون هذا فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به فيذبح ثم يقال يأهل الجنة خلود فلا موت ويأهل النار خلود فلا موت - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - « وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون » خرجه البخاري بمعناه عن ابن عمر، وابن ماجة من حديث أبي هريرة والترمذي عن أبي سعيد يرفعه وقال فيه حديث حسن صحيح. وقد ذكرنا ذلك في كتاب « التذكرة » وبينا هناك أن الكفار مخلدون بهذه الأحاديث والآي ردا على من قال: إن صفة الغضب تنقطع، وإن إبليس ومن تبعه من الكفرة كفرعون وهامان وقارون وأشباههم يدخلون الجنة.
قوله تعالى: « إنا نحن نرث الأرض ومن عليها » أي نميت سكانها فنرثها. « وإلينا يرجعون »
يوم القيامة فنجازي كلا بعمله، وقد تقدم هذا في « الحجر » وغيرها.
الآيات: 41 - 46 ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا )
قوله تعالى: « واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا » المعنى: واذكر في الكتاب الذي أنزل عليك وهو القرآن قصة إبراهيم وخبره. وقد تقدم معنى الصديق في « النساء » واشتقاق الصدق في « البقرة » فلا معنى للإعادة ومعنى الآية: اقرأ عليهم يا محمد في القرآن أمر إبراهيم فقد عرفوا أنهم من ولده، فإنه كان حنيفا مسلما وما كان يتخذ الأنداد، فهؤلاء لم يتخذون الأنداد؟ ! وهو كما قال « ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه » [ البقرة: 130 ]
قوله تعالى: « إذ قال لأبيه » وهو آزر. « يا أبت » تقدم في ( يوسف ) . « لم تعبد » أي لأي شي تعبد: « ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا. يريد الأصنام: » يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك « أي من اليقين والمعرفة بالله وما يكون بعد الموت، وأن من عبد غير الله عذب » فاتبعني « إلى ما أدعوك إليه. » أهدك صراطا سويا « أي أرشدك إلى دين مستقيم فيه النجاة. » يا أبت لا تعبد الشيطان « أي لا تطعه فيما يأمرك به من الكفر، ومن أطاع شيئا في معصية فقد عبده. » إن الشيطان كان للرحمن عصيا « كان » صلة زائدة وقيل بمعنى صار. وقيل بمعنى الحال أي هو للرحمن. وعصيا وعاص بمعنى واحد قال الكسائي: « يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن » أي إن مت على ما أنت عليه. ويكون « أخاف » بمعنى أعلم. ويجوز أن يكون « أخاف » على بابها فيكون المعنى: إني أخاف أن تموت على كفرك فيمسك العذاب. « فتكون للشيطان وليا » أي قرينا في النار. « قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم » أي أترغب عنها إلى غيرها. « لئن لم تنته لأرجمنك » قال الحسن: يعني بالحجارة. الضحاك: بالقول؛ أي لأشتمنك. ابن عباس: لأضربنك. وقيل: لأظهرن أمرك. « واهجرني مليا » قال ابن عباس: أي اعتزلني سالم العرض لا يصيبك منى معرة؛ واختاره الطبري، فقوله: « مليا » على هذا حال من إبراهيم. وقال الحسن ومجاهد: « مليا » دهرا طويلا؛ ومنه قول المهلهل:
فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا
قال الكسائي: يقال هجرته مليا وملوة وملوة وملاوة وملاوة، فهو على هذا القول ظرف، وهو بمعنى الملاوة من الزمان، وهو الطويل منه.
الآيات: 47 - 50 ( قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا، وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا، فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا، ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا )
قوله تعالى: « قال سلام عليك » لم يعارضه إبراهيم عليه السلام بسوء الرد؛ لأنه لم يؤمر بقتاله على كفره. والجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة لا التحية؛ قال الطبري: معناه أمنة مني لك. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام. وقال النقاش: حليم خاطب سفيها؛ كما قال: « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » [ الفرقان: 63 ] . وقال بعضهم في معنى تسليمه: هو تحية مفارق؛ وجوز تحية الكافر وأن يبدأ بها. قيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم؛ قال الله تعالى: « لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم أن الله يحب المقسطين » [ الممتحنة: 8 ] . وقال « قد كانت » لكم أسوة حسنة في إبراهيم « [ الممتحنة:4 ] الآية؛ وقال إبراهيم لأبيه » سلام عليك « .»
قلت: الأظهر من الآية ما قاله سفيان بن عيينة؛ وفي الباب حديثنا صحيحان: روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه ) خرجه البخار ومسلم. وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارا عليه إكاف تحته قطيفة فدكيه، وأردف وراءه أسامة بن زيد؛ وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج، وذلك قبل وقعة بدر، حتى مر في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبدالله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبدالله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبدالله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ الحديث. فالأول يفيد ترك السلام عليهم ابتداء لأن ذلك إكرام، والكافر ليس أهله. والحديث الثاني يجوز ذلك. قال الطبري: ولا يعارض ما رواه أسامة بحديث أبي هريرة فإنه ليس في أحدهما خلاف للأخر وذلك أن حديث أبي هريرة مخرجه العموم، وخبر أسامة يبين أن معناه الخصوص. وقال النخعي: إذا كانت لك حاجة عند يهودي أو نصراني فابدأه بالسلام فبان بهذا أن حديث أبى هريرة ( لا تبدؤوهم بالسلام ) إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدؤوهم بالسلام، من قضاء ذمام أو حاجة تعرض لكم قبلهم، أو حق صحبة أو جوار أو سفر. قال الطبري: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب. وفعله ابن مسعود بدهقان صحبه في طريقه؛ قال علقمة: فقلت له يا أبا عبدالرحمن أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام؟ ! قال نعم، ولكن حق الصحبة. وكان أبو أسامة إذا انصرف إلى بيته لا يمر بمسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلا سلم عليه؛ قيل له في ذلك فقال: أمرنا أن نفشي السلام. وسئل الأوزاعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال: إن سلمت فقد سلم الصالحون قبلك، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك. وروي عن الحسن البصري أنه قال: إذا مررت بمجلس فيه مسلمون وكفار فسلم عليهم.
قلت: وقد احتج أهل المقالة الأولى بأن السلام الذي معناه التحية إنما خص به هذه الأمة؛ لحديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى أعطى أمتي ثلاثا لم تعط أحدا قبلهم السلام وهي تحية أهل الجنة ) الحديث؛ ذكره الترمذي الحكيم؛ وقد مضى في الفاتحة بسنده. وقد مضى الكلام في معنى قوله: « سأستغفر لك ربي » وارتفع السلام بالابتداء؛ وجاز ذلك مع نكرته لأنه نكرة مخصصة فقرنت المعرفة. « إنه كان بي حفيا » الحفي المبالغ في البر والإلطاف؛ يقال: حفي به وتحفى إذا بره. وقال الكسائي يقال: حفي بي حفاوة وحفوة. وقال الفراء: « إنه كان بي حفيا » أي عالما لطيفا يجيبني إذا دعوته.
قوله تعالى: « وأعتزلكم » العزلة المفارقة وقد تقدم في « الكهف » بيانها. وقوله: « عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا » قيل: أراد بهذا الدعاء أن يهب الله تعالى له أهلا وولدا يتقوى بهم حتى لا يستوحش بالاعتزال عن قومه. ولهذا قال: « فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب » أي آنسنا وحشته بولد؛ عن ابن عباس وغيره. وقيل: « عيسى » يدل على أن العبد لا يقطع بأنه يبقى على المعرفة أم لا في المستقبل وقيل دعا لأبيه بالهداية. فـ « عسى » شك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا؟ والأول أظهر. وقوله: « وجعلنا لهم لسان صدق عليا » أي أثنينا عليهم ثناء حسنا؛ لأن جميع الملل تحسن الثناء عليهم. واللسان يذكر ويؤنث؛ وقد تقدم.
الآية [ 51 ] في الصفحة التالية ...