الآية: 49 ( وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ( فيها ثلاثة عشرة مسألة ) : )
الأولى: قوله تعالى: « وإذ نجيناك » « إذ » في موضع نصب عطف على « اذكروا نعمتي » وهذا وما بعده تذكير ببعض النعم التي كانت له عليهم أي اذكروا نعمتي بإنجائكم من عدوكم وجعل الأنبياء فيكم. والخطاب للموجودين والمراد من سلف من الآباء كما قال « إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية » [ الحاقة: 11 ] أي حملنا آباءكم وقيل إنما قال « نجيناكم » لأن نجاة الآباء كانت سببا لنجاة هؤلاء الموجودين. ومعنى « نجيناكم » ألقيناكم على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها هذا هو الأصل ثم سمى كل فائز ناجيا فالناجي من خرج من ضيق إلى سعة وقرىء « وإذ نجيتكم » على التوحيد.
الثانية: قوله تعالى: « من آل فرعون » « آل فرعون » قومه وأتباعه وأهل دينه وكذلك آل الرسول صلى الله عليه وسلم من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن. ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه. خلافا للرافضة حيث قالت: إن آل الرسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة والحسن والحسين فقط. دليلنا قوله تعالى « وأغرقنا آل فرعون » [ البقرة: 50 ] « أدخلوا آل فرعون أشد العذاب » [ غافر: 46 ] أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا بنت ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة ولأنه لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبا له ولأجل هذا يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح « إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح » [ هود: 46 ] وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارا غير سر يقول ( ألا إن آل أبي - يعني فلانا - ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين ) وقالت طائفة آل محمد أزواجه وذريته خاصة لحديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ قال ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صلت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) رواه مسلم وقالت طائفة من أهل العلم الأهل معلوم والآل الأتباع والأول أصح لما ذكرناه ولحديث عبدالله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال ( اللهم صل عليهم ) فأتاه أبي بصدقته فقال ( اللهم صل على آل أبي أوفى )
الثالثة: اختلف النحاة هل يضاف الآل إلى البلدان أو لا؟ فقال الكسائي: إنما يقال آل فلان وآل فلانة ولا يقال في البلدان هو من آل حمص ولا من آل المدينة قال الأخفش إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد صلى الله عليه وسلم وآل فرعون لأنه رئيسهم في الضلالة قال وقد سمعناه في البلدان قالوا: أهل المدينة وآل المدينة.
الرابعة: واختلف النحاة أيضا هل يضاف الآل إلى المضمر أو لا؟ فمنع من ذلك النحاس والزبيدي والكسائي فلا يقال إلا اللهم صل على محمد وآل محمد ولا يقال وآله والصواب أن يقال أهله وذهبت طائفة أخرى إلى أن ذلك يقال منهم ابن السيد وهو الصواب لأن السماع الصحيح يعضده فإنه قد جاء في قول عبدالمطلب:
لا هم إن العبد يمـ ـنع رحله فامنع حلالك
وانصر على آل الصليـ ـب وعابديه اليوم آلك
وقال ندبة:
أنا الفارس الحامي حقيقة والدي وآلي كما تحمي حقيقة آلكا
الحقيقة [ بقافين ] ما يحق على الإنسان أن يحميه أي تجب عليه حمايته
الخامسة: واختلفوا أيضا في أصل آل فقال النحاس أصله أهل ثم أبدل من الهاء ألفا فإن صغرته رددته إلى أصله فقلت: أهيل وقال المهدوي: أصله أول وقيل: أهل، قبلت الهاء همزة ثم أبدلت الهمزة ألفا وجمعه آلون وتصغيره أويل فيما حكى الكسائي. وحكى غيره أهيل وقد ذكرنا عن النحاس وقال أبو الحسن بن كيسان: إذا جمعت آلا قلت آلون فإن جمعت آلا الذي هو السراب قلت آوال مثل مال وأموال.
السادسة: قوله تعالى: « فرعون » قيل: إنه اسم ذلك الملك بعينه وقيل إنه اسم كل ملك من ملوك العمالقة مثل كسرى للفرس وقيصر للروم والنجاشي للحبشة وأن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب. وقال وهب اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ويكنى أبا مرة وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. قال السهيلي: وكل من ولى القبط ومصر فهو فرعون وكان فارسيا من أهل اصطخر قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية قال الجوهري فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عات فرعون والعتاة الفراعنة وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء ونكر. وفي الحديث ( أخذنا فرعون هذه الأمة ) « وفرعون » في موضع خفض إلا أنه لا ينصرف لعجمته
السابعة: قوله تعالى: « يسومونكم » قيل معناه يذيقونكم ويلزمونكم إياه وقال أبو عبيدة يولونكم يقال سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ومنه قول عمرو بن كلثوم
إذا ما الملك سام الناس خسفا أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل يديمون تعذيبكم والسوم الدوام ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي قال الأخفش: وهو في موضع رفع على الابتداء وإن شئت كان في موضع نصب على الحال أي سائمين لكم
الثامنة: قوله تعالى: « سوء العذاب » مفعول ثان لـ « يسومونكم » ومعناه أشد العذاب ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا فروي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يتخدمون وكان قومه جندا ملوكا ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب.
التاسعة: قوله تعالى: « يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم » « يذبحون » بغير واو على البدل من قومه « يسومونكم » كما قال أنشده سيبويه:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
قال الفراء وغيره « يذبحون » بغير واو على التفسير لقوله « يسومونكم سوء العذاب » [ البقرة: 49 ] كما تقول أتاني القوم زيد وعمرو فلا تحتاج إلى الواو في زيد ونظيره: « ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب » [ الفرقان: 68 - 69 ] وفي سورة إبراهيم « ويذبحون » بالواو لأن المعنى يعذبونكم بالذبح وبغير الذبح فقوله « ويذبحون أبناءكم » جنس آخر من العذاب لا تفسير لما قبله والله أعلم
قلت قد يحتمل أن يقال إن الواو زائدة بدليل سورة « البقرة » والواو قد تزاد كما قال:
فلما اجزنا ساحة الحي وانتحى
أي قد انتحى وقال آخر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة وهو كثير
العاشرة: قوله تعالى: « يذبحون » قراءة الجماعة بالتشديد على التكثير وقرأ ابن محيصن « يذبحون » بفتح الباء والذبح الشق والذبح المذبوح والذباح تشقق في أصول الأصابع وذبحت الدن بزلته أي كشفته وسعد الذابح أحد السعود والمذابح المحاريب والمذابح جمع مذبح وهو إذا جاء السيل فخد في الأرض فما كان كالشبر ونحوه سمي مذبحا فكان فرعون يذبح الأطفال ويبقي البنات وعبر عنهم باسم النساء بالمآل وقالت طائفة « يذبحون أبناءكم » يعني الرجال وسموا أبناء لما كانوا كذلك واستدل هذا القائل بقوله « نساءكم » والأول أصح لأنه الأظهر والله أعلم
الحادية عشرة: نسب الله تعالى الفعل إلى آل فرعون وهم إنما كانوا يفعلون بأمره وسلطانه لتوليهم ذلك بأنفسهم وليعلم أن المباشر مأخوذ بفعله قال الطبري: ويقتضي أن من أمره ظالم بقتل أحد فقتله المأمور فهو المأخوذ به.
قلت: وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال يقتلان جميعا هذا بأمره والمأمور بمباشرته هكذا قال النخعي وقال الشافعي ومالك في تفصيل لهما قال الشافعي إذا أمر السلطان رجلا بقتل رجل والمأمور يعلم أنه أمر بقتله ظلما كان عليه وعلى الإمام القود كقاتلين معا وإن أكرهه الإمام عليه وعلم أنه يقتله ظلما كان على الإمام القود وفي المأمور قولان أحدهما أن عليه القود والآخر لا قود عليه وعليه نصف الدية حكاه ابن المنذر وقال علماؤنا لا يخلو المأمور أن يكون ممن تلزمه طاعة الآمر ويخاف شره كالسلطان والسيد لعبده فالقود في ذلك لازم لهما أو يكون ممن لا يلزمه ذلك فيقتل المباشر وحده دون الآمر وذلك كالأب يأمر ولده أو المعلم بعض صبيانه أو الصانع بعض متعلميه إذا كان محتلما فان كان غير محتلم فالقتل على الآمر وعلى عاقلة الصبي نصف الدية وقال ابن نافع لا يقتل السيد إذا أمر عبده وإن كان أعجميا بقتل إنسان قال ابن حبيب وبقول ابن القاسم أقول إن القتل عليهما فأما أمر من لا خوف على المأمور في مخالفته فإنه لا يلحق بالإكراه بل يقتل المأمور دون الآمر ويضرب الآمر ويحبس وقال أحمد في السيد يأمر عبده أن يقتل رجلا يقتل السيد وروي هذا القول عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنهما وقال علي ويستودع العبد السجن وقال أحمد ويحبس العبد ويضرب ويؤدب وقال الثوري يعزر السيد وقال الحكم وحماد يقتل العبد وقال قتادة يقتلان جميعا وقال الشافعي إن كان العبد فصيحا يعقل قتل العبد وعوقب السيد وإن كان العبد أعجميا فعلى السيد القود وقال سليمان بن موسى لا يقتل الآمر ولكن تقطع يديه ثم يعاقب ويحبس وهو القول الثاني ويقتل المأمور للمباشرة وكذلك قال عطاء والحكم وحماد والشافعي وأحمد وإسحاق في الرجل يأمر الرجل بقتل الرجل وذكره ابن المنذر وقال زفر لا يقتل واحد منهما وهو القول الثالث حكاه أبو المعالي في البرهان ورأى أن الآمر والمباشر ليس كل واحد منهما مستقلا في القود فلذلك يقتل لا واحد منهما عنده والله أعلم
الثانية عشرة: قرأ الجمهور « يذبحون » بالتشديد على المبالغة وقرأ ابن محيصن « يذبحون » بالتخفيف والأولى أرجح إذ الذبح متكرر وكان فرعون على ما روي قد رآه في منامه نارا خرجت من بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر فأولت له رؤياه أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ فيكون خراب ملكه على يديه وقيل غير هذا والمعنى متقارب
الثالثة عشرة: قوله تعالى: « وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم » إشارة إلى جملة الأمر إذ هو خبر فهو كمفرد حاضر أي وفي فعلهم ذلك بكم بلاء أي امتحان واختبار و « بلاء » نعمة ومنه قوله تعالى « وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا » [ الأنفال: 17 ] قال أبو الهيثم البلاء يكون حسنا ويكون سيئا وأصله المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنع الجميل ليمتحن شكره ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليمتحن صبره فقيل للحسن بلاء وللسيئ بلاء حكاه الهروي وقال قوم الإشارة بـ « ذلكم » إلى التنجية فيكون البلاء على هذا في الخير أي تنجيتكم نعمة من الله عليكم وقال الجمهور الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء هنا في الشر والمعنى وفي الذبح مكروه وامتحان وقال ابن كيسان ويقال في الخير أبلاه الله وبلاه وأنشد
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
فجمع بين اللغتين والأكثر في الخير أبليته وفي الشر بلوته وفي الاختبار أبتليته وبلوته قاله النحاس..
الآية 50 ( وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون )
قوله تعالى: « وإذ فرقنا » « إذا » في موضع نصب و « فرقنا » فلقنا فكان كل فرق كالطود العظيم أي الجبل العظيم وأصل الفرق الفصل ومنه فرق الشعر ومنه الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل ومنه: « فالفارقات فرقا » [ المرسلات: 4 ] يعني الملائكة تنزل بالفرق ببن الحق والباطل ومنه « يوم الفرقان » [ الأنفال: 41 ] يعني يوم بدر كان، فيه فرق بين الحق والباطل ومنه « وقرآنا فرقناه » [ الإسراء: 106 ] أي فصلناه وأحكمناه. وقرأ الزهري « فرقنا » بتشديد الراء أي جعلناه فرقا ومعنى « بكم » أي لكم فالباء بمعنى اللام وقيل الباء في مكانها أي فرقنا البحر بدخولكم إياه أي صاروا بين الماءين فصار الفرق بهم وهذا أولى يبينه « فانفلق » .
قوله تعالى: « بكم البحر » البحر معروف سمي بذلك لاتساعه ويقال فرس بحر إذا كان واسع الجري أي كثيره، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مندوب فرس أبي طلحة ( وإن وجدناه لبحرا ) والبحر الماء الملح ويقال أبحر الماء ملح قال نصيب وقد عاد ماء الأرض بحرا فزادني إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب والبحر البلدة يقال هذه بحرتنا أي بلدتنا. قال الأموي والبحر السلال يصيب الإنسان. ويقولون لقيته صحرة بحرة أي بارزا مكشوفا. وفي الخبر عن كعب الأحبار قال إن لله ملكا يقال له صندفاييل البحار كلها في نقرة إبهامه. ذكره أبو نعيم في ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن كعب.
قوله تعالى: « فأنجيناكم » أي أخرجناكم منه يقال نجوت من كذا نجاء ممدود ونجاة مقصور والصدق منجاة. وأنجيت غيري ونجيته وقرئ بهما « وإذ نجيناكم » « فأنجيناكم » .
قوله تعالى: « وأغرقنا آل فرعون » يقال غرق في الماء غرقا فهو غرق وغارق أيضا ومنه قول أبي النجم :
من بين مقتول وطاف غارق
وأغرقه غيره وغرقه فهو مغرق وغريق. ولجام مغرق بالفضة أي محلى والتغريق: القتل قال الأعشى :
ألا ليت قيسا غرقته القوابل
وذلك أن القابلة كانت تغرق المولود في ماء السلى عام القحط ذكرا كان أو أنثى حتى يموت ثم جعل كل قتل تغريقا ومنه قول ذي الرمة:
إذا غرقت أرباضها ثني بكرة بتيهاء لم تصبح رؤوما سلوبها
والأرباض الحبال والبكرة الناقة الفتية وثنيها بطنها الثاني، وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب.
القول في اختلاف العلماء في كيفية إنجاء بني إسرائيل
فذكر الطبري أن موسى عليه السلام أوحي إليه أن يسري من مصر ببني إسرائيل فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط وأحل الله ذلك لبني إسرائيل فسرى بهم موسى من أول الليل فأعلم فرعون فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح الديكة فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك وأمات الله تلك الليلة كثيرا من أبناء القبط فاشتغلوا في الدفن وخرجوا في الأتباع مشرقين كما قال تعالى « فأتبعوهم مشرقين » [ الشعراء: 60 ] وذهب موسى إلى ناحية البحر حتى بلغه. وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف. وكانت عدة فرعون ألف ألف ومائتي ألف وقيل: إن فرعون اتبعه في ألف ألف حصان سوى الإناث وقيل دخل إسرائيل - وهو يعقوب عليه السلام - مصر في ستة وسبعين نفسا من ولده وولد ولده فأنمى الله عددهم وبارك في ذريته حتى خرجوا إلى البحر يوم فرعون وهم ستمائة ألف من المقاتلة سوى الشيوخ والذرية والنساء وذكر أبو بكر عبدالله بن محمد بن أبي شيبة قال: حدثنا شبابة بن سوار عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبدالله بن مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون فأمر بشاة فذبحت، ثم قال: لا والله لا يفرغ من سلخها حتى تجتمع لي ستمائة ألف من القبط، قال: فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له أفرق فقال له البحر لقد استكبرت يا موسى وهل فرقت لأحد من ولد آدم فأفرق لك قال: ومع موسى رجل على حصان له قال: فقال له ذلك الرجل: أين أمرت يا نبي الله؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه قال فأقحم فرسه فسبح فخرج. فقال أين أمرت يا نبي الله قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذبت ولا كذبت ثم أقتحم الثانية فسبح به حتى خرج فقال أين أمر ت يا نبي الله؟ فقال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذبت ولا كذبت قال فأوحى الله إليه « أن اضرب بعصاك البحر » [ الأعراف 160 ] فضربه موسى بعصاه « فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم » [ الشعراء 63 ] فكان فيه اثنا عشر فرقا لاثني عشر سبطا، لكل سبط طريق يتراءون، وذلك أن أطواد الماء صار فيها طيقانا وشبابيك يرى منها بعضهم بعضا فلما خرج أصحاب موسى وقام أصحاب فرعون التطم البحر عليهم فأغرقهم ويذكر أن البحر هو بحر القلزم وأن الرجل الذي كان مع موسى على الفرس هو فتاه يوشع بن نون وأن الله تعالى أوحى إلى البحر أن انفلق لموسى إذا ضربك فبات البحر تلك الليلة يضطرب فحين أصبح ضرب البحر وكناه أبا خالد ذكره ابن أبي شيبة أيضا وقد أكثر المفسرون في قصص هذا المعنى وما ذكرناه كاف وسيأتي في سورة « يونس والشعراء » زيادة بيان أن شاء الله تعالى.
فصل: ذكر الله تعالى الإنجاء والإغراق ولم يذكر اليوم الذي كان ذلك فيه فروى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى صلى الله عليه وسلم ( ما هذا اليوم الذي تصومونه ) فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فنحن أحق وأولى بموسى منكم ) فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضا عن ابن عباس وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ( أنتم أحق بموسى منهم فصوموا ) .
مسألة: ظاهر هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صام عاشوراء وأمر بصيامه اقتداء بموسى عليه السلام على ما أخبره به اليهود. وليس كذلك لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه فلما فرض رمضان ترك صيام يوم عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه أخرجه البخاري ومسلم.
فإن قيل: يحتمل أن تكون قريش إنما صامته بإخبار اليهود لها لأنهم كانوا يسمعون منهم لأنهم كانوا عندهم أهل علم فصامه النبي عليه السلام كذلك في الجاهلية أي بمكة فلما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه قال ( نحن أحق وأولى بموسى منكم ) فصامه اتباعا لموسى. ( وأمر بصيامه ) أي أوجبه وأكد أمره حتى كانوا يصومونه الصغار قلنا: هذه شبهة من قال: إن النبي صلى لعله كان متعبدا بشريعة موسى وليس كذلك على ما يأتي بيانه في « الأنعام » عند قوله تعالى « فبهداهم اقتده » [ الأنعام: 90 ]
مسألة: اختلف في يوم عاشوراء هل هو التاسع من المحرم أو العاشر؟ فذهب الشافعي إلى أنه التاسع لحديث الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس رضي الله عنهما وهو متوسد رداءه في زمزم فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء فقال إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما قلت هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال نعم خرجه مسلم. وذهب سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وجماعة من السلف إلى أنه العاشر. وذكر الترمذي حديث الحكم ولم يصفه بصحة ولا حسن. ثم أردفه: أنبأنا قتيبة أنبأنا عبدالوارث عن يونس عن الحسن عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر. قال أبو عيسى حديث ابن عباس حديث حسن صحيح. قال الترمذي: وروي عن ابن عباس أنه قال: صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود. وبهذا الحديث يقول الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق. قال غيره: وقول ابن عباس للسائل ( فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما ) ليس فيه دليل على ترك صوم العاشر بل وعد أن يصوم التاسع مضافا إلى العاشر. قالوا: فصيام اليومين جمع بين الأحاديث. وقول ابن عباس للحكم لما قال له: هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال نعم معناه أن لو عاش وإلا فما كان النبي صلى الله عليه وسلم صام التاسع قط يبينه ما خرجه ابن ماجة في سننه ومسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع ) .
فضيلة: روى أبو قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ) أخرجه مسلم والترمذي وقال: لا نعلم في شيء من الروايات أنه قال: ( صيام يوم عاشوراء كفارة سنة ) إلا في حديث أبي قتادة.
قوله تعالى: « وأنتم تنظرون » جملة في موضع الحال ومعناه بأبصاركم فيقال إن آل فرعون طفوا على الماء فنظروا إليهم يغرقون وإلى أنفسهم ينجون ففي هذا أعظم المنة. وقد قيل: إنهم أخرجوا لهم حتى رأوهم فهذه منة بعد منة وقيل: المعنى « وأنتم تنظرون » أي ببصائركم الاعتبار لأنهم كانوا في شغل عن الوقوف والنظر بالأبصار وقيل: المعنى وأنتم بحال من ينظر لو نظر كما تقول هذا الأمر منك بمرأى ومسمع أي بحال تراه وتسمعه إن شئت. وهذا القول والأول أشبه بأحوال بني إسرائيل لتوالى عدم الاعتبار فيما صدر من بني إسرائيل بعد خروجهم من البحر وذلك أن الله تعالى لما أنجاهم وغرق عدوهم قالوا: يا موسى إن قلوبنا لا تطمئن إن فرعون قد غرق حتى أمر الله البحر فلفظه فنظروا إليه.
ذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن قيس بن عباد أن بني إسرائيل قالت: ما مات فرعون وما كان ليموت أبدا قال: فلما أن سمع الله تكذيبهم نبيه عليه السلام رمى به على ساحل البحر كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل فلما اطمأنوا وبعثوا من طريق البر إلى مدائن فرعون حتى نقلوا كنوزه وغرقوا في النعمة رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة حتى زجرهم موسى وقال: أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين أي عالمي زمانه ثم أمرهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة التي كانت مساكن آبائهم ويتطهروا من أرض فرعون وكانت الأرض المقدسة في أيدي الجبارين قد غلبوا عليها فاحتاجوا إلى دفعهم عنها بالقتال فقالوا أتريد أن تجعلنا لحمة للجبارين فلو أنك تركتنا في يد فرعون كان خيرا لنا قال: « يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم » [ المائدة: 21 ] إلى قول « قاعدون » حتى دعا عليهم وسماهم فاسقين. فبقوا في التيه أربعين سنة عقوبة ثم رحمهم فمن عليهم بالسلوى وبالغمام - على ما يأتي بيانه - ثم سار موسى إلى طور سيناء ليجيئهم بالتوراة فاتخذوا العجل - على ما يأتي بيانه - ثم قيل لهم: قد وصلتم إلى بيت المقدس فادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة - على ما يأتي - وكان موسى عليه السلام شديد الحياء ستيرا فقالوا إنه آدر. فلما أغتسل وضع على الحجر ثوبه فعدا الحجر بثوبه إلى مجالس بني إسرائيل وموسى على أثره عريان وهو يقول: يا حجر ثوبي فذلك قوله تعالى « يا أيها الذين أمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا » [ الأحزاب: 69 ] - على ما يأتي بيانه - ثم لما مات هارون قالوا له: أنت قتلت هارون وحسدته حتى نزلت الملائكة بسريره وهارون ميت عليه - وسيأتي في المائدة - ثم سألوه أن يعلموا آية في قبول قربانهم فجعلت نار تجيء من السماء فتقبل قربانهم ثم سألوه أن بين لنا كفارات ذنوبنا في الدنيا فكان من أذنب ذنبا أصبح على بابه مكتوب ( عملت كذا وكفارته قطع عضو من أعضائك ) يسميه له ومن أصابه بول لم يطهر حتى يقرضه ويزيل جلدته من بدنه ثم بدلوا التوراة وافتروا على الله وكتبوا بأيديهم واشتروا به عرضا ثم صار أمرهم إلى أن قتلوا أنبياءهم ورسلهم. فهذه معاملتهم مع ربهم وسيرتهم في دينهم وسوء أخلاقهم وسيأتي بيان كل فصل من هذه الفصول مستوفى في موضعه إن شاء الله تعالى وقال الطبري: وفي أخبار القرآن على لسان محمد عليه السلام بهذه المغيبات التي لم تكن من علم العرب ولا وقعت إلا في حق بني إسرائيل دليل واضح عند بن إسرائيل قائم عليهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
الآية: 51 ( وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون )
قوله تعالى: « وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة » قرأ أبو عمرو « وعدنا » بغير ألف، واختاره أبو عبيد ورجحه وأنكر « واعدنا » قال: لأن المواعدة إنما تكون من البشر فأما الله جل وعز فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد. على هذا وجدنا القرآن، كقوله عز وجل: « وعدكم وعد الحق » ( إبراهيم: 22 ) وقوله: « وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات » ( الفتح: 29 ) وقوله: « وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم » [ الأنفال: 7 ] قال مكي: وأيضا فإن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله تعالى لموسى، وليس فيه وعد من موسى، فوجب حمله على الواحد، لظاهر النص أن الفعل مضاف إلى الله تعالى وحده، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر، وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحاق. قال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا « وعدنا » بغير ألف، لأن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين، كل واحد منهما يَعِد صاحبه. قال الجوهري: الميعاد: المواعدة والوقت والموضع. قال مكي: المواعدة أصلها من اثنين، وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا: طارقت النعل، وداويت العليل، وعاقبت اللص، والفعل من واحد. فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى وعدنا، فتكون القراءتان بمعنى واحد. والاختبار « واعدنا » بالألف لأنه بمعنى « وعدنا » في أحد معنييه، ولأنه لا بدّ لموسى من وعد أو قبول يقوم مقام الوعد فتصح المفاعلة. قال النحاس: وقراءة « واعدنا » بالألف أجود وأحسن، وهي قراءة مجاهد والأعرج وابن كثير ونافع والأعمش وحمزة والكسائي، وليس قوله عز وجل: « وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات » من هذا في شيء، لأن « واعدنا موسى » إنما هو من باب الموافاة، وليس هذا من الوعد والوعيد في شيء، وإنما هو من قولك: موعدك يوم الجمعة، وموعدك موضع كذا. والفصيح في هذا أن يقال: واعدته. قال أبو إسحاق الزجاج: « واعدنا » ههنا بالألف جيد، لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فمن الله جل وعز وعد، ومن موسى قبول واتباع يجري مجرى المواعدة. قال ابن عطية. ورجح أبو عبيدة « وعدنا » وليس بصحيح، لأن قبول موسى لوعد الله والتزامه وارتقابه يشبه المواعدة.
قوله تعالى: « موسى » اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والتعريف والقبط على - ما يروى - يقولون للماء: مو، وللشجر: شا. فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر سمي موسى. قال السدي: لما خافت عليه أمه جعلته في التابوت وألقته في اليَمّ - كما أوحى الله إليها - فألقته في اليم بين أشجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه، فسمي باسم المكان. وذكر النقاش وغيره: أن اسم الذي التقطته صابوث. قال ابن إسحاق: وموسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.
قوله تعالى: « أربعين ليلة » أربعين نصب على المفعول الثاني، وفي الكلام حذف قال الأخفش: التقدير وإذ واعدنا موسى تمام أربعين ليلة كما قال « واسأل القرية » والأربعون كلها داخلة في الميعاد.
والأربعون في قول أكثر المفسرين ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأل قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة فعدوا - فيما ذكر المفسرون - عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد أخلفنا موعده. فاتخذوا العجل وقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فاطمأنوا إلى قوله. ونهاهم هارون وقال: « يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى » [ طه: 90 ] فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فيما روي في الخبر. وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حبا للعجل فظهرت على شفاههم صفرة وورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى: « فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم » [ البقرة: 54 ] فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لدن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى فقتل بعضهم بعضا لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحد كل من استقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله حتى عج موسى إلى الله صارخا: يا رباه قد فنيت بنو إسرائيل فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله فقبل توبة من بقي وجعل من قتل في الشهداء على ما يأتي.
إن قيل: لم خص الليالي بالذكر دون الأيام؟ قيل له: لأن الليلة أسبق من اليوم قبله في الرتبة ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أول الشهور والأيام تبع لها.
قال النقاش: في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم لأنه تعالى لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين يوما بلياليها. قال ابن عطية: سمعت أبي يقول: سمعت الشيخ الزاهد الإمام الواعظ أبا الفضل الجوهري رحمه الله يعظ الناس في الخلوة بالله والدنو منه في الصلاة ونحوه وأن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب ويقول: ابن حال موسى في القرب من الله ووصال ثمانين من الدهر من قول حين سار إلى الخضر لفتاه في بعض يوم « آتنا غداءنا » [ الكهف: 62 ]
قلت: وبهذا استدل علماء الصوفية على الوصال وأن أفضله أربعون يوما وسيأتي الكلام في الوصال في آي الصيام من هذه السورة إن شاء الله تعالى ويأتي في « الأعراف » زيادة أحكام لهذه الآية عند قوله تعالى « وواعدنا موسى ثلاثين ليلة » [ الأعراف: 142 ] ويأتي لقصة العجل ببان في كيفيته وخواره هناك وفي « طه » إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « ثم اتخذتم العجل من بعده » أي اتخذتموه إلها من بعد موسى وأصل اتخذتم ائتخذتم من الأخذ ووزنه أفتعلتم سهلت الهمزة الثانية لامتناع همزتين فجاء إيتخذتم فاضطربت الياء في التصريف جاءت ألفا في ياتخذ وواوا في موتخذ فبدلت بحرف جلد ثابت من جنس ما بعدها وهي التاء وأدغمت ثم اجتلبت ألف الوصل للنطق وقد يستغنى عنها إذا كان معنى الكلام التقرير كقوله تعالى « قل اتخذتم عند الله عهدا » [ البقرة: 80 ] فاستغنى عن ألف الوصل بألف التقرير قال الشاعر:
استحدث الركب عن أشياعهم خبرا أم راجع القلب من أطرابه طرب
ونحوه في القرآن « أطلع الغيب » [ مريم: 78 ] « أصطفى البنات » [ الصافات: 153 ] « أستكبرت أم كنت » [ ص: 75 ] ومذهب أبي علي الفارسي أن « اتخذتم » من تخذ لا من أخذ.
قوله تعالى: « وأنتم ظالمون » جملة في موضع الحال وقد تقدم معنى الظلم والحمد لله.
الآية 52 ( ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون )
قوله تعالى: « ثم عفونا عنكم » العفو عفو الله جل وعز عن خلقه وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران فإنه لا يكون معه عقوبة البتة. وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه فالعفو محو الذنب أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مأخوذ من قولك عفت الريح الأثر أي أذهبته وعفا الشيء كثر فهو من الأضداد ومنه قوله تعالى « حتى عفوا » . [ الأعراف 95 ]
قوله تعالى: « من بعد ذلك » أي من بعد عبادتكم العجل وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته. والله أعلم والعجل ولد البقرة والعجول مثله والجمع العجاجيل والأنثى عجلة عن أبي الجراح.
قوله تعالى: « لعلكم تشكرون » كي تشكروا عفو الله عنكم وقد تقدم معنى لعل وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قول دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه. كما تقدم في الفاتحة. قال الجوهري: الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف يقال: شكرته وشكرت له وباللام أفصح والشكران خلاف الكفران وتشكرت له مثل شكرت له. وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس ) قال الخطابي: هذا الكلام يتأول على معنيين أحدهما - أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له. والوجه الآخر - أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر.
في عبارات العلماء في معنى الشكر فقال سهل بن عبدالله الشكر: الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية. وقالت فرقة أخرى: الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ولذلك قال تعالى « اعملوا آل داود شكرا » [ سبأ: 13 ] فقال داود: كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك قال الآن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة قال: يا رب فأرني أخفى نعمك علي قال: يا داود تنفس فتنفس داود فقال الله تعالى من يحصي هذه النعمة الليل والنهار وقال موسى عليه السلام: كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازى بها عملي كله فأوحى الله إليه يا موسى الآن شكرتني وقال الجنيد: حقيقة الشكر العجز عن الشكر وعنه قال: كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وببن يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي: يا غلام ما الشكر؟ فقلت: ألا يعصى الله بنعمه فقال لي: أخشى أن يكون حظك من الله لسانك قال الجنيد فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي وقال الشبلي الشكر: التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسماوات وقال ذو النون المصري أبو الفيض الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال.
الآية 53 ( وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون )
قوله تعالى: « وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان » « إذا » اسم للوقت الماضي و « إذا » اسم للوقت المستقبل و « آتينا » أعطينا وقد تقدم جميع هذا والكتاب: التوراة بإجماع من المتأولين واختلف في الفرقان فقال الفراء وقطرب: المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا عليه السلام الفرقان قال النحاس: هذا خطأ في الإعراب والمعنى أما الإعراب فإن المعطوف على الشيء مثله وعلى هذا القول يكون المعطوف على الشيء خلافه وأما المعنى فقد قال تعالى « ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان » قال أبو إسحاق الزجاج: يكون الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره باسمين تأكيدا وحكي عن الفراء ومنه قول الشاعر:
وقدمت الأديم لراهشيه وألفى قولها كذبا ومينا
وقال آخر :
ألا حبذا هند وأرض بها هند وهند أتى من دونها النأي والبعد
فنسق البعد على النأي والمين على الكذب لاختلاف اللفظين تأكيدا ومنه قول عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
قال النحاس: وهذا إنما يجيء في الشعر وأحسن ما قيل في هذا قول مجاهد: فرقا بين الحق والباطل أي الذي علمه إياه وقال ابن زيد الفرقان انفراق البحر له حتى صار فرقا فعبروا وقيل: الفرقان الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ومنه قوله تعالى « إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا » [ الأنفال: 29 ] أي فرجا ومخرجا وقيل: إنه الحجة والبيان قال ابن بحر وقيل الواو صلة والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان والواو قد تزاد في النعوت كقولهم فلان حسن وطويل وأنشد :
إلى الملك القرم وبن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أراد إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة ودليل هذا التأويل قوله عز وجل: « ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء » [ الأنعام: 154 ] أي بين الحرام والحلال والكفر والإيمان والوعد والوعيد وغير ذلك. وقيل: الفرقان الفرق بينهم وبين قوم فرعون أنجى هؤلاء وأغرق أولئك ونظيره: « يوم الفرقان » فقيل يعني به يوم بدر نصر الله فيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأهلك أبا جهل وأصحابه.
قوله تعالى: « لعلكم تهتدون » لكي تهتدوا من الضلالة وقد تقدم.
الآية 54 ( وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم )
قوله تعالى: « وإذ قال موسى لقومه » القوم: الجماعة الرجال دون النساء قال الله تعالى: « لا يسخر قوم من قوم » [ الحجرات: 11 ] ثم قال: « ولا نساء من نساء » [ الحجرات: 11 ] وقال زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
وقال تعالى: « ولوطا إذ قال لقومه » [ الأعراف: 80 ] أراد الرجال دون النساء وقد يقع القوم على الرجل والنساء قال الله تعالى: « إنا أرسلنا نوحا إلى قومه » [ نوح: 1 ] وكذا كل نبي مرسل إلى النساء والرجال جميعا.
قوله تعالى: « يا قوم » منادى مضاف وحذفت الياء في « يا قوم » لأنه موضع حذف والكسرة تدل عليها وهي بمنزلة التنوين فحذفتها كما تحذف التنوين من المفرد ويجوز في غير القرآن إثباتها ساكنة فتقول: يا قومي لأنها اسم وهي في موضع خفض وإن شئت فتحتها وإن شئت ألحقت معها هاء فقلت: يا قوميه وإن شئت أبدلت منها ألفا لأنها أخف فقلت: يا قوما وإن شئت قلت: يا قوم بمعنى يا أيها القوم وإن جعلتهم نكرة نصبت ونونت وواحد القوم امرؤ على غير اللفظ وتقول: قوم وأقوام وأقاوم جمع الجمع والمراد هنا بالقوم عبدة العجل وكانت مخاطبته عليه السلام لهم بأمر من الله تعالى.
قوله تعالى: « إنكم ظلمتم أنفسكم » استغنى بالجمع القليل عن الكثير والكثير نفوس وقد يوضع الجمع الكثير موضع جمع القلة والقليل موضع الكثرة قال الله تعالى: « ثلاثة قروء » « البقرة: 228 ] وقال » وفيها ما تشتهيه الأنفس « [ الزخرف: 71 ] ويقال لكل من فعل فعلا يعود عليه ضرره: إنما أسأت إلى نفسك وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. »
قوله تعالى: « باتخاذكم العجل » قال بعض أرباب المعاني: عجل كل إنسان نفسه فمن أسقطه وخالف مراده فقد برئ من ظلمه والصحيح أنه هنا عجل على الحقيقة عبدوه كما نطق به التنزيل والحمد لله
قوله تعالى: « فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم » لما قال لهم فتوبوا إلى بارئكم قالوا كيف؟ قال « فاقتلوا أنفسكم » قال أرباب الخواطر ذللوها بالطاعات وكفوها عن الشهوات والصحيح أنه قتل على الحقيقة هنا والقتل: إماتة الحركة وقتلت الخمر: كسرت شدتها بالماء قال سفيان بن عينه التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل. وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري: لما قيل لهم: « فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم » قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم: كفوا فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي على ما تقدم وقال بعض المفسرين: أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك وقيل: وقف الذين عبدوا العجل صفا ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا - إذ لم يعبدوا العجل - من عبدالعجل. ويروى أن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال: ملعون من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله أو أتقاه. بيد أو رجل فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم - يعني من قتل - وأقبل الرجل يقتل من يليه ذكره النحاس وغيره وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم - على القول الأول - لأنهم لم يغيروا المنكر حين عبدوه وإنما اعتزلوا وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده. وهذه سنة الله في عباده إذا فشا المنكر ولم يغير عوقب الجميع روى جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز منهم وأمنع لا يغيرون إلا عمهم الله بعقاب ) أخرجه ابن ماجة في سننه وسيأتي الكلام في هذا المعنى إن شاء الله تعالى. فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم قاله ابن عباس وعلي رضي الله عنهما. وإنما رفع الله عنهم القتل لأنهم أعطوا المجهود في قتل أنفسهم فما أنعم الله على هذه الأمة نعمة بعد الإسلام هي أفضل من التوبة وقرأ قتادة فأقيلوا أنفسكم - من الإقالة - أي استقبلوها من العثرة بالقتل.
قوله تعالى: بارئكم « البارئ الخالق وبينهما فرق وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال والبرية: الخلق وهي فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز وقرأ أبو عمرو » بارئكم « - بسكون الهمزة - ويشعركم وينصركم ويأمركم واختلف النحاة في هذا فمنهم من يسكن الضمه والكسرة في الوصل وذلك في الشعر وقال أبو العباس المبرد: لا يجوز التسكين مع توالي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شعر وقراءة أبي عمرو لحن قال النحاس وغيره: وقد أجاز ذلك النحويون القدماء الأئمة وأنشدوا:»
إذا اعوججن قلت صاحب قوم بالدو أمثال السفين العوم
وقال امرؤ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب إثما من الله ولا واغل
وقال آخر: قالت سليمى اشتر لنا سويقا
وقال الآخر: رحت وفي رجليك ما فيهما وقد بدا هنك من المئزر
فمن أنكر التسكين في حرف الإعراب فحجته أن ذلك لا يجوز من حيث كان علما للإعراب قال أبو علي: وأما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها مع توالي الحركات وأصل برأ من تبري الشيء من الشيء وهو انفصاله منه فالخلق قد فصلوا من العدم إلى الوجود ومنه برئت من المرض برءا ( بالفتح ) كذا يقول أهل الحجاز وغيرهم يقول: برئت من المرض برءا ( بالضم ) وبرئت منك ومن الديون والعيوب براءة ومنه المبارأة للمرأة وقد بارأ شريكه وامرأته
قوله تعالى: « فتاب عليكم » في الكلام حذف تقديره ففعلتم « فتاب عليكم » أي فتجاوز عنكم أي على الباقين منكم.
قوله تعالى: « إنه هو التواب الرحيم » تقدم معناه والحمد لله.
الآية 55 ( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون )
قوله تعالى: « وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله » « وإذ قلتم » معطوف « يا موسى » نداء مفرد « لن نؤمن لك » أي نصدقك « حتى نرى الله جهرة » قيل: هم السبعون الذين اختارهم موسى وذلك أنهم لما أسمعهم كلام الله تعالى قالوا له بعد ذلك: « لن نؤمن لك » [ البقرة: 55 ] والإيمان بالأنبياء واجب بعد ظهور معجزاتهم فأرسل الله عليهم نارا من السماء فأحرقهم ثم دعا موسى ربه فأحياهم كما قال تعالى: « ثم بعثناكم من بعد موتكم » [ البقرة: 56 ] وستأتي قصة السبعين في الأعراف إن شاء الله تعالى قال ابن فورك: يحتمل أن تكون معاقبتهم لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقة بقولهم لموسى « أرنا الله جهرة » [ النساء: 153 ] وليس ذلك من مقدور موسى عليه السلام
وقد اختلف في جواز رؤية الله تعالى فأكثر المبتدعة على إنكارها في الدنيا والآخرة وأهل السنة والسلف على جوازها فيهما ووقوعها في الآخرة فعلى هذا لم يطلبوا من الرؤية محالا وقد سألها موسى عليه السلام. وسيأتي الكلام في الرؤية في « الأنعام » و « الأعراف » إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « جهرة » مصدر في موضع الحال ومعناه علانية وقيل عيانا قاله ابن عباس وأصل الجهر الظهور ومنه الجهر بالقراءة إنما هو إظهارها والمجاهرة بالمعاصي: المظاهرة بها ورأيت الأمير جهارا وجهرة أي غير مستتر بشيء وقرأ ابن عباس « جهرة » بفتح الهاء وهما لغتان مثل زهرة وزهرة وفي الجهر وجهان:
أحدهما - أنه صفة لخطابهم لموسى أنهم جهروا به وأعلنوا فيكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: وإذ قلتم جهرة يا موسى.
الثاني - أنه صفة لما سألوه من روية الله تعالى أن يروه جهرة وعيانا فيكون الكلام عله نسقه لا تقديم فيه ولا تأخير وأكد بالجهر فرقا بين رؤية العيان ورؤية المنام.
قوله تعالى: « فأخذتكم الصاعقة » قد تقدم في أول السورة معنى الصاعقة وقرأ عمر وعثمان وعلي « الصعقة » وهي قراءة ابن محيصين في جميع القرآن.
قوله تعالى: « وأنتم تنظرون » جملة في موضع الحال ويقال: كيف يموتون وهم ينظرون؟ فالجواب أن العرب تقول دور آل فلان تراءى أي يقابل بعضها بعضا وقيل: المعنى « تنظرون » أي إلى حالكم وما نزل بكم من الموت وآثار الصعقة.
الآية 56 ( ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون )
أي أحييناكم. قال قتادة: ماتوا وذهبت أرواحهم ثم ردوا لاستيفاء آجالهم. قال النحاس: وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبعث من قريش، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا والمعنى « لعلكم تشكرون » ما فعل بكم من البعث بعد الموت وقيل: ماتوا موت همود يعتبر به الغير، ثم أرسلوا وأصل البعث الإرسال. وقيل: بل أصله إثارة الشيء من محله، يقال: بعثت الناقة: أثرتها، أي حركتها، قال امرؤ القيس:
وفتيان صدق قد بعثت بسحرة فقاموا جميعا بين ونشوان
وقال عنترة:
وصحابة شم الأنوف بعثتهم ليلا وقد مال الكرى بطلاها
وقال بعضهم: « بعثناكم من بعد موتكم » [ البقرة: 56 ] علمناكم من بعد جهلكم.
قلت: والأول أصح، لأن الأصل الحقيقة، وكان موت عقوبة، ومنه قوله تعالى: « ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم » على ما يأتي [ البقرة: 243 ]
قال الماوردي: واختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته ومعاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين: أحدهما - بقاء تكليفهم لئلا يخلو عاقل من تعبد. الثاني: سقوط تكليفهم معتبرا بالاستدلال دون الاضطرار.
قلت: والأول أصح، فإن بني إسرائيل قد رأوا الجبل في الهواء ساقطا عليهم والنار محيطة بهم وذلك مما اضطرهم إلى الإيمان، وبقاء التكليف ثابت عليهم، ومثلهم قوم يونس. ومحال أن يكونوا غير مكلفين والله أعلم.
الآية: 57 ( وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )
قوله تعالى: « وظللنا عليكم الغمام » أي جعلناه عليكم كالظلة. والغمام جمع غمامة كسحابة وسحاب قاله الأخفش سعيد. قال الفراء: ويجوز غمائم وهي السحاب لأنها تغم المساء أي تسترها وكل مغطى فهو مغموم ومنه المغموم على عقله. وغم الهلال إذا غطاه الغيم والغين مثل الغيم ومنه قول عليه السلام: ( إنه ليغان على قلبي ) قال صاحب العين: غين عليه غطى عليه والغين شجر ملتف وقال السدي: الغمام السحاب الأبيض وفعل هذا بهم ليقيهم حر الشمس نهارا وينجلي في آخره ليستضيؤوا بالقمر ليلا وذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين وقتالهم وقالوا لموسى: « فاذهب أنت وربك فقاتلا » [ المائدة: 24 ] فعوقبوا في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في خمسة فراسخ أو ستة روي أنهم كانوا يمشو