لآية: 84 ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون )
قوله تعالى: « وإذ أخذنا ميثاقكم » تقدم القول فيه. « لا تسفكون دماءكم » المراد بنو إسرائيل، ودخل فيه بالمعنى من بعدهم. « لا تسفكون دماءكم » مثل « لا تعبدون » [ البقرة: 83 ] في الإعراب. وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء، وهي لغة، وأبو نهيك « تسفكون » بضم التاء وتشديد الفاء وفتح السين. والسفك: الصب.
فإن قيل: وهل يسفك أحد دمه ويخرج نفسه من داره؟ قيل له: لما كانت ملتهم واحدة وأمرهم واحد وكانوا في الأمم كالشخص الواحد جعل قتل بعضهم بعضا وإخراج بعضهم بعضا قتلا لأنفسهم ونفيا لها. وقيل: المراد القصاص، أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصا، فكأنه سفك دمه. وكذلك لا يزني ولا يرتد، فإن ذلك يبيح الدم. ولا يفسد فينفى، فيكون قد أخرج نفسه من دياره. وهذا تأويل فيه بعد وإن كان صحيح المعنى.
وإنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا ألا يقتل بعضهم بعضا، ولا ينفيه ولا يسترقه، ولا يدعه يسرق، إلى غير ذلك من الطاعات.
قلت: وهذا كله محرم علينا، وقد وقع ذلك كله بالفتن فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وفي التنزيل: « أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض » [ الأنعام: 65 ] وسيأتي. قال ابن خويز منداد: وقد يجوز أن يراد به الظاهر، لا يقتل الإنسان نفسه، ولا يخرج من داره سفها، كما تقتل الهند أنفسها. أو يقتل الإنسان نفسه من جهد وبلاء يصيبه، أو يهيم في الصحراء ولا يأوي البيوت جهلا في ديانته وسفها في حلمه، فهو عموم في جميع ذلك. وقد روي أن عثمان بن مظعون بايع في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزموا أن يلبسوا المسوح، وأن يهيموا في الصحراء ولا يأووا البيوت، ولا يأكلوا اللحم ولا يغشوا النساء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاء إلى دار عثمان بن مظعون فلم يجده، فقال لامرأته: ( ما حديث بلغني عن عثمان ) ؟ وكرهت أن تفشي سر زوجها، وأن تكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن كان قد بلغك شيء فهو كما بلغك، فقال: ( قولي لعثمان أخلاف لسنتي أم على غير ملتي، إني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأغشى النساء وآوي البيوت وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني ) فرجع عثمان وأصحابه عما كانوا عليه.
قوله تعالى: « ولا تخرجون » معطوف. قوله تعالى: « أنفسكم » النفس مأخوذة من النفاسة، فنفس الإنسان أشرف ما فيه. قوله تعالى: « من دياركم » والدار: المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال. وقال الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار لهم وإن لم تكن فيه أبنية. وقيل: سميت دارا لدورها على سكانها، كما سمي الحائط حائطا لإحاطته على ما يحويه.
قوله تعالى: « ثم أقررتم » من الإقرار، أي بهذا الميثاق الذي أخذ عليكم وعلى أوائلكم. قوله تعالى: « وأنتم تشهدون » من الشهادة، أي شهداء بقلوبكم على هذا وقيل: الشهادة بمعنى الحضور، أي تحضرون سفك دمائكم، وإخراج أنفسكم من دياركم.
الآية: 85 ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون )
*4*قوله تعالى { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم. .. }
قوله تعالى: « ثم أنتم هؤلاء » « أنتم » في موضع رفع بالابتداء، ولا يعرب، لأنه مضمر. وضمت التاء من « أنتم » لأنها كانت مفتوحة إذا خاطبت واحدا مذكرا، ومكسورة إذا خاطبت واحدة مؤنثة، فلما ثنيت أو جمعت لم يبق إلا الضمة. قوله تعالى: « هؤلاء » قال القتبي: التقدير يا هؤلاء. قال النحاس: هذا خطأ على قول سيبويه، ولا يجوز هذا أقبل. وقال الزجاج: هؤلاء بمعنى الذين. قوله تعالى: « تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم » داخل في الصلة، أي ثم أنتم الذين تقتلون. وقيل: « هؤلاء » رفع بالابتداء، و « أنتم » خبر مقدم، و « تقتلون » حال من أولاء. وقيل: « هؤلاء » نصب بإضمار أعني. وقرأ الزهري « تقتلون » بضم التاء مشددا، وكذلك « فلم تقتلون أنبياء الله » [ البقرة: 91 ] . وهذه الآية خطاب للمواجهين لا يحتمل رده إلى الأسلاف. نزلت في بني قينقاع وقريظة والنضير من اليهود، وكانت بنو قينقاع أعداء قريظة، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة. والنضير والأوس والخزرج إخوان، وقريظة والنضير أيضا إخوان، ثم افترقوا فكانوا يقتتلون، ثم يرتفع الحرب فيفدون أساراهم، فعيرهم الله بذلك فقال: « وإن يأتوكم أسارى تفادوهم » .
قوله تعالى: « تظاهرون » معنى « تظاهرون » تتعاونون، مشتق من الظهر، لأن بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر، ومنه قول الشاعر:
تظاهرتم أستاه بيت تجمعت على واحد لا زلتم قرن واحد
وقرأ أهل المدينة وأهل مكة « تظاهرون » بالتشديد، يدغمون التاء في الظاء لقربها منها، والأصل تتظاهرون. وقرأ الكوفيون « تظاهرون » مخففا، حذفوا التاء الثانية لدلالة الأولى عليها، وكذا « وإن تظاهرا عليه » [ التحريم: 4 ] . وقرأ قتادة « تظهرون عليهم » وكله راجع إلى معنى التعاون، ومنه: « وكان الكافر على ربه ظهيرا » [ الفرقان: 55 ] وقوله: « والملائكة بعد ذلك ظهير » [ التحريم: 4 ] فاعلمه. « بالإثم والعدوان » والإثم: الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم. والعدوان: الإفراط في الظلم والتجاوز فيه.
قوله تعالى: « وإن يأتوكم أسارى » شرط وجوابه: « تفادوهم » و « أسارى » نصب على الحال. قال أبو عبيد وكان أبو عمرو يقول: ما صار في أيديهم فهم الأسارى، وما جاء مستأسرا فهم الأسرى. ولا يعرف أهل اللغة ما قال أبو عمرو، إنما هو كما تقول: سكارى وسكرى. وقراءة الجماعة « أسارى » ما عدا حمزة فإنه قرأ « أسرى » على فعلى، جمع أسير بمعنى مأسور، والباب - في تكسيره إذا كان كذلك - فعلى، كما تقول: قتيل وقتلى، وجريح وجرحى. قال أبو حاتم: ولا يجوز أسارى. وقال الزجاج: يقال أسارى كما يقال سكارى، وفعالى هو الأصل، وفعالى داخلة عليها. وحكي عن محمد بن يزيد قال: يقال أسير وأسراء، كظريف وظرفاء. قال ابن فارس: يقال في جمع أسير أسرى وأسارى، وقرئ بهما. وقيل: أسارى ( بفتح الهمزة ) وليست بالعالية.
الأسير مشتق من الإسار، وهو القد الذي يشد به المحمل فسمي أسيرا، لأنه يشد وثاقه، والعرب تقول: قد أسر قتبه، أي شده، ثم سمي كل أخيذ أسيرا وإن لم يؤسر، وقال الأعشى:
وقيدني الشعر في بيته كما قيد الآسرات الحمارا
أي أنا في بيته، يريد ذلك بلوغه النهاية فيه. فأما الأسر في قوله عز وجل: « وشددنا أسرهم » [ الإنسان: 28 ] فهو الخلق. وأسرة الرجل رهطه، لأنه يتقوى بهم.
قوله تعالى: « تفادوهم » كذا قرأ نافع وحمزة والكسائي. والباقون « تفدوهم » من الفداء. والفداء: طلب الفدية في الأسير الذي في أيديهم. قال الجوهري: « الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر، وإذا فتح فهو مقصور، يقال: قم فدى لك أبي. ومن العرب من يكسر » فداء « بالتنوين إذا جاور لام الجر خاصة، فيقول: فداء لك، لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء. وأنشد الأصمعي للنابغة: »
مهلا فداء لك الأقوام كلهم وما أثمر من مال ومن ولد
ويقال: فداه وفاداه إذا أعطى فداءه فأنقذه. وفداه بنفسه، وفداه يفديه إذا قال جعلت فداك. وتفادوا، أي فدى بعضهم بعضا « . والفدية والفدى والفداء كله بمعنى واحد. وفاديت نفسي إذا أطلقتها بعد أن دفعت شيئا، بمعنى فديت، ومنه قول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: فاديت نفسي وفاديت عقيلا. وهما فعلان يتعديان إلى مفعولين الثاني منهما بحرف الجر، تقول: فديت نفسي بمالي وفاديته بمالي، قال الشاعر: »
قفي فادي أسيرك إن قومي وقومك ما أرى لهم اجتماعا
قوله تعالى: « وهو محرم عليكم إخراجهم » « هو » مبتدأ وهو كناية عن الإخراج، و « محرم » خبره، و « إخراجهم » بدل من « هو » وإن شئت كان كناية عن الحديث والقصة، والجملة التي بعده خبره، أي والأمر محرم عليكم إخراجهم. فـ « إخراجهم » مبتدأ ثان. و « محرم » خبره، والجملة خبر عن « هو » ، وفي « محرم » ضمير ما لم يسم فاعله يعود على الإخراج. ويجوز أن يكون « محرم » مبتدأ، و « إخراجهم » مفعول ما لم يسم فاعله يسد مسد خبر « محرم » ، والجملة خبر عن « هو » . وزعم الفراء أن « هو » عماد، وهذا عند البصريين خطأ لا معنى له، لأن العماد لا يكون في أول الكلام. ويقرأ « وهو » بسكون الهاء لثقل الضمة، كما قال الشاعر:
فهْو لا تنمي رميته ماله لا عد من نفره
وكذلك إن جئت باللام وثم، وقد تقدم.
*4*قوله تعالى { ... أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون }
قوله تعالى: « أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض » قال علماؤنا: كان الله تعالى قد أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتل، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أساراهم، فأعرضوا عن كل ما أمروا به إلا الفداء، فوبخهم الله على ذلك توبيخا يتلى فقال: « أفتؤمنون ببعض الكتاب » [ البقرة: 85 ] وهو التوراة « وتكفرون ببعض » [ البقرة: 85 ] !!
قلت: ولعمر الله لقد أعرضنا نحن عن الجميع بالفتن فتظاهر بعضنا على بعض! ليت بالمسلمين، بل بالكافرين! حتى تركنا إخواننا أذلاء صاغرين يجري عليهم حكم المشركين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!.
قال علماؤنا: فداء الأسارى واجب وإن لم يبق درهم واحد. قال ابن خويز منداد: تضمنت الآية وجوب فك الأسرى، وبذلك وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فك الأسارى وأمر بفكهم، وجرى بذلك عمل المسلمين وانعقد به الإجماع. ويجب فك الأسارى من بيت المال، فإن لم يكن فهو فرض على كافة المسلمين، ومن قام به منهم أسقط الفرض عن الباقين. وسيأتي.
قوله تعالى: « فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا » ابتداء وخبر. والخزي الهوان. قال الجوهري: وخزي - بالكسر - يخزى خزيا إذا ذل وهان. قال ابن السكيت: وقع في بلية. وأخزاه الله، وخزي أيضا يخزى خزاية إذا استحيا، فهو خزيان. وقوم خزايا وامرأة خزيا.
قوله تعالى: « ويوم القيامة يردون » « يردون » بالياء قراءة العامة، وقرأ الحسن « تردون » بالتاء على الخطاب. « إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون » تقدم القول فيه، وكذلك: « أولئك الذين اشتروا » الآية فلا معنى للإعادة. « يوم » منصوب بـ « يردون » .
الآية 86 ( أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون )
الآية: 87 ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون )
قوله تعالى: « ولقد آتينا موسى الكتاب » يعني التوراة. قوله تعالى: « وقفينا من بعده بالرسل » أي اتبعنا والتقفية: الإتباع والإرداف، مأخوذ من اتباع القفا وهو مؤخر العنق. تقول استقفيته إذا جئت من خلفه، ومنه سميت قافية الشعر، لأنها تتلو سائر الكلام. والقافية: القفا، ومنه الحديث: ( يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ) . والقفي والقفاوة: ما يدخر من اللبن وغيره لمن تريد إكرامه. وقفوت الرجل: قذفته بفجور. وفلان قفوتي أي تهمتي. وقفوتي أي خيرتي. قال ابن دريد كأنه من الأضداد. قال العلماء: وهذه الآية مثل قوله تعالى: « ثم أرسلنا رسلنا تترى » [ المؤمنون: 44 ] . وكل رسول جاء بعد موسى فإنما جاء بإثبات التوراة والأمر بلزومها إلى عيسى عليه السلام. ويقال: رسل ورسل لغتان، الأولى لغة الحجاز، والثانية لغة تميم، وسواء كان مضافا أو غير مضاف. وكان أبو عمرو يخفف إذا أضاف إلى حرفين، ويثقل إذا أضاف إلى حرف واحد.
قوله تعالى: « وآتينا عيسى ابن مريم البينات » أي الحجج والدلالات، وهي التي ذكرها الله في « آل عمران » و « المائدة » ، قاله ابن عباس. قوله تعالى: « وأيدناه » أي قويناه. وقرأ مجاهد وابن محيصن « آيدناه » بالمد، وهما لغتان. قوله تعالى: « بروح القدس » روى أبو مالك وأبو صالح عن ابن عباس ومعمر عن قتادة قالا: جبريل عليه السلام. وقال حسان:
وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس به خفاء
قال النحاس: وسمي جبريل روحا وأضيف إلى القدس، لأنه كان بتكوين الله عز وجل له روحا من غير ولادة والد ولده، وكذلك سمي عيسى روحا لهذا. وروى غالب بن عبدالله عن مجاهد قال: القدس هو الله عز وجل. وكذا قال الحسن: القدس هو الله، وروحه جبريل. وروى أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس: « بروح القدس » قال: هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى، وقاله سعيد بن جبير وعبيد بن عمير، وهو اسم الله الأعظم. وقيل: المراد الإنجيل، سماه روحا كما سمى الله القرآن روحا في قوله تعالى: « وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا » [ الشورى: 52 ] . والأول أظهر، والله تعالى اعلم. والقدس: الطهارة. وقد تقدم.
قوله تعالى: « أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم » أي بما لا يوافقها ويلائمها، وحذفت الهاء لطول الاسم، أي بما لا تهواه.
قوله تعالى: « استكبرتم » عن إجابته احتقارا للرسل، واستبعادا للرسالة. وأصل الهوى الميل إلى الشيء، ويجمع أهواء، كما جاء في التنزيل، ولا يجمع أهوية، على أنهم قد قالوا في ندى أندية، قال الشاعر:
في ليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر الكلب في ظلمائها الطنبا
قال الجوهري: وهو شاذ وسمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار، ولذلك لا يستعمل في الغالب إلا فيما ليس بحق وفيما لا خير فيه، وهذه الآية من ذلك. وقد يستعمل في الحق، ومنه قول عمر رضي الله عنه في أسارى بدر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. وقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. أخرجهما مسلم.
قوله تعالى: « ففريقا كذبتم » « ففريقا » منصوب بـ « كذبتم » ، وكذا « وفريقا تقتلون » فكان ممن كذبوه عيسى ومحمد عليهما السلام، وممن قتلوه يحيى وزكريا عليهما السلام، على ما يأتي بيانه في « سبحان » [ الإسراء ] إن شاء الله تعالى.
الآية: 88 ( وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون )
قوله تعالى: « وقالوا » يعني اليهود. قوله تعالى: « قلوبنا غلف » بسكون اللام جمع أغلف، أي عليها أغطية. وهو مثل قوله: « قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه » [ فصلت: 5 ] أي في أوعية. قال مجاهد: « غلف » عليها غشاوة. وقال عكرمة: عليها طابع. وحكى أهل اللغة غلفت السيف جعلت له غلافا، فقلب أغلف، أي مستور عن الفهم والتمييز. وقرأ ابن عباس والأعرج وابن محيصن « غلف » بضم اللام. قال ابن عباس: أي قلوبنا ممتلئة علما لا تحتاج إلى علم محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره. وقيل: هو جميع غلاف. مثل خمار وخمر، أي قلوبنا أوعية للعلو فما بالها لا تفهم عنك وقد وعينا علما كثيرا! وقيل: المعنى فكيف يعزب عنها علم محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: « بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون » بين أن السبب في نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم واجترائهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بأعظم منه. وأصل اللعن في كلام العرب الطرد والإبعاد. ويقال للذئب: لعين. وللرجل الطريد: لعين، وقال الشماخ:
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين
ووجه الكلام: مقام الذئب اللعين كالرجل، فالمعنى أبعدهم الله من رحمته. وقيل: من توفيقه وهدايته. وقيل: من كل خير، وهذا عام. « فقليلا » نعت لمصدر محذوف، تقديره فإيمانا قليلا ما يؤمنون. وقال معمر: المعنى لا يؤمنون إلا بقليل مما في أيديهم ويكفرون بأكثره، ويكون « قليلا » منصوب بنزع حرف الصفة. و « ما » صلة، أي فقليلا يؤمنون. وقال الواقدي: معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا، كما تقول: ما أقل ما يفعل كذا، أي لا يفعله البتة. وقال الكسائي: تقول العرب مررنا بأرض قل ما تنبت الكراث والبصل، أي لا تنبت شيئا.