الآية: 177 ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون )
قوله تعالى: « ليس البر » اختلف من المراد بهذا الخطاب، فقال قتادة: ذكر لنا أن رجلا سأل نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البر، فأنزل اللّه هذه الآية. قال: وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك وجبت له الجنة، فأنزل اللّه هذه الآية، وقال الربيع وقتادة أيضا: الخطاب لليهود والنصارى لأنهم اختلفوا في التوجه والتولي، فاليهود إلى المغرب قبل بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق مطلع الشمس، وتكلموا في تحويل القبلة وفضلت كل فرقة توليتها، فقيل لهم: ليس البر ما أنتم فيه، ولكن البر من آمن باللّه.
قرأ حمزة وحفص « البر » بالنصب، لأن ليس من أخوات كان، يقع بعدها المعرفتان فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر، فلما وقع بعد « ليس » : « البر » نصبه، وجعل « أن تولوا » الاسم، وكان المصدر أولى بأن يكون اسما لأنه لا يتنكر، والبر قد يتنكر والفعل أقوى في التعريف. وقرأ الباقون « البر » بالرفع على أنه اسم ليس، وخبره « أن تولوا » ، تقديره ليس البر توليتكم وجوهكم، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر، كقوله: « ما كان حجتهم إلا أن قالوا » [ الجاثية: 25 ] ، « ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوءى أن كذبوا » [ الروم: 10 ] « فكان عاقبتهما أنهما في النار » [ الحشر: 17 ] وما كان مثله. ويقوي قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله: « وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها » [ البقرة: 189 ] ولا يجوز فيه إلا الرفع، فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له. وكذلك هو في مصحف أبي بالباء « ليس البر بأن تولوا » وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا، وعليه أكثر القراء، والقراءتان حسنتان.
قوله تعالى: « ولكن البر من آمن بالله » البر ههنا اسم جامع للخير، والتقدير: ولكن البر بر من آمن، فحذف المضاف، كقوله تعالى: « واسأل القرية » [ يوسف: 82 ] ، « وأشربوا في قلوبهم العجل » [ البقرة: 93 ] قاله الفراء وقطرب والزجاج. وقال الشاعر:
فإنما هي إقبال وإدبار
أي ذات إقبال وذات إدبار وقال النابغة:
وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب
أي كخلالة أبي مرحب، فحذف. وقيل: المعنى ولكن ذا البر، كقوله تعالى: « هم درجات عند الله » [ آل عمران: 163 ] أي ذوو درجات. وذلك أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وفرضت الفرائض وصرفت القبلة إلى الكعبة وحدت الحدود أنزل اللّه هذه الآية فقال: ليس البر كله أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك، ولكن البر - أي ذا البر - من آمن باللّه، إلى آخرها، قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وعطاء وسفيان والزجاج أيضا. ويجوز أن يكون « البر » بمعنى البار والبر، والفاعل قد يسمى بمعنى المصدر، كما يقال: رجل عدل، وصوم وفطر. وفي التنزيل: « إن أصبح ماؤكم غورا » [ الملك: 30 ] أي غائرا، وهذا اختيار أبي عبيدة. وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت « ولكن البر » بفتح الباء.
قوله تعالى: « وآتى المال على حبه » استدل به من قال: إن في المال حقا سوى الزكاة وبها كمال البر. وقيل: المراد الزكاة المفروضة، والأول أصح، لما خرجه الدارقطني عن فاطمة بنت قيس قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( إن في المال حقا سوى الزكاة ) ثم تلا هذه الآية « ليس البر أن تولوا وجوهكم » إلى آخر الآية. وأخرجه ابن ماجة في سننه والترمذي في جامعه وقال: « هذا حديث ليس إسناده بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يضعف. وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله وهو أصح » .
قلت: والحديث وإن كان فيه مقال فقد دل على صحته معنى ما في الآية نفسها من قوله تعالى: « وأقام الصلاة وآتى الزكاة » فذكر الزكاة مع الصلاة، وذلك دليل على أن المراد بقوله: « وآتى المال على حبه » ليس الزكاة المفروضة، فإن ذلك كان يكون تكرارا، واللّه أعلم. واتفق العلماء على أنه إذا نزلت بالمسلمين حاجة بعد أداء الزكاة فإنه يجب صرف المال إليها. قال مالك رحمه اللّه: يجب على الناس فداء أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم. وهذا إجماع أيضا، وهو يقوي ما اخترناه، والموفق الإله.
قوله تعالى: « على حبه » الضمير في « حبه » اختلف في عوده، فقيل: يعود على المعطي للمال، وحذف المفعول وهو المال. ويجوز نصب « ذوي القربى » بالحب، فيكون التقدير على حب المعطي ذوي القربى 0 وقيل: يعود على المال، فيكون المصدر مضافا إلى المفعول. قال ابن عطية: ويجيء قوله « على حبه » اعتراضا بليغا أثناء القول.
قلت: ونظيره قوله الحق: « ويطعمون الطعام على حبه مسكينا » [ الإنسان: 8 ] فإنه جمع المعنيين، الاعتراض وإضافة المصدر إلى المفعول، أي على حب الطعام. ومن الاعتراض قوله الحق: « ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك » [ النساء: 124 ] وهذا عندهم يسمى التتميم، وهو نوع من البلاغة، ويسمى أيضا الاحتراس والاحتياط، فتمم بقوله « على حبه » وقوله: « وهو مؤمن » [ النساء: 124 ] ، ومنه قول زهير:
من يلق يوما على علاته هرما يلق السماحة منه والندى خلقا
وقال امرؤ القيس:
على هيكل يعطيك قبل سؤاله أفانين جري غير كز ولا وان
فقوله: « على علاته » و « قبل سؤاله » تتميم حسن، ومنه قول عنترة:
أثني علي بما علمت فإنني سهل مخالفتي إذا لم أظلم
فقوله: « إذا لم أظلم » تتميم حسن. وقال طرفة:
فسقى ديارك غير مفسدها صوب الربيع وديمة تهمي
وقال الربيع بن ضبع الفزاري:
فنيت وما يفنى صنيعي ومنطقي وكل امرئ إلا أحاديثه فان
فقوله: « غير مفسدها » ، و « إلا أحاديثه » تتميم واحتراس. وقال أبو هفان:
فأفنى الردى أرواحنا غير ظالم وأفنى الندى أموالنا غير عائب
فقوله: « غير ظالم » و « غير عائب » تتميم واحتياط، وهو في الشعر كثير. وقيل: يعود على الإيتاء، لأن الفعل يدل على مصدره، وهو كقوله تعالى: « ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم » [ آل عمران: 180 ] أي البخل خيرا لهم، فإذا أصابت الناس حاجة أو فاقة فإيتاء المال حبيب إليهم. وقيل: يعود على اسم اللّه تعالى في قوله « من آمن باللّه » . والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه وهو صحيح شحيح يخشى الفقر ويأمن البقاء.
واختلف هل يعطى اليتيم من صدقة التطوع بمجرد اليتم على وجه الصلة وإن كان غنيا، أو لا يعطى حتى يكون فقيرا، قولان للعلماء. وهذا على أن يكون إيتاء المال غير الزكاة الواجبة، على ما نبينه آنفا.
قوله تعالى: « والموفون بعهدهم إذا عاهدوا » أي فيما بينهم وبين اللّه تعالى وفيما بينهم وبين الناس. « والصابرين في البأساء والضراء » البأساء: الشدة والفقر. والضراء: المرض والزمانة، قاله ابن مسعود. وقال عليه السلام: ( يقول اللّه تعالى أيما عبد من عبادي ابتليته ببلاء في فراشه فلم يشك إلى عواده أبدلته لحما خيرا من لحمه ودما خيرا من دمه فإن قبضته فإلى رحمتي وإن عافيته عافيته وليس له ذنب ) قيل: يا رسول اللّه، ما لحم خير من لحمه؟ قال: ( لحم لم يذنب ) قيل: فما دم خير من دمه؟ قال: ( دم لم يذنب ) . والبأساء والضراء اسمان بنيا على فعلاء، ولا فعل لهما، لأنهما اسمان وليسا بنعت. « وحين البأس » أي وقت الحرب.
قوله تعالى: « والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين » فقيل: يكون « الموفون » عطفا على « من » لأن من في موضع جمع ومحل رفع، كأنه قال: ولكن البر المؤمنون والموفون، قاله الفراء والأخفش. « والصابرين » نصب على المدح، أو بإضمار فعل. والعرب تنصب على المدح وعلى الذم كأنهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه أول الكلام، وينصبونه. فأما المدح فقوله: « والمقيمين الصلاة » [ النساء: 162 ] . وأنشد الكسائي:
وكل قوم أطاعوا أمر مرشدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها
الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها
وأنشد أبو عبيدة:
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر
وقال آخر:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
فنصب على المدح. وأما الذم فقوله تعالى: « ملعونين أينما ثقفوا » [ الأحزاب: 61 ] الآية. وقال عروة بن الورد:
سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور
وهذا مهيع في النعوت، لا مطعن فيه من جهة الإعراب، موجود في كلام العرب كما بينا. وقال بعض من تعسف في كلامه: إن هذا غلط من الكتاب حين كتبوا مصحف الإمام، قال: والدليل على ذلك ما روي عن عثمان أنه نظر في المصحف فقال: أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. وهكذا قال في سورة النساء « والمقيمين الصلاة » [ النساء: 162 ] ، وفي سورة المائدة « والصابئون » [ المائدة: 69 ] . والجواب ما ذكرناه. وقيل: « الموفون » رفع على الابتداء والخبر محذوف، تقديره وهم الموفون. وقال الكسائي: « والصابرين » عطف على « ذوي القربى » كأنه قال: وآتى الصابرين. قال النحاس: « وهذا القول خطأ وغلط بين، لأنك إذا نصبت « والصابرين » ونسقته على « ذوي القربى » دخل في صلة » من « وإذا رفعت » والموفون « على أنه نسق على » من « فقد نسقت على » من « من قبل أن تتم الصلة، وفرقت بين الصلة والموصول بالمعطوف » . وقال الكسائي: وفي قراءة عبدالله « والموفين، والصابرين » . وقال النحاس: « يكونان منسوقين على « ذوي القربى » أو على المدح. قال الفراء: وفي قراءة عبدالله في النساء » والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة « [ النساء: 162 ] . وقرأ يعقوب والأعمش » والموفون والصابرون « بالرفع فيهما. وقرأ الجحدري » بعهودهم « . وقد قيل: إن » والموفون « عطف على الضمير الذي في » آمن « . وأنكره أبو علي وقال: ليس المعنى عليه، إذ ليس المراد أن البر بر من آمن باللّه هو والموفون، أي آمنا جميعا. كما تقول: الشجاع من أقدم هو وعمرو، وإنما الذي بعد قوله » من آمن « تعداد لأفعال من آمن وأوصافهم.»
قال علماؤنا: هذه آية عظيمة من أمهات الأحكام، لأنها تضمنت ست عشرة قاعدة: الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته - وقد أتينا عليها في « الكتاب الأسنى » - والنشر والحشر والميزان والصراط والحوض والشفاعة والجنة والنار - وقد أتينا عليها في كتاب « التذكرة » - والملائكة والكتب المنزلة وأنها حق من عند الله - كما تقدم - والنبيين وإنفاق المال فيما يعن من الواجب والمندوب وإيصال القرابة وترك قطعهم وتفقد اليتيم وعدم إهماله والمساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل - قيل المنقطع به، وقيل: الضيف - والسؤال وفك الرقاب. وسيأتي بيان هذا في آية الصدقات، والمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهود والصبر في الشدائد. وكل قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب. وتقدم التنبيه على أكثرها، ويأتي بيان باقيها بما فيها في موضعها إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون » وصفهم بالصدق والتقوى في أمورهم والوفاء بها، وأنهم كانوا جادين في الدين، وهذا غاية الثناء. والصدق: خلاف الكذب ويقال: صدقوهم القتال. والصديق: الملازم للصدق، وفي الحديث: ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللّه صديقا ) .
الآية: 178 ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم )
روى البخاري والنسائي والدارقطني عن ابن عباس قال: « كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية، فقال اللّه لهذه الأمة: » كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء « فالعفو أن يقبل الدية في العمد » فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان « يتبع بالمعروف ويؤدي بإحسان » ذلك تخفيف من ربكم ورحمة « مما كتب على من كان قبلكم » فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم « قتل بعد قبول الدية » . هذا لفظ البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال سمعت مجاهدا قال سمعت ابن عباس يقول: وقال الشعبي في قوله تعالى: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » قال: أنزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا فقالوا، نقبل بعبدنا فلان بن فلان، وبأمتنا فلانة بنت فلان، ونحوه عن قتادة.
قوله تعالى: « كتب عليكم القصاص » « كتب » معناه فرض وأثبت، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
وقد قيل: إن « كتب » هنا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء. والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه، ومنه القاص لأنه يتبع الآثار والأخبار. وقص الشعر اتباع أثره، فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، ومنه « فارتدا على آثارهما قصصا » [ الكهف: 64 ] . وقيل: القص القطع، يقال: قصصت ما بينهما. ومنه أخذ القصاص، لأنه يجرحه مثل جرحه أو يقتله به، يقال: أقص الحاكم فلانا من فلان وأباءه به فأمثله فامتثل منه، أي اقتص منه.
صورة القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر اللّه والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قاتل وليه وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى فتقتل غير القاتل، وهو معنى قوله عليه السلام: ( إن من أعتى الناس على اللّه يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول الجاهلية ) . قال الشعبي وقتادة وغيرهما: إن أهل الجاهلية كان فيهم بغي وطاعة للشيطان، فكان الحي إذا كان فيه عز ومنعة فقتل لهم عبد، قتله عبد قوم آخرين قالوا: لا نقتل به إلا حرا، وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا، وإذا قتل لهم وضيع قالوا: لا نقتل به إلا شريفا، ويقولون: [ القتل أوقى للقتل ] بالواو والقاف، ويروي [ أبقى ] بالباء والقاف، ويروى [ أنفى ] بالنون والفاء، فنهاهم اللّه عن البغي فقال: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد » الآية، وقال « ولكم في القصاص حياة » [ البقرة: 179 ] . وبين الكلامين في الفصاحة والجزل بون عظيم.
لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الأمر، فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود وغير ذلك، لأن اللّه سبحانه خاطب جميع المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في إقامة القصاص وغيره من الحدود. وليس القصاص بلازم إنما اللازم ألا يتجاوز القصاص وغيره من الحدود إلى الاعتداء، فأما إذا وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو فذلك مباح، على ما يأتي بيانه. فإن قيل: فإن قوله تعالى « كتب عليكم » معناه فرض وألزم، فكيف يكون القصاص غير واجب؟ قيل له: معناه إذا أردتم، فأعلم أن القصاص هو الغاية عند التشاح. والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة، وهو مما يدخل على الناس كرها، فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى، وشبههن.
قوله تعالى: « الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى » الآية. اختلف في تأويلها، فقالت طائفة: جاءت الآية مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه، فبينت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا، والأنثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر، فالآية محكمة وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] ، وبينه النبي صلى اللّه عليه وسلم بسنته لما قتل اليهودي بالمرأة، قاله مجاهد، وذكره أبو عبيد عن ابن عباس. وروي عن ابن عباس أيضا أنها منسوخة بآية « المائدة » وهو قول أهل العراق.
قال الكوفيون والثوري: يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، واحتجوا بقوله تعالى: « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى » فعم، وقوله: « وكتبا عليهم فيها أن النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] ، قالوا: والذمي مع المسلم متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم كذلك، وكلاهما قد صار من أهل دار الإسلام، والذي يحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى مال المسلم، فدل على مساواته لدمه إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. واتفق أبو حنيفة وأصحابه والثوري وابن أبي ليلى على أن الحر يقتل بالعبد كما يقتل العبد به، وهو قول داود، وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي اللّه عنهما، وبه قال سعيد بن المسيب وقتادة وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة. والجمهور من العلماء لا يقتلون الحر بالعبد، للتنويع والتقسيم في الآية. وقال أبو ثور: لما اتفق جميعهم على أنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفوس كانت النفوس أحرى بذلك، ومن فرق منهم بين ذلك فقد ناقض. وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد. وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، ويتصرف فيه الحر كيف شاء، فلا مساواة بينه وبين الحر ولا مقاومة.
قلت: هذا الإجماع صحيح، وأما قوله أولا: « ولما اتفق جميعهم - إلى قوله - فقد ناقض » فقد قال ابن أبي ليلى وداود بالقصاص بين الأحرار والعبيد في النفس وفي جميع الأعضاء، واستدل داود بقوله عليه السلام: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم يفرق بين حر وعبد. وسيأتي بيانه في « النساء » إن شاء اللّه تعالى.
والجمهور أيضا على أنه لا يقتل مسلم بكافر، لقوله صلى اللّه عليه وسلم: ( لا يقتل مسلم بكافر ) أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب. ولا يصح لهم ما رووه من حديث ربيعة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر، لأنه منقطع، ومن حديث ابن البيلماني وهو ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرفوعا. قال الدارقطني: « لم يسنده غير إبراهيم بن أبي يحيى وهو متروك الحديث. والصواب عن ربيعة عن ابن البيلماني مرسل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وابن البيلماني ضعيف الحديث لا تقوم به حجة إذا وصل الحديث، فكيف بما يرسله » .
قلت: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري، وهو يخصص عموم قوله تعالى: « كتب عليكم القصاص في القتلى » الآية، وعموم قوله: « النفس بالنفس » [ المائدة: 45 ] .
روي عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين، ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا، أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة. وإذا قتلت امرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلها قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها. روى هذا الشعبي عن علي، ولا يصح، لأن الشعبي لم يلق عليا. وقد روى الحكم عن علي وعبدالله قالا: إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود، وهذا يعارض رواية الشعبي عن علي. وأجمع العلماء على أن الأعور والأشل إذا قتل رجلا سالم الأعضاء أنه ليس لوليه أن يقتل الأعور، ويأخذ منه نصف الدية من أجل أنه قتل ذا عينين وهو أعور، وقتل ذا يدين وهو أشل، فهذا يدل على أن النفس مكافئة للنفس، ويكافئ الطفل فيها الكبير.
ويقال لقائل ذلك: إن كان الرجل لا تكافئه المرأة ولا تدخل تحت قول النبي صلى اللّه عليه وسلم: ( المسلمون تتكافأ دماؤهم ) فلم قتلت الرجل بها وهي لا تكافئه ثم تأخذ نصف الدية، والعلماء قد أجمعوا أن الدية لا تجتمع مع القصاص، وأن الدية إذا قبلت حرم الدم وارتفع القصاص، فليس قولك هذا بأصل ولا قياس، قاله أبو عمر رضي اللّه عنه. وإذا قتل الحر العبد، فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد، وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن، علي والحسن، وقد أنكر ذلك عنهم أيضا.
وأجمع العلماء على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء. وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات. قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والثوري وأبو ثور: وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس. وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس، وهما محجوجان بإلحاق ما دون النفس بالنفس على طريق الأحرى والأولى، على ما تقدم.
قال ابن العربي: ولقد بلغت الجهالة بأقوام إلى أن قالوا: يقتل الحر بعبد نفسه، ورووا في ذلك حديثا عن الحسن عن سمرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من قتل عبده قتلناه ) وهو حديث ضعيف. ودليلنا قوله تعالى: « ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل » [ الإسراء: 33 ] والولي ههنا السيد، فكيف يجعل له سلطان على نفسه « . وقد اتفق الجميع على أن السيد لو قتل عبده خطأ أنه لا تؤخذ منه قيمته لبيت المال، وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ( ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به ) . »
فإن قيل: فإذا قتل الرجل زوجته لم لم تقولوا: ينصب النكاح شبهة في درء القصاص عن الزوج، إذ النكاح ضرب من الرق، وقد قال ذلك الليث بن سعد. قلنا: النكاح ينعقد لها عليه، كما ينعقد له عليها، بدليل أنه لا يتزوج أختها ولا أربعا سواها، وتطالبه في حق الوطء بما يطالبها، ولكن له عليها فضل القوامة التي جعل اللّه له عليها بما أنفق من ماله، أي بما وجب عليه من صداق ونفقة، فلو أورث شبهة لأورثها في الجانبين.
قلت: هذا الحديث الذي ضعفه ابن العربي وهو صحيح، أخرجه النسائي وأبو داود، وتتميم متنه: ( ومن جدعه جدعناه ومن أخصاه أخصيناه ) . وقال البخاري عن علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح، وأخذ بهذا الحديث. وقال البخاري: وأنا أذهب إليه، فلو لم يصح الحديث لما ذهب إليه هذان الإمامان، وحسبك بهما. ويقتل الحر بعبد نفسه. قال النخعي والثوري في أحد قوليه وقد قيل: إن الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، واللّه أعلم. واختلفوا في القصاص بين العبيد فيما دون النفس، هذا قول عمر بن عبدالعزيز وسالم بن عبدالله والزهري وقران ومالك والشافعي وأبو ثور. وقال الشعبي والنخعي والثوري وأبو حنيفة: لا قصاص بينهم إلا في النفس. قال ابن المنذر: الأول أصح.
روى الدارقطني وأبو عيسى الترمذي عن سراقة بن مالك قال: حضرت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه. قال أبو عيسى: « هذا حديث لا نعرفه من حديث سراقة إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، رواه إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح، والمثنى يضعف في الحديث، وقد روى هذا الحديث أبو خالد الأحمر عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقد روي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب مرسلا، وهذا الحديث فيه اضطراب، والعمل على هذا عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقتل به، وإذا قذفه لا يحد » . وقال ابن المنذر: اختلف أهل العلم في الرجل يقتل ابنه عمدا، فقالت طائفة: لا قود عليه وعليه ديته، وهذا قول الشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد. وقال مالك وابن نافع وابن عبدالحكم: يقتل به. وقال ابن المنذر: وبهذا نقول لظاهر الكتاب والسنة، فأما ظاهر الكتاب فقوله تعالى: « كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد » ، والثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ) ولا نعلم خبرا ثابتا يجب به استثناء الأب من جملة الآية، وقد روينا فيه أخبارا غير ثابتة. وحكى الكيا الطبري عن عثمان البتي أنه يقتل الوالد بولده، للعمومات في القصاص. وروي مثل ذلك عن مالك، ولعلهما لا يقبلان أخبار الآحاد في مقابلة عمومات القرآن.
قلت: لا خلاف في مذهب مالك أنه إذا قتل الرجل ابنه متعمدا مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ، أنه يقتل به قولا واحدا. فأما إن رماه بالسلاح أدبا أو حنقا فقتله، ففيه في المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل به وتغلظ الدية، وبه قال جماعة العلماء. ويقتل الأجنبي بمثل هذا. ابن العربي: « سمعت شيخنا فخر الإسلام الشاشي يقول في النظر: لا يقتل الأب بابنه، لأن الأب كان سبب وجوده، فكيف يكون هو سبب عدمه؟ وهذا يبطل بما إذا زنى بابنته فإنه يرجم، وكان سبب وجودها وتكون هي سبب عدمه، ثم أي فقه تحت هذا، ولم لا يكون سبب عدمه إذا عصى اللّه تعالى في ذلك. وقد أثروا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: ( لا يقاد الوالد بولده ) وهو حديث باطل، ومتعلقهم أن عمر رضي اللّه عنه قضى بالدية مغلظة في قاتل ابنه ولم ينكر أحد من الصحابة عليه، فأخذ سائر الفقهاء رضي اللّه عنهم المسألة مسجلة، وقالوا: لا يقتل الوالد بولده، وأخذها مالك محكمة مفصلة فقال: إنه لو حذفه بالسيف وهذه حالة محتملة لقصد القتل وعدمه، وشفقة الأبوة شبهة منتصبة شاهدة بعدم القصد إلى القتل تسقط القود، فإذا أضجعه كشف الغطاء عن قصده فالتحق بأصله » . قال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون: إذا قتل الابن الأب قتل به.
وقد استدل الإمام أحمد بن حنبل بهذه الآية على قوله: لا تقتل الجماعة بالواحد، قال: لأن اللّه سبحانه شرط المساواة ولا مساواة بين الجماعة والواحد. وقد قال تعالى: « وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين » [ المائدة: 45 ] . والجواب أن المراد بالقصاص في الآية قتل من قتل كائنا من كان، ردا على العرب التي كانت تريد أن تقتل بمن قتل من لم يقتل، وتقتل في مقابلة الواحد مائة، افتخارا واستظهارا بالجاه والمقدرة، فأمر اللّه سبحانه بالعدل والمساواة، وذلك بأن يقتل من قتل، وقد قتل عمر رضي اللّه عنه سبعة برجل بصنعاء وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا. وقتل علي رضي اللّه عنه الحرورية عبداللّه بن خباب فإنه توقف عن قتالهم حتى يحدثوا، فلما ذبحوا عبدالله بن خباب كما تذبح الشاة، وأخبر علي بذلك قال: ( اللّه أكبر نادوهم أن أخرجوا إلينا قاتل عبدالله بن خباب، فقالوا: كلنا قتله، ثلاث مرات، فقال علي لأصحابه: دونكم القوم، فما لبث أن قتلهم علي وأصحابه ) خرج الحديثين الدارقطني في سننه. وفي الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم اللّه في النار ) . وقال فيه: حديث غريب. وأيضا فلو علم الجماعة أنهم إذا قتلوا الواحد لم يقتلوا لتعاون الأعداء على قتل أعدائهم بالاشتراك في قتلهم وبلغوا الأمل من التشفي، ومراعاة هذه القاعدة أولى من مراعاة الألفاظ واللّه أعلم. وقال ابن المنذر: وقال الزهري وحبيب بن أبي ثابت وابن سيرين: لا يقتل اثنان بواحد. روينا ذلك عن معاذ بن جبل وابن الزبير وعبدالملك، قال ابن المنذر: وهذا أصح، ولا حجة مع من أباح قتل جماعة بواحد. وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه.
روى الأئمة عن أبي شريح الكعبي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين أن يأخذوا العقل أو يقتلوا ) ، لفظ أبي داود. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وروي عن أبي شريح الخزاعي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: ( من قتل له قتيل فله أن يقتل أو يعفو أو يأخذ الدية ) . وذهب إلى هذا بعض أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق.
اختلف أهل العلم في أخذ الدية من قاتل العمد، فقالت طائفة: ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية وإن لم يرض القاتل. يروى هذا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن، ورواه أشهب عن مالك، وبه قال الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وحجتهم حديث أبي شريح وما كان في معناه، وهو نص في موضع الخلاف، وأيضا من طريق النظر فإنما لزمته الدية بغير رضاه، لأن فرضا عليه إحياء نفسه، وقد قال اللّه تعالى: « ولا تقتلوا أنفسكم » [ النساء: 29 ] . وقوله: « فمن عفي له من أخيه شيء » أي ترك له دمه في أحد التأويلات، ورضي منه بالدية « فاتباع بالمعروف » أي فعلى صاحب الدم اتباع بالمعروف في المطالبة بالدية، وعلى القاتل أداء إليه بإحسان، أي من غير مماطلة وتأخير عن الوقت « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » أي أن من كان قبلنا لم يفرض اللّه عليهم غير النفس بالنفس، فتفضل اللّه على هذه الأمة بالدية إذا رضي بها ولي الدم، على ما يأتي بيانه. وقال آخرون: ليس لولي المقتول إلا القصاص، ولا يأخذ الدية إلا إذا رضي القاتل، رواه ابن القاسم عن مالك وهو المشهور عنه، وبه قال الثوري والكوفيون. واحتجوا بحديث أنس في قصة الربيع حين كسرت ثنية المرأة، رواه الأئمة قالوا: فلما حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالقصاص وقال: ( القصاص كتاب اللّه، القصاص كتاب اللّه ) ولم يخير المجني عليه بين القصاص والدية ثبت بذلك أن الذي يجب بكتاب اللّه وسنة رسوله في العمد هو القصاص، والأول أصح، لحديث أبي شريح المذكور. وروى الربيع عن الشافعي قال: أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال: وحدثني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عام الفتح: ( من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل وإن أحب فله القود ) . فقال أبو حنيفة: فقلت لابن أبي ذئب: أتأخذ بهذا يا أبا الحارث فضرب صدري وصاح علي صياحا كثيرا ونال مني وقال: أحدثك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتقول: تأخذ به نعم آخذ به، وذلك الفرض علي وعلى من سمعه، إن اللّه عز وجل ثناؤه اختار محمدا صلى اللّه عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختاره له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك، قال: وما سكت عني حتى تمنيت أن يسكت.
قوله تعالى: « فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان » اختلف العلماء في تأويل « من » و « عفي » على تأويلات خمس:
أحدها أن « من » يراد بها القاتل، و « عفي » تتضمن عافيا هو ولي الدم، والأخ هو المقتول، و « شيء » هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء. والعفو في هذا القول على بابه الذي هو الترك. والمعنى: أن القاتل إذا عفا عنه ولي المقتول عن دم مقتوله وأسقط القصاص فإنه يأخذ الدية ويتبع بالمعروف، ويؤدي إليه القاتل بإحسان.
الثاني: وهو قول مالك أن « من » يراد به الولي « وعفي » يسر، لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، و « شيء » هو الدية، أي أن الولي إذا جنح إلى العفو عن القصاص على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه، فمرة تيسر ومرة لا تيسر. وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه. وقد روي عن مالك هذا القول، ورجحه كثير من أصحابه. وقال أبو حنيفة: إن معنى « عفي » بذل، والعفو في اللغة: البذل، ولهذا قال اللّه تعالى: « خذ العفو » [ الأعراف: 199 ] أي ما سهل. وقال أبو الأسود الدؤلي:
خذي العفو مني تستديمي مودتي
وقال صلى اللّه عليه وسلم: ( أول الوقت رضوان اللّه وآخره عفو اللّه ) يعني شهد اللّه على عباده. فكأنه قال: من بذل له شيء من الدية فليقبل وليتبع بالمعروف. وقال قوم: وليؤد إليه القاتل بإحسان، فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل، وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة، كما قال ذلك عقب ذكر القصاص في سورة « المائدة » « فمن تصدق به فهو كفارة له » [ المائدة: 45 ] فندب إلى رحمة العفو والصدقة، وكذلك ندب فيما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني بإعطاء الدية، ثم أمر الولي باتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان.
وقد قال قوم: إن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة. ومعنى الآية: فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون « عفي » بمعنى فضل.
روى سفيان بن حسين بن شوعة عن الشعبي قال: كان بين حيين من العرب قتال، فقتل من هؤلاء وهؤلاء. وقال أحد الحيين: لا نرضى حتى يقتل بالمرأة الرجل وبالرجل المرأة، فارتفعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال عليه السلام: ( القتل سواء ) فاصطلحوا على الديات، ففضل أحد الحيين على الآخر، فهو قوله: « كتب » إلى قوله: « فمن عفي له من أخيه شيء » يعني فمن فضل له على أخيه فضل فليؤده بالمعروف، فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية، وذكر سفيان العفو هنا الفضل، وهو معنى يحتمله اللفظ.
وتأويل خامس: وهو قول علي رضي اللّه عنه والحسن في الفضل بين دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، و « عفي » في هذا الموضع أيضا بمعنى فضل.
هذه الآية حض من اللّه تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي، وهل ذلك على الوجوب أو الندب. فقراءة الرفع تدل على الوجوب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: « فمن عفي له » شرط والجواب، لأن المعنى فعليه اتباع بالمعروف. قال النحاس: « فمن عفي له » شرط والجواب « فاتباع » وهو رفع بالابتداء، والتقدير فعليه اتباع بالمعروف. ويجوز في غير القرآن « فاتباعا » و « أداء » بجعلهما مصدرين. قال ابن عطية: وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة « فاتباعا » بالنصب. والرفع سبيل للواجبات، كقوله تعالى: « فإمساك بمعروف » [ البقرة: 229 ] . وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا، كقوله: « فضرب الرقاب » [ محمد: 4 ] .
قوله تعالى: « ذلك تخفيف من ربكم ورحمة » لأن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ولا دية، فجعل اللّه تعالى ذلك تخفيفا لهذه الأمة، فمن شاء قتل، ومن شاء أخذ الدية، ومن شاء عفا.
قوله تعالى: « فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم » شرط وجوابه، أي قتل بعد أخذ الدية وسقوط [ الدم ] قاتل وليه. « فله عذاب أليم » قال الحسن: كان الرجل في الجاهلية إذا قتل قتيلا فر إلى قومه فيجيء قومه فيصالحون بالدية فيقول ولي المقتول: إني أقبل الدية، حتى يأمن القاتل ويخرج، فيقتله ثم يرمي إليهم بالدية.
واختلف العلماء فيمن قتل بعد أخذ الدية، فقال جماعة من العلماء منهم مالك والشافعي: هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه وعذابه في الآخرة. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: عذابه أن يقتل البتة، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو. وروى أبو داود عن جابر بن عبدالله قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( لا أعفى من قتل بعد أخذ الدية ) . وقال الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وقال عمر بن عبدالعزيز: أمره إلى الإمام يصنع فيه ما يرى. وفي سنن الدارقطني عن أبي شريح الخزاعي قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: ( من أصيب بدم أو خبل - والخبل عرج - فهو بالخيار بين إحدى ثلاث فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه بين أن يقتص أو يعفو أو يأخذ العقل فإن قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ) .
الآية: 179 ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )
قوله تعالى: « ولكم في القصاص حياة » هذا من الكلام البليغ الوجيز كما تقدم. ومعناه: لا يقتل بعضكم بعضا، رواه سفيان عن السدي عن أبي مالك. والمعنى: أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا. وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير، فلما شرع اللّه القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة.
اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض، وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك، ولهذا جعل اللّه السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض.
وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدى على أحد من رعيته، إذ هو واحد منهم، وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل، وذلك لا يمنع القصاص، وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام اللّه عز وجل، لقوله جل ذكره: « كتب عليكم القصاص في القتلى » ، وثبت عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده: لئن كنت صادقا لأقيدنك منه. وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل، فطعنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعرجون كان معه، فصاح الرجل، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: ( تعال فاستقد ) . قال: بل عفوت يا رسول اللّه. وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه فقال: ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، لئن أدب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه؟ قال: كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقص من نفسه. ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه. وذكر الحديث بمعناه.
قوله تعالى: « لعلكم تتقون » تقدم معناه. والمراد هنا « تتقون » القتل فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك، فإن اللّه يثيب بالطاعة على الطاعة. وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبدالله الربعي « ولكم في القصص حياة » . قال النحاس: قراءة أبي الجوزاء شاذة. قال غيره: يحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص. وقيل: أراد بالقصص القرآن، أي لكم في كتاب اللّه الذي شرع فيه القصص حياة، أي نجاة.
الآية: 180 ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين )
قوله تعالى: « كتب عليكم » هذه آية الوصية، ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي « النساء » : « من بعد وصية » [ النساء: 12 ] وفي « المائدة » : « حين الوصية » . [ المائدة: 106 ] والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث، على ما يأتي بيانه. وفي الكلام تقدير واو العطف، أي وكتب عليكم، فلما طال الكلام أسقطت الواو. ومثله في بعض الأقوال: « لا يصلاها إلا الأشقى. الذي كذب وتولى » [ الليل: 15 - 16 ] أي والذي، فحذف. وقيل: لما ذكر أن لولي الدم أن يقتص، فهذا الذي أشرف على من يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت، فهذا أوان الوصية، فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف. و « كتب » معناه فرض وأثبت، كما تقدم. وحضور الموت: أسبابه، ومتى حضر السبب كنت به العرب عن المسبب، قال شاعرهم:
يا أيها الراكب المزجي مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا قولا يبرئكم إني أنا الموت
وقال عنترة:
وإن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندوان
وقال جرير في مهاجاة الفرزدق:
أنا الموت الذي حدثت عنه فليس لهارب مني نجاء
إن قيل: لم قال « كتب » ولم يقل كتبت، والوصية مؤنثة؟ قيل له: إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء. وقيل: لأنه تخلل فاصل، فكان الفاصل كالعوض من تاء التأنيث، تقول العرب: حضر القاضي اليوم امرأة. وقد حكى سيبويه: قام امرأة. ولكن حسن ذلك إنما هو مع طول الحائل.
قوله تعالى: « إن ترك خيرا » « إن » شرط، وفي جوابه لأبي الحسن الأخفش قولان، قال الأخفش: التقدير فالوصية، ثم حذفت الفاء، كما قال الشاعر:
من يفعل الحسنات اللّه يشكرها والشر بالشر عند اللّه مثلان
والجواب الأخر: أن الماضي يجوز أن يكون جوابه قبله وبعده، فيكون التقدير الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا. فإن قدرت الفاء فالوصية رفع بالابتداء، وإن لم تقدر الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء، وأن ترفعها على ما لم يسم فاعله، أي كتب عليكم الوصية. ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل « الوصية » في « إذا » لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمة. ويجوز أن يكون العامل في « إذا » : « كتب » والمعنى: توجه إيجاب اللّه إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجه الإيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل. ويجوز أن يكون العامل في « إذا » الإيصاء يكون مقدرا دل على الوصية، المعنى: كتب عليكم الإيصاء إذا.
قوله تعالى: « خيرا » الخير هنا المال من غير خلاف، واختلفوا في مقداره، فقيل: المال الكثير، روي ذلك عن علي وعائشة وابن عباس وقالوا في سبعمائة دينار إنه قليل. قتادة عن الحسن: الخير ألف دينار فما فوقها. الشعبي: ما بين خمسمائة دينار إلى ألف. والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويعهد به في الحياة وبعد الموت. وخصصها العرب بما يعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا كالقضايا جمع قضية. والوصي يكون الموصي والموصى إليه، وأصله من وصى مخففا. وتواصى النبت تواصيا إذا اتصل. وأرض واصية: متصلة النبات. وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه إذا جعلته وصيك. والاسم الوصاية والوصاية ( بالكسر والفتح ) . وأوصيته ووصيته أيضا توصية بمعنى، والاسم الوصاة. وتواصى القوم أوصى بعضهم بعضا. وفي الحديث: ( استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان عندكم ) . ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به.
اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون. واكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك، وهو قول مالك والشافعي والثوري، موسرا كان الموصي أو فقيرا. وقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر القرآن، قال الزهري وأبو مجلز، قليلا كان المال أو كثيرا. وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم، فواجب عليه أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه. فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر: وهذا حسن، لأن اللّه فرض أداء الأمانات إلى أهلها، ومن لا حق عليه ولا أمانة قبله فليس واجب عليه أن يوصي. احتج الأولون بما رواه الأئمة عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: ( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده ) وفي رواية ( يبيت ثلاث ليال ) وفيها قال عبدالله بن عمر: ما مرت عليّ ليلة منذ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي. احتج من لم يوجبها بأن قال: لو كانت واجبة لم يجعلها إلى إرادة الموصي، ولكان ذلك لازما على كل حال، ثم لو سلم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجب يرده، وذلك فيمن كانت عليه حقوق للناس يخاف ضياعها عليهم، كما قال أبو ثور. وكذلك إن كانت له حقوق عند الناس يخاف تلفها على الورثة، فهذا يجب عليه الوصية ولا يختلف فيه.
فإن قيل: فقد قال اللّه تعالى: « كتب عليكم » وكتب فرض، فدل على وجوب الوصية قيل لهم: قد تقدم الجواب عنه في الآية قبل، والمعنى: إذا أردتم الوصية، واللّه أعلم. وقال النخعي: مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يوص، وقد أوصى أبو بكر، فإن أوصى فحسن، وإن لم يوص فلا شيء عليه.
لم يبين اللّه تعالى في كتابه مقدار ما يوصى به من المال، وإنما قال: « إن ترك خيرا » والخير المال، كقوله: « وما تنفقوا من خير » [ البقرة: 272 ] ، « وإنه لحب الخير » [ العاديات: 8 ] فاختلف العلماء في مقدار ذلك، فروي عن أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه أنه أوصى بالخمس. وقال علي رضي اللّه عنه من غنائم المسلمين بالخمس. وقال معمر عن قتادة. أوصى عمر بالربع. وذكره البخاري عن ابن عباس. وروي عن علي رضي اللّه عنه أنه قال: ( لأن أوصي بالخمس أحب إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إليّ من أوصي بالثلث ) واختار جماعة لمن ماله قليل وله ورثة ترك الوصية، روي ذلك عن علي وابن عباس وعائشة رضوان اللّه عليهم أجمعين. روى بن أبي شيبة من حديث ابن أبي مليكة عن عائشة قال لها: إني أريد أن أوصي: قالت: وكم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالك؟ قال أربعة. قالت: ( إن اللّه تعالى يقول: « إن ترك خيرا » وهذا شيء يسير فدعه لعيالك فإنه أفضل لك )
ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا: إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بمال كله. وقالوا: إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء، لقوله عليه السلام: ( إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ) الحديث، رواه الأئمة. ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث، روي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة ومسروق، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قوليه، وروي عن علي وسبب الخلاف مع ما ذكرنا، الخلاف في بيت المال هل هو وارث أو حافظ لما يجعل فيه؟ قولان:
أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله. وروي. عن عمرو بن العاص رضي اللّه عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبدالله: ( إني قد أردت أن أوصي، فقال له: أوص ومالك في مالي، فدعا كاتبا فأملى، فقال عبدالله: فقلت له ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم. )
وأجمعوا أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها، إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدب