لآية 70 ( قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون )
قوله تعالى: « قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا » سألوا سؤالا رابعا، ولم يمتثلوا الأمر بعد البيان. وذكر البقر لأنه بمعنى الجمع، ولذلك قال: « إن البقر تشابه علينا » فذكره للفظ تذكير البقر. قال قطرب: جمع البقرة باقر وباقور وبقر. وقال الأصمعي: الباقر جمع باقرة، قال: ويجمع بقر على باقورة، حكاه النحاس. وقال الزجاج: المعنى إن جنس البقر. وقرأ الحسن فيما ذكر النحاس، والأعرج فيما ذكر الثعلبي « إن البقر تشابه » بالتاء وشد الشين، جعله فعلا مستقبلا وأنثه. والأصل تتشابه، ثم أدغم التاء في الشين. وقرأ مجاهد « تشبه » كقراءتهما، إلا أنه بغير ألف. وفي مصحف أبي « تشابهت » بتشديد الشين. قال أبو حاتم: وهو غلط، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلا في المضارعة. وقرأ يحيى بن يعمر « إن الباقر يشابه » جعله فعلا مستقبلا، وذكر البقر وأدغم. ويجوز « إن البقر تشابه » بتخفيف الشين وضم الهاء، وحكاها الثعلبي عن الحسن. النحاس: ولا يجوز « يشابه » بتخفيف الشين والياء، وإنما جاز في التاء لأن الأصل تتشابه فحذفت لاجتماع التاءين. والبقر والباقر والبيقور والبقير لغات بمعنى، والعرب تذكره وتؤنثه، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في « تشابه » . وقيل إنما قالوا: « إن البقر تشابه علينا » لأن وجوه البقر تشابه، ومنه حديث حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر ( فتنا كقطع الليل تأتي كوجوه البقر ) . يريد أنها يشبه بعضها بعضا. ووجوه البقر تتشابه، ولذلك قالت بنو إسرائيل: إن البقر تشابه علينا.
قوله تعالى: « وإنا إن شاء الله لمهتدون » استثناء منهم، وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة وانقياد، ودليل ندم على عدم موافقة الأمر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لوما استثنوا ما اهتدوا إليها أبدا ) . وتقدير الكلام وإنا لمهتدون إن شاء الله. فقدم على ذكر الاهتداء اهتماما به. و « شاء » في موضع جزم بالشرط، وجوابه عند سيبويه الجملة « إن » وما عملت فيه. وعند أبي العباس المبرد محذوف.
الآية 71 ( قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون )
قوله تعالى: « قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول » قرأ الجمهور « لا ذلول » بالرفع على، الصفة لبقرة. قال الأخفش: « لا ذلول » نعته ولا يجوز نصبه. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي « لا ذلول » بالنصب على النفي والخبر مضمر. ويجوز لا هي ذلول، لا هي تسقى الحرث، هي مسلمة. ومعنى « لا ذلول » لم يذللها العمل، يقال: بقرة مذللة بينة الذل ( بكسر الذال ) . ورجل ذليل بين الذل ( بضم الذال ) . أي هي بقرة صعبة غير ريضة لم تذلل بالعمل.
قوله تعالى: « تثير الأرض ولا تسقي الحرث » « تثير » في موضع رفع على الصفة للبقرة أي هي بقرة لا ذلول مثيرة. قال الحسن: وكانت تلك البقرة وحشية ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث أي لا يسنى بها لسقي الزرع ولا يسقى عليها. والوقف ههنا حسن. وقال قوم: « تثير » فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث لها وأنها كانت تحرث ولا تسقي. والوقف على هذا التأويل « لا ذلول » والقول الأول أصح لوجهين: أحدهما: ما ذكره النحاس، عن علي بن سليمان أنه قال: لا يجوز أن يكون « تثير » مستأنفا، لأن بعده « ولا تسقي الحرث » ، فلو كان مستأنفا لما جمع بين الواو و « لا » . الثاني أنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها، والله تعالى قد نفى عنها الذل بقوله: « لا ذلول » قلت: ويحتمل أن تكون « تثير الأرض » في غير العمل مرحا ونشاطا، كما قال امرؤ القيس:
يهيل ويذري تربه ويثيره إثارة نباث الهواجر مخمس
فعلى هذا يكون « تثير » مستأنفا، « ولا تسقي » معطوف عليه، فتأمله. وإثارة الأرض: تحريكها وبحثها، ومنه الحديث: ( أثيروا القرآن فإنه علم الأولين والآخرين ) وفي رواية أخرى: ( من أراد العلم فليثور القرآن ) وقد تقدم. وفي التنزيل: « وأثاروا الأرض » [ الروم: 9 ] أي قلبوها للزراعة. والحرث: ما حرث وزرع. وسيأتي.
مسألة: في هذه الآية أدل دليل على حصر الحيوان بصفاته، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السلم فيه. وبه قال مالك وأصحابه والأوزاعي والليث والشافعي. وكذلك كل ما يضبط بالصفة، لوصف الله تعالى في كتابه وصفا يقوم مقام التعيين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها ) . أخرجه مسلم. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصفة تقوم مقام الرؤية، وجعل صلى الله عليه وسلم دية الخطأ في ذمة من أوجبها عليه دينا إلى أجل ولم يجعلها على الحلول. وهو يرد قول الكوفيين أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح حيث قالوا: لا يجوز السلم في الحيوان. وروي عن ابن مسعود وحذيفة وعبدالرحمن بن سمرة، لأن الحيوان لا يوقف على حقيقة صفته من مشي وحركة، وكل ذلك يزيد في ثمنه ويرفع من قيمته. وسيأتي حكم السلم وشروطه في آخر السورة في آية الدين، إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « مسلمة » أي هي مسلمة. ويجوز أن يكون وصفا، أي أنها بقرة مسلمة من العرج وسائر العيوب، قاله قتادة وأبو العالية. ولا يقال: مسلمة من العمل لنفي الله العمل عنها. وقال الحسن: يعني سليمة القوائم لا أثر فيها للعمل.
قوله تعالى: « لا شية فيها » أي ليس فيها لون يخالف معظم لونها، هي صفراء كلها لا بياض فيها ولا حمرة ولا سواد، كما قال: « فاقع لونها » . وأصل « شية » وشي حذفت الواو كما حذفت من يشي، والأصل يوشي، ونظيره الزنة والعدة والصلة. والشية مأخوذة من وشي الثوب إذا نسج على لونين مختلفين. وثور موشى: في وجهه وقوائمه سواد. قال ابن عرفة: الشية اللون. ولا يقال لمن نم: واش، حتى يغير الكلام ويلونه فجعله ضروبا ويزين منه ما شاء. والوشي: الكثرة. ووشى بنو فلان: كثروا. ويقال: فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع، وثور أشيه كل ذلك بمعنى البلقة، هكذا نص أهل اللغة.
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا فشدد الله عليهم، ودين الله يسر، والتعمق في سؤال الأنبياء وغيرهم من العلماء مذموم، نسأل الله العافية. وروي في قصص هذه البقرة روايات تلخيصها: أن رجلا من بني إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة فأرسلها في غيضة وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لهذا الصبي. ومات الرجل، فلما كبر الصبي قالت له أمه وكان برا بها: إن أباك استودع الله عجلة لك فاذهب فخذها، فذهب فلما رأته البقرة جاءت إليه حتى أخذ بقرنيها وكانت مستوحشة فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرة على الصفة التي أمروا بها، فساموه فاشتط عليهم. وكان قيمتها على ما روي عن عكرمة ثلاثة دنانير، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم: أرضوه في ملكه، فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة. السدي: بوزنها عشر مرات. وقيل: بملء مسكها دنانير. وذكر مكي: أن هذه البقرة نزلت من السماء ولم تكن من بقر الأرض فالله أعلم.
قوله تعالى: « قالوا الآن جئت بالحق » أي بينت الحق، قاله قتادة. وحكى الأخفش: « قالوا الآن » قطع ألف الوصل، كما يقال: يا الله. وحكى وجها آخر « قالوا لان » بإثبات الواو. نظيره قراءة أهل المدينة وأبي عمرو « عادا لولى » وقرأ الكوفيون « قالوا الآن » بالهمز. وقراءة أهل المدينة « قال لان » بتخفيف الهمز مع حذف الواو لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: « الآن » مبني على الفتح لمخالفته سائر ما فيه الألف واللام، لأن الألف واللام دخلتا لغير عهد، تقول: أنت إلى الآن هنا، فالمعنى إلى هذا الوقت. فبنيت كما بني هذا، وفتحت النون لالتقاء الساكنين. وهو عبارة عما بين الماضي والمستقبل.
قوله تعالى: « فذبحوها وما كادوا يفعلون » أجاز سيبويه: كاد أن يفعل، تشبيها بعسى. وقد تقدم أول السورة. وهذا إخبار عن تثبيطهم في ذبحها وقلة مبادرتهم إلى أمر الله. وقال القرظي محمد بن كعب: لغلاء ثمنها. وقيل: خوفا من الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم، قاله وهب بن منبه.
الآية 72 ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون )
هذا الكلام مقدم على أول القصة، التقدير: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها. فقال موسى: إن الله يأمركم بكذا. وهذا كقوله: « الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قيما » [ الكهف: 1 - 2 ] أي أنزل على عبده قيما ولم يجعل له عوجا، ومثله كثير، وقد بيناه أول القصة. وفي سبب قتله قولان: أحدهما: لابنة له حسناء احب أن يتزوجها ابن عمها فمنعه عمه، فقتله وحمله من قريته إلى قرية أخرى فألقاه هناك. وقيل: ألقاه بين قريتين. الثاني: قتله طلبا لميراثه، فإنه كان فقيرا وادعى قتله على بعض الأسباط. قال عكرمة: كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا لكل باب قوم يدخلون منه، فوجدوا قتيلا في سبط من الأسباط، فادعى هؤلاء على هؤلاء، وادعى هؤلاء على هؤلاء، ثم أتوا موسى يختصمون إليه فقال: « إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة » [ البقرة: 67 ] الآية. ومعنى « ادارأتم » [ البقرة: 72 ] الآية. ومعنى « ادارأتم » : اختلفتم وتنازعتم، قال مجاهد. وأصله تدارأتم ثم أدغمت التاء في الدال، ولا يجوز الابتداء بالمدغم، لأنه ساكن فزيد ألف الوصل.
قوله تعالى: « والله مخرج » ابتداء وخبر. « ما كنتم » في موضع نصب بـ « مخرج » ، ويجوز حذف التنوين على الإضافة. « تكتمون » جمله في موضع خبر كان والعائد محذوف التقدير تكتمونه.
وعلى القول بأنه قتله طلبا لميراثه لم يرث قاتل عمد من حينئذ، قاله عبيدة السلماني. قال ابن عباس: قتل هذا الرجل عمه ليرثه. قال ابن عطية: وبمثله جاء شرعنا. وحكى مالك رحمه الله في « موطئه » أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي كانت سبب ألا يرث قاتل، ثم ثبت ذلك الإسلام كما ثبت كثيرا من نوازل الجاهلية. ولا خلاف بين العلماء أنه لا يرث قاتل العمد من الدية ولا من المال، إلا فرقة شذت عن الجمهور كلهم أهل بدع. ويرث قاتل الخطأ من المال ولا يرث من الدية في قول مالك والأوزاعي وأبي ثور والشافعي، لأنه لا يتهم على أنه قتله ليرثه ويأخذ ماله 0 وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي في قول له آخر: لا يرث القاتل عمدا ولا خطأ شيئا من المال ولا من الدية. وهو قول شريح وطاوس والشعبي والنخعي. ورواه الشعبي عمر وعلي وزيد قالوا: لا يرث القاتل عمدا ولا خطا شيئا. وروي عن مجاهد القولان جميعا. وقالت طائفة من البصريين: يرث قاتل الخطأ من الدية ومن المال جميعا، حكاه أبو عمر. وقول مالك أصح، على ما يأتي بيانه في آية المواريث إن شاء الله تعالى.
الآية 73 ( فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون )
قوله تعالى: « فقلنا اضربوه ببعضها » قيل: باللسان لأنه آلة الكلام. وقيل: بعجب الذنب، إذ فيه يركب خلق الإنسان. وقيل: بالفخذ. وقيل: بعظم من عظامها، والمقطوع به عضو من أعضائها، فلما ضرب به حيي وأخبر بقاتله ثم عاد ميتا كما كان.
مسألة: استدل مالك رحمه الله في رواية ابن وهب وابن القاسم على صحة القول بالقسامة بقول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني. ومنعه الشافعي وجمهور العلماء، قالوا: وهو الصحيح، لأن قول المقتول: دمي عند فلان، أو فلان قتلني، خبر يحتمل الصدق والكذب. ولا خلاف أن دم المدعى عليه معصوم إباحته إلا بيقين، ولا يقين مع الاحتمال، فبطل اعتبار قول المقتول دمي عند فلان. وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة وأخبر تعالى أنه يحييه، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرا جزما لا يدخله احتمال، فافترقا. قال ابن العربي: المعجزة كانت في إحيائه، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد. وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه، فلعله أمرهم بالقسامة معه واستبعد ذلك البخاري والشافعي وجماعة من العلماء فقالوا: كيف يقبل قوله في الدم وهو لا يقبل قوله في درهم.
مسألة: اختلف العلماء في الحكم بالقسامة، فروي عن سالم وأبي قلابة وعمر بن عبدالعزيز والحكم بن عيينة التوقف في الحكم بها. وإليه مال البخاري، لأنه أتى بحديث القسامة في غير موضعه. وقال الجمهور: الحكم بالقسامة ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم اختلفوا في كيفية الحكم بها، فقالت طائفة: يبدأ فيها المدعون بالأيمان فإن حلفوا ] استحقوا، وإن نكلوا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا وبرئوا. هذا قول أهل المدينة والليث والشافعي وأحمد وأبي ثور. وهو مقتضى حديث حويصة ومحيصة، خرجه الأئمة مالك وغيره. وذهبت طائفة إلى أنه يبدأ بالأيمان المدعى عليهم فيحلفون ويبرؤون. روي هذا عن عمر بن الخطاب والشعبي والنخعي، وبه قال الثوري والكوفيون، واحتجوا بحديث شعبة بن عبيد عن بشير بن يسار، وفيه: فبدأ بالأيمان المدعى عليهم وهم اليهود. وبما رواه أبو داود عن الزهري عن أبى سلمة بن عبدالرحمن عن رجال من الأنصار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود وبدأ بهم: ( أيحلف منكم خمسون رجلا ) . فأبو ا، فقال للأنصار: ( استحقوا ) فقالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية على يهود، لأنه وجد بين أظهرهم. وبقوله عليه السلام: ( ولكن اليمين على المدعى عليه ) فعينوا.
قالوا: وهذا هو الأصل المقطوع به في الدعاوى الذي نبه الشرع على حكمته بقوله عليه السلام ( لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه ) رد عليهم أهل المقالة الأولى فقالوا: حديث سعيد بن عبيد في تبدية اليهود وهم عند أهل الحديث، وقد أخرجه النسائي وقال: ولم يتابع سعيد في هذه الرواية فيما أعلم، وقد أسند حديث بشير عن سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين يحيى بن سعيد وابن عيينة وحماد بن زيد وعبدالوهاب الثقفي وعيسى بن حماد وبشر بن المفضل، فهؤلاء سبعة. وإن كان أرسله مالك فقد وصله جماعة الحفاظ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد. قال أبو محمد الأصيلي: فلا يجوز أن يعترض بخبر واحد على خبر جماعة، مع أن سعيد بن عبيد قال في حديثه: فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من أبل الصدقة، والصدقة لا تعطى في الديات ولا يصالح بها عن غير أهلها، وحديث أبي داود مرسل فلا تعارض به الأحاديث الصحاح المتصلة، وأجابوا عن التمسك بالأصل بأن هذا الحكم أصل بنفسه لحرمة الدماء. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، والحكم بظاهر ذلك يجب، إلا أن يخص الله في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حكما في شيء من الأشياء فيستثنى من جملة هذا الخبر. فمما دل عليه الكتاب إلزام القاذف حد المقذوف إذا لم يكن معه أربعة شهداء يشهدون له على صدق ما رمي به المقذوف وخص من رمى زوجته بأن أسقط عنه الحد إذا شهد أربع شهادات. ومما خصته السنة حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة. وقد روى ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة ) . خرجه الدارقطني. وقد احتج مالك لهذه المسألة في موطئه بما فيه كفاية، فتأمله هناك.
مسألة: واختلفوا أيضا في وجوب القود بالقسامة، فأوجبت طائفة القود بها، وهو قول مالك والليث وأحمد وأبي ثور، لقوله عليه السلام لحويصة ومحيصة وعبدالرحمن: ( أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم ) . وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل رجلا بالقسامة من بني نضر بن مالك. قال الدارقطني: نسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيحة، وكذلك أبو عمر بن عبدالبر يصحح حديث عمرو بن شعيب، ويحتج به، وقال البخاري: رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به قاله الدارقطني في السنن. وقالت طائفة: لا قود بالقسامة، وإنما توجب الدية. روي هذا عن عمر وابن عباس، وهو قول النخعي والحسن، وإليه ذهب الثوري والكوفيون الشافعي وإسحاق، واحتجوا بما رواه مالك عن ابن أبي ليلى بن عبدالله عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله للأنصار: ( إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب ) . قالوا: وهذا يدل على الدية لا على القود، قالوا: ومعنى قوله عليه السلام: ( وتستحقون دم صاحبكم ) دية دم قتيلكم لأن اليهود ليسوا بأصحاب لهم، ومن استحق دية صاحبه فقد استحق دمه، لأن الدية قد تؤخذ في العمد فيكون ذلك استحقاقا للدم.
مسألة: الموجب للقسامة اللوث ولا بد منه. واللوث: أمارة تغلب على الظن صدق مدعي القتل، كشهادة العدل الواحد على رؤية القتل، أو يرى المقتول يتشحط في دمه، والمتهم نحوه أو قربه عليه آثار القتل. وقد اختلف في اللوث والقول به، فقال مالك: هو قول المقتول دمي عند فلان. والشاهد العدل لوث. كذا في رواية ابن القاسم عنه. وروى أشهب عن مالك أنه يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة. وروى ابن وهب أن شهادة النساء لوث. وذكر محمد عن ابن القاسم أن شهادة المرأتين لوث دون شهادة المرأة الواحدة. قال القاضي أبو بكر بن العربي: اختلف في اللوث اختلافا كثيرا، مشهور المذهب أنه الشاهد العدل. وقال محمد: هو أحب إلي. قال: وأخذ به ابن القاسم وابن عبدالحكم. وروي عن عبدالملك بن مروان: أن المجروح أو المضروب إذا قال دمي عند فلان ومات كانت القسامة. وبه قال مالك والليث بن سعد. واحتج مالك بقتيل بني إسرائيل أنه قال: قتلني فلان. وقال الشافعي: اللوث الشاهد العدل، أو يأتي ببينة وإن لم يكونوا عدولا. وأوجب الثوري والكوفيون القسامة بوجود القتيل فقط، واستغنوا عن مراعاة قول المقتول وعن الشاهد، قالوا: إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر حلف أهل ذلك الموضع أنهم لم يقتلوه ويكون عقله عليهم، وإذا لم يكن، به أثر لم يكن على العاقلة شيء إلا أن تقوم البينة على واحد. وقال سفيان: وهذا مما أجمع عليه عندنا، وهو قول ضعيف خالفوا فيه أهل العلم، ولا سلف لهم فيه، وهو مخالف للقرآن والسنة، ولأن فيه إلزام العاقلة مالا بغير بينة ثبتت عليهم ولا إقرار منهم. وذهب مالك والشافعي إلى أن القتيل إذا وجد في محلة قوم أنه هدر، لا يؤخذ به أقرب الناس دارا، لأن القتيل قد يقتل ثم يلقى على باب قوم ليلطخوا به، فلا يؤاخذ بمثل ذلك حتى تكون الأسباب التي شرطوها في وجوب القسامة. وقد قال عمر بن عبدالعزيز هذا مما يؤخر فيه القضاء حتى يقضي الله فيه يوم القيامة.
مسألة: قال القاسم بن مسعدة قلت للنسائي: لا يقول مالك بالقسامة إلا باللوث، فلم أورد حديث القسامة ولا لوث فيه؟ قال النسائي: أنزل مالك العداوة التي كانت بينهم وببن اليهود بمنزلة اللوث، وأنزل اللوث أو قول الميت بمنزلة العداوة. قال ابن أبي زيد: وأصل هذا في قصة بني إسرائيل حين أحيا الله الذي ضرب ببعض البقرة فقال: قتلني فلان، وبأن العداوة لوث قال الشافعي: ولا نرى قول المقتول لوثا، كما تقدم. قال الشافعي: إذا كان بين قوم وقوم عداوة ظاهرة كالعداوة التي كانت بين الأنصار واليهود، ووجد قتيل في أحد الفريقين ولا يخالطهم غيرهم وجبت القسامة فيه.
مسألة: واختلفوا في القتيل بوجد في المحلة التي أكراها أربابها، فقال أصحاب الرأي: هو على أهل الخطة وليس على السكان شيء، فإن باعوا دورهم ثم وجد قتيل فالدية على المشتري وليس على السكان شيء، وإن كان أرباب الدور غيبا وقد أكروا دورهم فالقسامة والدية على أرباب الدور الغيب وليس على السكان الذين وجد القتيل بين أظهرهم شيء.
ثم رجع يعقوب من بينهم عن هذا القول فقال: القسامة والدية على السكان في الدور. وحكى هذا القول عن ابن أبي ليلى، واحتج بأن أهل خيبر كانوا عمالا سكانا يعملون فوجد القتيل فيهم. قال الثوري ونحن نقول: هو على أصحاب الأصل، يعني أهل الدور. وقال أحمد: القول قول ابن أبي ليلى في القسامة لا في الدية. وقال الشافعي: وذلك كله سواء، ولا عقل ولا قود إلا ببينة تقوم، أو ما يوجب القسامة فيقسم الأولياء. قال ابن المنذر: وهذا أصح.
مسألة: ولا يحلف في القسامة أقل من خمسين يمينا، لقول عليه السلام في حديث حويصة ومحيصة: ( يقسم خمسين منكم على رجل منهم ) . فإن كان المستحقون خمسين حلف كل واحد منهم يمينا واحدة، فإن كانوا أقل من ذلك أو نكل منهم من لا يجوز عفوه ردت الأيمان عليهم بحسب عددهم. ولا يحلف في العمد أقل من اثنين من الرجال، لا يحلف فيه الواحد من الرجال ولا النساء، يحلف الأولياء ومن يستعين بهم الأولياء من العصبة خمسين يمينا. هذا مذهب مالك والليث والثوري والأوزاعي وأحمد وداود. وروى مطرف عن مالك أنه لا يحلف مع المدعى عليه أحد ويحلف هم أنفسهم كما لو كانوا واحدا فأكثر خمسين يمينا يبرئون بها أنفسهم، وهو قول الشافعي. قال الشافعي: لا يقسم إلا وارث، كان القتل عمدا أو خطأ. ولا يحلف على مال ويستحقه إلا من له الملك لنفسه أومن جعل الله له الملك من الورثة، والورثة يقسمون على قدر مواريثهم. وبه قال أبو ثور واختاره ابن المنذر وهو الصحيح، لأن من لم يدع عليه لم يكن له سبب يتوجه عليه فيه يمين. ثم مقصود هذه الأيمان البراءة من الدعوى ومن لم يدع عليه بريء. وقال مالك في الخطأ: يحلف فيها الواحد من الرجال والنساء، فمهما كملت خمسين يمينا من واحد أو أكثر استحق الحالف ميراثه، ومن نكل لم يستحق شيئا، فإن جاء من غاب حلف من الأيمان ما كان يجب عليه لو حضر بحسب ميراثه. هذا قول مالك المشهور عنه، وقد روى عنه أنه. لا يرى في الخطأ قسامة.
وتتميم مسائل القسامة وفروعها وأحكامها مذكور في كتب الفقه والخلاف، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفق.
مسألة: في قصة البقرة هذه دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا، وقال به طوائف من المتكلمين وقوم من الفقهاء، واختاره الكرخي ونص عليه ابن بكير القاضي من علمائنا، وقال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: هو الذي تقتضيه أصول مالك ومنازعه في كتبه، وإليه مال الشافعي، وقد قال الله: « فبهداهم اقتده » [ الأنعام: 90 ] على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « كذلك يحي الله الموتى » أي كما أحيا هذا بعد موته كذلك يحيي الله كل من مات فالكاف في موضع نصب، لأنه نعت لمصدر محذوف. « ويريكم آياته » أي علاماته وقدرته. « لعلكم تعقلون » كي تعقلوا وقد تقدم أي تمتنعون من عصيانه وعقلت نفسي عن كذا أي منعتها منه والمعاقل: الحصون.
الآية 74 ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون )
قوله تعالى: « ثم قست قلوبكم من بعد ذلك » القسوة: الصلابة والشدة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى. قال أبو العالية وقتادة وغيرهما: المراد قلوب جميع بني إسرائيل. وقال ابن عباس: المراد قلوب ورثة القتيل، لأنهم حين حيي وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب، بعد ما رأوا هذه الآية العظمى، فلم يكونوا قط أعمى قلوبا، ولا أشد تكذيبا لنبيهم منهم عند ذلك، لكن نفذ حكم الله بقتله. روى الترمذي عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي ) . وفي مسند البزار عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أربعة من الشقاء جمود العين وقساء القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ) .
قوله تعالى: « فهي كالحجارة أو أشد قسوة » « أو » قيل هي بمعنى الواو كما قال: « آثما أو كفورا » [ الإنسان: 24 ] . « عذرا أو نذرا » وقال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا
أي وكانت. وقيل: هي بمعنى بل، كقوله تعالى: « وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون » [ الصافات: 147 ] المعنى بل يزيدون. وقال الشاعر:
بدت مثل الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح
أي بل أنت وقيل: معناها الإبهام على المخاطب، ومنه قول أبي الأسود الدؤلي:
أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة أو عليا
فإن يك حبهم رشدا أصبه ولست بمخطئ إن كان غيا
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر، وإنما قصد الإبهام. وقد قيل لأبي الأسود حين قال ذلك: شككت قال: كلا، ثم استشهد بقوله تعالى: « وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين » [ سبأ: 24 ] وقال: أو كان شاكا من أخبر بهذا! وقيل: معناها التخيير، أي شبهوها بالحجارة تصيبوا، أو بأشد من الحجارة تصيبوا، وهذا كقول القائل: جالس الحسن أو ابن سيرين، وتعلم الفقه أو الحديث أو النحو. قيل: بل هي على بابها من الشك، ومعناها عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم: أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة؟ وقد قيل هذا المعنى في قوله تعالى: « إلى مائة ألف أو يزيدون » [ الصافات: 147 ] وقالت فرقة: إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر، وفيهم من قلبه أشد من الحجر فالمعنى: هم فرقتان.
« أو أشد » أشد مرفوع بالعطف على موضع الكاف في قوله « كالحجارة » ، لأن المعنى فهي مثل الحجارة أو أشد. ويجوز أو « أشد » بالفتح عطف على الحجارة. و « قسوة » نصب على التمييز. وقرأ أبو حيوة « قساوة » والمعنى واحد.
قوله تعالى: « وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء » قد تقدم معنى الانفجار. ويشقق أصله بتشقق، أدغمت التاء في الشين، وهذه عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهارا، أو عن الحجارة التي تتشقق وإن لم يجر ماء منفسح. وقرأ ابن مصرف « ينشقق » بالنون، وقرأ « لما يتفجر » « لما يتشقق » بتشديد « لما » في الموضعين. وهي قراءة غير متجهة. وقرأ مالك بن دينار « ينفجر » بالنون وكسر الجيم. قال قتادة: عذر الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم. قال أبو حاتم: يجوز لما تتفجر بالتاء، ولا يجوز لما تتشقق بالتاء، لأنه إذا قال تتفجر أنثه بتأنيث الأنهار، وهذا لا يكون في تشقق. قال النحاس: يجوز ما أنكره على المعنى، لأن المعنى وأن منها لحجارة تتشقق، وأما يشقق فمحمول على لفظ ما. والشق واحد الشقوق، فهو في الأصل مصدر، تقول: بيد فلان ورجليه شقوق، ولا تقل: شقاق، إنما الشقاق داء يكون بالدواب، وهو تشقق يصيب أرساغها وربما ارتفع إلى وظيفها، عن يعقوب. والشق: الصبح. و « ما » في قوله: « لما يتفجر » في موضع نصب، لأنها اسم إن واللام للتأكيد. « منه » على لفظ ما، ويجوز منها على المعنى، وكذلك « وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء » . وقرأ قتادة « وإن » في الموضعين، مخففة من الثقيلة.
قوله تعالى: « وإن منها لما يهبط من خشية الله » يقول إن من الحجارة ما هو أنفع من قلوبكم، لخروج الماء منها وترديها. قال مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر. من حجر، ولا خرج منه ماء إلا من خشية الله، نزل بذلك القرآن الكريم. ومثله عن ابن جريج. وقال بعض المتكلمين في قوله: « وإن منها لما يهبط من خشية الله » : البرد الهابط من السحاب. وقيل: لفظة الهبوط مجاز، وذلك أن الحجارة لما كانت القلوب تعتبر بخلقها، وتخشع بالنظر إليها، أضيف تواضع الناظر إليها، كما قالت العرب: ناقة تاجرة، أي تبعث من يراها على شرائها. وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة، كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله: « يريد أن ينقض » ، وكما قال زيد الخيل:
لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع
وذكر ابن بحر أن الضمير في قوله تعالى: « وإن منها » راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة أي من القلوب لما يخضع من خشيه الله.
قلت: كل ما قيل يحتمله اللفظ، والأول صحيح، فإنه لا يمتنع أن يعطى بعض الجمادات المعرفة فيعقل، كالذي روي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، فلما تحول عنه حن، وثبت عنه أنه قال: ( إن حجرا كان يسلم علي في الجاهلية إني لأعرفه الآن ) . وكما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال لي ثبير اهبط فإني أخاف أن يقتلوك على ظهري فيعذبني الله ) . فناداه حراء: إلي يا رسول الله. وفي التنزيل: « إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال » [ الأحزاب: 72 ] الآية. وقال: « لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله » [ الحشر: 21 ] يعني تذللا وخضوعا، وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة « سبحان » إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « وما الله بغافل عما تعملون » « بغافل » في موضع نصب على لغة أهل الحجاز، وعلى لغة تميم في موضع رفع. والياء توكيد « عما تعملون » أي عن عملكم حتى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها عليكم، « فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره » [ الزلزلة: 7، 8 ] ولا تحتاج « ما » إلى عائد إلا أن يجعلها بمعنى الذي فيحذف العائد لطول الاسم، أي عن الذي تعملونه. وقرأ ابن كثير « يعلمون » بالياء، والمخاطبة على هذا لمحمد عليه السلام.
الآية 75 ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون )
قوله تعالى: « أفتطمعون أن يؤمنوا لكم » هذا استفهام فيه معنى الإنكار، كأنه أيأسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود، أي إن كفروا فلهم سابقة في ذلك. والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم. وقيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، عن ابن عباس. أي لا تحزن على تكذيبهم إياك، وأخبره أنهم من أهل السوء الذين مضوا. و « أن » في موضع نصب، أي في أن يؤمنوا، نصب بأن، ولذلك حذفت منه النون. يقال: طمع فيه طمعا وطماعية - مخفف - فهو طمع، على وزن فعل. وأطمعه فيه غيره. ويقال في التعجب: طمع الرجل - بضم الميم - أي صار كثير الطمع. والطمع: رزق الجند، يقال: أمر لهم الأمير بأطماعهم، أي بأرزاقهم. وامرأة مطماع: تطمع ولا تمكن.
قوله تعالى: « وقد كان فريق منهم » الفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه، وجمعه في أدنى العدد أفرقة، وفي الكثير أفرقاء. قوله تعالى: « يسمعون » في موضع نصب خبر « كان » . ويجوز أن يكون الخبر « منهم » ، ويكون « يسمعون » نعتا لفريق وفيه بُعد.
قوله تعالى: « كلام الله » قراءة الجماعة. وقرأ الأعمش « كلم الله » على جمع كلمة. قال سيبويه: واعلم أن ناسا من ربيعة يقولون « منهم » بكسر الهاء اتباعا لكسرة الميم، ولم يكن المسكن حاجزا حصينا عنده. « كلام الله » مفعول بـ « يسمعون » . والمراد السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام، فسمعوا كلام الله فلم يمتثلوا أمره، وحرفوا القول في إخبارهم لقومهم. هذا قول الربيع وابن إسحاق، وفي هذا القول ضعف. ومن قال: إن السبعين سمعوا ما سمع موسى فقد أخطأ، وأذهب بفضيلة موسى واختصاصه بالتكليم. وقد قال السدي وغيره: لم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم، فلما فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان نبيهم موسى عليه السلام، كما قال تعالى: « وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله » . [ التوبة: 6 ] .
فإن قيل: فقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوم موسى سألوا موسى أن يسأل ربه أن يسمعهم كلامه، فسمعوا صوتا كصوت الشبور: « إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم أخرجتكم من مصر بيد رفيعة وذراع شديدة » .
قلت: هذا حديث باطل لا يصح، رواه ابن مروان عن الكلبي وكلاهما ضعيف لا يحتج به وإنما الكلام شيء خص به موسى من بين جميع ولد آدم، فإن كان كلم قومه أيضا حتى أسمعهم كلامه فما فضل موسى عليهم، وقد قال وقوله الحق: « إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي » [ الأعراف: 144 ] . وهذا واضح.
واختلف الناس بماذا عرف موسى كلام الله ولم يكن سمع قبل ذلك خطابه، فمنهم من قال: إنه سمع كلاما ليس بحروف وأصوات، وليس فيه تقطيع ولا نفس، فحينئذ علم أن ذلك ليس هو كلام البشر وإنما هو كلام رب العالمين. وقال آخرون: إنه لما سمع كلاما لا من جهة، وكلام البشر يسمع من جهة من الجهات الست، علم أنه ليس من كلام البشر. وقيل: إنه صار جسده كله مسامع حتى سمع بها ذلك الكلام، فعلم أنه كلام الله. وقيل فيه: إن المعجزة دلت على أن ما سمعه هو كلام الله، وذلك أنه قيل له: ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا، فكان ذلك علامة على صدق الحال، وأن الذي يقول له: « إني أنا ربك » [ طه: 12 ] هو الله جل وعز. وقيل: إنه قد كان أضمر في نفسه شيئا لا يقف عليه إلا علام الغيوب، فأخبره الله تعالى في خطابه بذلك الضمير، فعلم أن الذي يخاطبه هو الله جل وعز. وسيأتي في سورة « القصص » بيان معنى قوله تعالى: « نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة » [ القصص: 30 ] إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « ثم يحرفونه » قال مجاهد والسدي: هم علماء اليهود الذين يحرفون التوراة فيجعلون الحرام حلالا والحلال حراما اتباعا لأهوائهم. قوله تعالى: « من بعد ما عقلوه وهم يعلمون » أي عرفوه وعلموه. وهذا توبيخ لهم، أي إن هؤلاء اليهود قد سلفت لآبائهم أفاعيل سوء وعناد فهؤلاء على ذلك السنن، فكيف تطمعون في إيمانهم
ودل هذا الكلام أيضا على أن العالم بالحق المعاند فيه بعيد من الرشد، لأنه علم الوعد والوعيد ولم ينهه ذلك عن عناده.
الآية [ 76 ]