الآية: 79 ( قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون )
قوله تعالى: « قال معاذ الله » مصدر. « أن نأخذ » في موضع نصب؛ أي من أن نأخذ. « إلا من وجدنا » في موضع نصب بـ « أخذ » . « متاعنا عنده » أي معاذ الله أن نأخذ البريء بالمجرم ونخالف ما تعاقدنا عليه. « إنا إذا لظالمون » أي أن نأخذ غيره.
الآية: 80 ( فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين )
قوله تعالى: « فلما استيئسوا منه » أي يئسوا؛ مثل عجب واستعجب، وسخر واستسخر. « خلصوا » أي انفردوا وليس هو معهم. « نجيا » نصب على الحال من المضمر في « خلصوا » وهو واحد يؤدي عن جمع، كما في هذه الآية؛ ويقع على الواحد كقوله تعالى: « وقربناه نجيا » [ مريم:52 ] وجمعه أنجية؛ قال الشاعر:
إني إذا ما القوم كانوا أنجية واضطرب القوم اضطراب الأرشية
هناك أوصيني ولا توصي بيه
وقرأ ابن كثير: « استايسوا » « ولا تايسوا » « إنه لا يايس » « أفلم يايس » بألف من غير همز على القلب؛ قدمت الهمزة وأخرت الياء، ثم قلبت الهمزة ألفا لأنها ساكنة قبلها فتحة؛ والأصل قراءة الجماعة؛ لأن المصدر ما جاء إلا على تقديم الياء - يأسا - والإياس ليس بمصدر أيس؛ بل هو مصدر أسته أوسا وإياسا أي أعطيته. وقال قوم: أيس ويئس لغتان؛ أي فلما يئسوا من رد أخيهم إليهم تشاوروا فيما بينهم لا يخالطهم غيرهم من الناس، يتناجون فيما عرض لهم. والنجي فعيل بمعنى المناجي.
قوله تعالى: « قال كبيرهم » قال قتادة: وهو روبيل، كان أكبرهم في السن. مجاهد: هو شمعون، كان أكبرهم في الرأي. وقال الكلبي: يهوذا؛ وكان أعقلهم. وقال محمد بن كعب وابن إسحاق: هو لاوى، وهو أبو الأنبياء. « ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله » أي عهدا من الله في حفظ ابنه، ورده إليه. « ومن قبل ما فرطتم في يوسف » « ما » في محل نصب عطفا على « أن » والمعنى: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله، وتعلموا تفريطكم في يوسف؛ ذكر النحاس وغيره. و « من » في قوله: « ومن قبل » متعلقة بـ « تعلموا » . ويجوز أن تكون « ما » زائدة؛ فيتعلق الظرفان اللذان هما « من قبل » و « في يوسف » بالفعل وهو « فرطتم » . ويجوز أن تكون « ما » والفعل مصدرا، و « من قبل » متعلقا بفعل مضمر؛ التقدير: تفريطكم في يوسف واقع من قبل؛ فما والفعل في موضع رفع بالابتداء، والخبر هو الفعل المضمر الذي يتعلق به « من قبل » . « فلن أبرح الأرض » أي ألزمها، ولا أبرح مقيما فيها؛ يقال: برح براحا وبروحا أي زال، فإذا دخل النفي صار مثبتا. « حتى يأذن لي أبي » بالرجوع فإني أستحي منه. « أو يحكم الله لي » بالممر مع أخي فأمضي معه إلى أبي. وقيل: المعنى أو يحكم الله لي بالسيف فأحارب واخذ أخي، أو أعجز فأنصرف بعذر، وذلك أن يعقوب قال: « لتأتنني به إلا أن يحاط بكم » [ يوسف: 66 ] ومن حارب وعجز فقد أحيط به.
وقال ابن عباس: وكان يهوذا إذا غضب وأخذ السيف فلا يرد وجهه مائة ألف؛ يقوم شعره في صدره مثل المسال فتنفذ من ثيابه. وجاء في الخبر أن يهوذا قال لإخوته - وكان أشدهم غضبا - : إما أن تكفوني الملك ومن معه أكفكم أهل مصر؛ وإما أن تكفوني أهل مصر أكفكم الملك ومن معه؛ قالوا: بل أكفنا الملك ومن معه نكفك أهل مصر، فبعث واحدا من إخوته فعدوا أسواق مصر فوجدوا فيها تسعة أسواق، فأخذ كل، واحد منهم سوقا؛ ثم إن يهوذا دخل على يوسف وقال: أيها الملك! لئن لم تخل معنا أخانا لأصيحن صيحة لا تبقي في مدينتك حاملا إلا أسقطت ما في بطنها؛ وكان ذلك خاصة فيهم عند الغضب، فأغضبه يوسف وأسمعه كلمه، فغضب يهوذا واشتد غضبه، وانتبجت ؟؟ شعراته؛ وكذا كان كل واحد من بني يعقوب؛ كان إذا غضب، اقشعر جلده، وانتفخ جسده، وظهرت شعرات ظهره، من تحت الثوب، حتى تقطر من كل شعرة قطرة دم؛ وإذا ضرب الأرض برجله تزلزلت وتهدم البنيان، وإن صاح صيحة لم تسمعه حامل من النساء والبهائم والطير إلا وضعت ما في بطنها، تماما أو غير تمام؛ فلا يهدأ غضبه إلا أن يسفك دما، أو تمسكه يد من نسل يعقوب؛ فلما علم يوسف أن غضب أخيه يهوذا قد تم وكمل كلم ولدا له صغيرا بالقبطية، وأمره أن يضع يده بين كتفي يهوذا من حيث لا يراه؛ ففعل فسكن غضبه وألقى السيف فالتفت يمينا وشمالا لعله يرى أحدا من إخوته فلم يره؛ فخرج مسرعا إلى إخوته وقال: هل حضرني منكم أحد؟ قالوا: لا! قال: فأين ذهب شمعون؟ قالوا: ذهب إلى الجبل؛ فخرج فلقيه، وقد احتمل صخرة عظيمة؛ قال: ما تصنع بهذه؟ قال أذهب إلى السوق الذي وقع في نصيبي أشدخ بها رؤوس كل من فيه؛ قال: فارجع فردها أو ألقها في البحر، ولا تحدثن حدثا؛ فوالذي اتخذ إبراهيم خليلا! لقد مسني كف من نسل يعقوب. ثم دخلوا على يوسف، وكان يوسف أشدهم بطشا، فقال: يا معشر العبرانيين! أتظنون أنه ليس أحد أشد منكم قوة، ثم عمد إلى حجر عظيم من حجارة الطاحونة فركله برجله فدحا به من خلف الجدار - الركل الضرب بالرجل الواحدة؛ وقد ركله يركله؛ قال الجوهري - ثم أمسك يهوذا بإحدى يديه فصرعه لجنبه، وقال: هات الحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم وأضرب أعناقهم، ثم صعد على سريره وجلس على فراشه، وأمر بصواعه فوضع بين يديه، ثم نقره نقرة فخرج طنينه، فالتفت إليهم وقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا! قال: فإنه يقول: إنه ليس على قلب أبي هؤلاء هم ولا غم ولا كرب إلا بسببهم، ثم نقر نقرة ثانية وقال: إنه يخبرني أن هؤلاء أخذوا أخا لهم صغيرا فحسدوه ونزعوه من أبيهم ثم أتلفوه؛ فقالوا: أيها العزيز! استر علينا ستر الله عليك، وامنن علينا من الله عليك؛ فنقره نقرة ثالثة وقال إنه يقول: إن هؤلاء طرحوا صغيرهم في الجب، ثم باعوه بيع العبيد بثمن بخس، وزعموا لأبيهم أن الذئب أكله؛ ثم نقره رابعة وقال: إنه يخبرني أنكم أذنبتم ذنبا منذ ثمانين سنة لم تستغفروا الله منه؛ ولم تتوبوا إليه، ثم نقره خامسة وقال إنه يقول: إن أخاهم الذي زعموا أنه هلك لن تذهب الأيام حتى يرجع فيخبر الناس بما صنعوا؛ ثم نقره سادسة وقال إنه يقول: لو كنتم أنبياء أو بني أنبياء ما كذبتم ولا عققتم والدكم؛ لأجعلنكم نكالا للعالمين. ايتوني بالحدادين أقطع أيديهم وأرجلهم، فتضرعوا وبكوا وأظهروا التوبة وقالوا: لو قد أصبنا أخانا يوسف إذ هو حي لنكونن طوع يده، وترابا يطأ علينا برجله؛ فلما رأى ذلك يوسف من إخوته بكى وقال لهم: اخرجوا عني! قد خليت سبيلكم إكراما لأبيكم، ولولا هو لجعلتكم نكالا.
الآية: 81 ( ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين )
قوله تعالى: « ارجعوا إلى أبيكم » قاله الذي قال: « فلن أبرح الأرض » . « فقولوا يا أبانا إن ابنك سَرَق » وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين « إن ابنك سُرِّقَ » النحاس: وحدثني محمد بن أحمد بن عمر قال حدثنا ابن شاذان قال حدثنا أحمد بن أبي سريج البغدادي قال: سمعت، الكسائي يقرأ: « يا أبانا إن ابنك سُرِّق » بضم السين وتشديد الراء مكسورة؛ على ما لم يسم فاعله؛ أي نسب، إلى السرقة ورمي بها؛ مثل خونته وفسقته وجرته إذا نسبته إلى هذه الخلال. وقال الزجاج: « سرق » يحتمل معنيين: أحدهما: علم منه السرق، والآخر: اتهم بالسرق. قال الجوهري: والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر يسرق سرقا بالفتح.
قوله تعالى: « وما شهدنا إلا بما علمنا » يريدون فقد شهدنا قط إلا بما علمنا، وأما الآن فقد شهدنا بالظاهر وما نعلم الغيب؛ كأنهم وقعت لهم تهمة من قول بنيامين: دس هذا في رحلي من دس بضاعتكم في رحالكم؛ قال معناه ابن إسحاق. وقيل المعنى: ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من دينك؛ قاله ابن زيد. « وما كنا للغيب حافظين » أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه. وقال مجاهد وقتادة: ما كنا نعلم أن ابنك يسترق ويصير أمرنا إلى هذا، وإنما قلنا: نحفظ أخانا فيما نطيق. وقال ابن عباس: يعنون أنه سرق ليلا وهم نيام، والغيب هو الليل بلغة حمير؛ وعنه: ما كنا نعلم ما يصنع في ليلة ونهاره وذهابه وإيابه. وقيل: ما دام بمرأى منا لم يجر خلل، فلما غاب عنا خفت عنا حالاته. وقيل معناه: قد أخذت السرقة من رحله، ونحن أخرجناها وننظر إليها، ولا علم لنا بالغيب، فلعلهم سرقوه ولم يسرق.
تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها؛ فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منهم، وهذا هو الأصل في الشهادات؛ ولهذا قال أصحابنا: شهادة الأعمى جائزة، وشهادة المستمع جائزة، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة؛ وكذلك الشهادة على الخط - إذا تيقن أنه خطه أو خط فلان - صحيحة فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه؛ قال الله تعالى: « إلا من شهد بالحق وهم يعلمون » [ الزخرف: 86 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بخير الشهداء خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) وقد مضى في « البقرة » .
اختلف قول مالك في شهادة المرور؛ وهو أن يقول: مررت بفلان فسمعته يقول كذا فإن استوعب القول شهد في أحد قوليه، وفي القول الآخر لا يشهد حتى يشهداه. والصحيح أداء الشهادة عند الاستيعاب؛ وبه قال جماعة العلماء، وهو الحق؛ لأنه قد حصل المطلوب وتعين عليه أداء العلم؛ فكان. خير الشهداء إذا أعلم المشهود له، وشر الشهداء إذا كتمها والله أعلم،
إذا أدعى رجل شهادة لا يحتملها عمره ردت؛ لأنه ادعى باطلا فأكذبه العيان ظاهر.
الآية: 82 ( واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون )
قوله تعالى: « واسأل القرية التي كنا فيها والعير » حققوا بها شهادتهم عنده، ورفعوا التهمة عن أنفسهم لئلا يتهمهم. فقولهم: « واسأل القرية » أي أهلها؛ فحذف؛ ويريدون بالقرية مصر. وقيل: قرية من قراها نزلوا بها وامتاروا منها. وقيل المعنى « واسأل القرية » وإن كانت جمادا، فأنت نبي الله، وهو ينطق الجماد له؛ وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار؛ قال سيبويه: ولا يجوز كلم هندا وأنت تريد غلام هند؛ لأن هذا يشكل. والقول في العير كالقول في القرية سواء. « وإنا لصادقون » في قولنا.
في هذه الآية من الفقه أن كل من كان على حق، وعلم أنه قد يظن به أنه على خلاف ما هو عليه أو يتوهم أن يرفع التهمة وكل ريبة عن نفسه، ويصرح بالحق الذي هو عليه، حتى لا يبقى لأحد متكلم؛ وقد فعل هذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله للرجلين اللذين مرا وهو قد خرج مع صفية يقلبها من المسجد: ( على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي ) فقالا: سبحان الله وكبر عليهما فقال النبي: ( إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا ) رواه البخاري ومسلم.
الآية: 83 ( قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم )
قوله تعالى: « قال بل سولت » أي زينت. « لكم أنفسكم » أن ابني وما سرق، وإنما ذلك لأمر يريده الله. « فصبر جميل » أي فشأني صبر جميل أو صبر جميل أولى بي على ما تقدم أول السورة.
الواجب على كل مسلم إذا أصيب بمكروه في نفسه أو ولده أو ماله أن يتلقى ذلك بالصبر الجميل، والرضا والتسليم لمجريه عليه وهو العليم الحكيم، ويقتدي بنبي الله يعقوب وسائر النبيين، صلوات الله عليهم أجمعين. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: ما من جرعتين يتجرعهما العبد أحب إلى الله من جرعة مصيبة يتجرعها العبد بحسن صبر وحسن عزاء، وجرعة غيظ يتجرعها العبد بحلم وعفو. وقال ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى: « فصبر جميل » أي لا أشكو ذلك إلى أحد. وروى قاتل بن سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من بث لم يصبر ) . وقد تقدم في « البقرة » أن الصبر عند أول الصدمة، وثواب من ذكر مصيبته واسترجع وأن تقادم عهدها. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن يعقوب أعطى على يوسف أجر مائة شهيد، وكذلك من احتسب من هذه الأمة في مصيبته فله مثل أجر يعقوب عليه السلام.
قوله تعالى: « عسى الله أن يأتيني بهم جميعا » لأنه كان عنده أن يوسف صلى الله عليه وسلم لم يمت، وإنما غاب عنه خبره؛ لأن يوسف حمل وهو عبد لا يملك لنفسه شيئا، ثم اشتراه الملك فكان في داره لا يظهر للناس، ثم حبس، فلما تمكن احتال في أن يعلم أبوه خبره؛ ولم يوجه برسول لأنه كره من إخوته أن يعرفوا ذلك فلا يدعوا الرسول يصل إليه وقال: « بهم » لأنهم ثلاثة؛ يوسف وأخوه، والمتخلف من أجل أخيه، وهو القائل: « فلن أبرح الأرض » . « إنه هو العليم » بحالي. « الحكيم » فيما يقضي.
الآية: 84 ( وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم )
قوله تعالى: « وتولى عنهم » أي أعرض عنهم؛ وذلك أن يعقوب لما بلغه خبر بنيامين تتام حزنه، وبلغ جهده، وجدد الله مصيبته له في يوسف فقال: « يا أسفا على يوسف » ونسى ابنه بنيامين فلم يذكره؛ عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير: لم يكن عند يعقوب ما في كتابنا من الاسترجاع، ولو كان عنده لما قال: « يا أسفا على يوسف » قال قتادة والحسن: والمعنى يا حزناه! وقال مجاهد والضحاك: يا جزعاه!؛ قال كُثَيِّر:
فيا أسفا للقلب كيف انصرافه وللنفس لما سليت فتسلت
والأسف شدة الحزن على ما فات. والنداء على معنى: تعال يا أسف فإنه من أوقاته. وقال الزجاج: الأصل يا أسفي؛ فأبدل من الياء ألف لخفة الفتحة. « وابيضت عيناه من الحزن » قيل: لم يبصر بهما ست سنين، وأنه عمي؛ قال مقاتل. وقيل: قد تبيض العين ويبقى شيء من الرؤية، والله أعلم بحال يعقوب؛ وإنما ابيضت عيناه من البكاء، ولكن سبب البكاء الحزن، فلهذا قال: « من الحزن » . وقيل: إن يعقوب كان يصلي، ويرسف نائما معترضا ببن يديه، فغط في نومه، فالتفت يعقوب إليه، ثم غط ثانية فالتفت إليه، ثم غط ثالثة فالتفت إليه سرورا به وبغطيطه؛ فأوحى الله تعالى إلى ملائكته: « انظروا إلى صفيي وابن خليلي قائما في مناجاتي يلتفت إلى غيري، وعزتي وجلالي! لأنزعن الحدقتين اللتين التفت بهما، ولأفرقن بينه وبين من التفت إليه ثمانين سنة، ليعلم العاملون أن من قام بين يدي يجب عليه مراقبة نظري » .
هذا يدل على أن الالتفات في الصلاة - وإن لم يبطل - يدل على العقوبة عليها، والنقص فيها، وقد روى البخاري عن عائشة قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: ( هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد ) . وسيأتي ما للعلماء في هذا في أول سورة « المؤمنون » موعبا إن شاء الله تعالى.
قال النحاس: فإن سأل قوم عن معنى شدة حزن يعقوب - صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا - فللعلماء في هذا ثلاثة أجوبة: منها - أن يعقوب لما علم أن يوسف صلى الله عليه وسلم حي خاف على دينه، فاشتد حزنه لذلك. وقيل: إنما حزن لأنه سلمه إليهم صغيرا، فندم على ذلك. والجواب الثالث: وهو أبينها - هو أن الحزن ليس بمحظور، وإنما المحظور الولولة وشق الثياب، والكلام بما لا ينبغي وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب ) . وقد بين الله جل وعز ذلك بقوله: « فهو كظيم » أي مكظوم مملوء من الحزن ممسك عليه لا يبثه؛ ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه؛ فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه؛ قال الله تعالى: « إذ نادى وهو مكظوم » [ القلم: 48 ] أي مملوء كربا. ويجوز أن يكون المكظوم بمعنى الكاظم؛ وهو المشتمل على حزنه. وعن ابن عباس: كظيم مغموم؛ قال الشاعر:
فإن أك كاظما لمصاب شاس فإني اليوم منطلق لساني
وقال ابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال: ذهبت عيناه من الحزن « فهو كظيم » قال: فهو مكروب. وقال مقاتل بن سليمان عن عطاء عن ابن عباس في قوله: « فهو كظيم » قال: فهو كمد؛ يقول: يعلم أن يوسف حي، وأنه لا يدري أين هو؛ فهو كمد من ذلك. قال الجوهري: الكمد الحزن المكتوم؛ تقول منه كمد الرجل فهو كمد وكميد. النحاس. يقال فلان كظيم وكاظم؛ أي حزين لا يشكو حزنه؛ قال الشاعر:
فحضضت قومي واحتسبت قتالهم والقوم من الخوف المنايا كظم
الآيتان: 85 - 86 ( قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين، قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون )
قوله تعالى: « قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف » أي قال له ولده: « تالله تفتا تذكر يوسف » قال الكسائي: فتأت وفتئت أفعل ذلك أي ما زلت. وزعم الغراء أن « لا » مضمرة؛ أي لا تفتأ، وأنشد:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
أي لا أبرح؛ قال النحاس: والذي قال حسن صحيح. وزعم الخليل وسيبويه أن « لا » تضمر في القسم، لأنه ليس فيه إشكال؛ ولو كان واجبا لكان باللام والنون؛ وإنما قالوا له لأنهم علموا باليقين أنه يداوم على ذلك؛ يقال: ما زال يفعل كذا، وما فتئ وفتأ فهما لغتان، ولا يستعملان إلا مع الجحد قال الشاعر:
فما فئت حتى كأن غبارها سرادق يوم ذي رياح ترفع
أي ما برحت فتفتأ تبرح. وقال ابن عباس: تزال. « حتى تكون حرضا » أي تالفا. وقال ابن عباس ومجاهد: دنفا من المرض، وهو ما دون الموت؛ قال الشاعر:
سرى همي فأمرضني وقدما زادني مرضا
كذا الحب قبل اليو م مما يورث الحرضا
وقال قتادة: هرما. الضحاك: باليا دائرا. محمد بن إسحاق: فاسدا لا عقل لك. الفراء: الحارض الفاسد الجسم والعقل؛ وكذا الحرض. ابن زيد: الحرص الذي قد رد إلى أرذل العمر. الربيع بن أنس: يابس الجلد على العظم. المؤرج: ذائبا من الهم. وقال الأخفش: ذاهبا. ابن الأنباري: هالكا، وكلها متقاربة. وأصل الحرض الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم، عن أبي عبيدة وغيره؛ وقال العرجي:
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني حتى بليت وحتى شفني السقم
قال النحاس: يقال حرض حرضا وحرض حروضا وحروضة إذا بليي وسقم، ورجل حارض وحرض؛ إلا أن حرضا لا يثني ولا يجمع، ومثله فمن وحري لا يثنيان ولا يجمعان. الثعلبي: ومن العرب من يقول حارض للمذكر، والمؤنثة حارضة؛ فإذا وصف بهذا اللفظ ثنى وجمع وأنث. ويقال: حرض يحرض حراضة فهو حريض وحرض. ويقال: رجل محرض، وينشد:
طلبته الخيل يوما كاملا ولو الفته لأضحى محرضا
وقال امرؤ القيس:
أرى المرء ذا الأذواد يصبح محرضا كإحراض بكر في الديار مريض
قال النحاس: وحكى أهل اللغة أحرضه الهم إذا أسقمه، ورجل حارض أي أحمق. وقرأ أنس: « حُرْضا » بضم الحاء وسكون الراء، أي مثل عود الأشنان. وقرأ الحسن بضم الحاء والراء. قال الجوهري: الحَرَض والحُرُض الأشنان. « أو تكون من الهالكين » أي الميتين، وهو قول الجميع؛ وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه، وإن كانوا السبب في ذلك.
قوله تعالى: « قال إنما أشكو بثي » حقيقة البث في اللغة ما يرد على الإنسان من الأشياء المهلكة التي لا يتهيأ له أن يخفيها؛ وهو من بثثته أي فرقته، فسميت المصيبة بثا مجازا، قال ذو الرمة:
وقفت على ربع لمية ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه
وقال ابن عباس: « بثي » همي. الحسن: حاجتي. وقيل: أشد الحزن، وحقيقة ما ذكرناه. « وحزني إلى الله » معطوف عليه، أعاده بغير لفظه. « وأعلم من الله ما لا تعلمون » أي أعلم أن رؤيا يوسف صادقة، وأني سأسجد له. قاله ابن عباس. إني أعلم من إحسان الله تعالى إلى ما يوجب حسن ظني به. وقيل: قال يعقوب لملك الموت هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا، فأكد هذا رجاءه. وقال السدي: أعلم أن يوسف حي، وذلك أنه لما أخبر. ولده بسيرة الملك وعدله خلفه وقوله أحست نفس يعقوب أنه ولده فطمع، وقال: لعله يوسف. وقال: لا يكون في الأرض صديق إلا نبئ. وقيل: أعلم من إجابة دعاء المضطرين ما لا تعلمون.