الآيتان: 23 - 24 ( وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين )
قوله تعالى: « وراودته التي هو في بيتها عن نفسه » وهي امرأة العزيز، طلبت منه أن يواقعها. وأصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين. والرود والرياد طلب الكلأ؛ وقيل: هي من رويد؛ يقال: فلان يمشي رويدا، أي برفق؛ فالمراودة الرفق في الطلب؛ يقال في الرجل: راودها عن نفسها، وفي المرأة راودته عن نفسه. والرود التأني؛ يقال: أرودني أمهلني. « وغلقت الأبواب » غلق للكثير، ولا يقال: غلق الباب؛ وأغلق يقع للكثير والقليل؛ كما قال الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء:
ما زلت أغلق أبوابا وأفتحها حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
يقال: إنها كانت سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلى نفسها. « وقالت هيت لك » أي هلم وأقبل وتعال؛ ولا مصدر له ولا تصريف. قال النحاس: فيها سبع قراءات؛ فمن أجل ما فيها وأصحه إسنادا ما رواه الأعمش عن أبي وائل قال: سمعت عبدالله بن مسعود يقرأ « هَيتَ لك » قال فقلت: إن قوما يقرؤونها « هِيتَ لك » فقال: إنما أقرأ كما علمت. قال أبو جعفر: وبعضهم يقول عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يبعد ذلك؛ لأن قوله: إنما أقرأ كما علمت يدل على أنه مرفوع، وهذه القراءة بفتح التاء والهاء هي الصحيحة من قراءة ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وعكرمة؛ وبها قرأ أبو عمرو بن العلاء وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي. قال عبدالله ابن مسعود: لا تقطعوا في القرآن؛ فإنما هو مثل، قول أحدكم: هلم تعال. وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي « قالت هَيتِ لك » بفتح الهاء وكسر التاء. وقرأ أبو عبدالرحمن السلمي وابن كثير « هَيتُ لك » بفتح الهاء وضم التاء؛ قال طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت
فهذه ثلاث قراءات الهاء فيهن مفتوحة. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع « وقالت هِيتَ لك » بكسر الهاء وفتح التاء. وقرأ يحيى بن وثاب « وقالت هِيْتُ لك » بكسر الهاء وبعدها ياء ساكنة والتاء مضمومة. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس ومجاهد وعكرمة: « وقالت هَئتُ لك » بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة والتاء مضمومة. وعن ابن عامر وأهل الشام: « وقالت هِئتَ » بكسر الهاء وبالهمزة وبفتح التاء؛ قال أبو جعفر: « هئتَ لك » بفتح التاء لالتقاء الساكنين، لأنه صوت نحومه وصه يجب ألا يعرب، والفتح خفيف؛ لأن قبل التاء ياء مثل، أين وكيف؛ ومن كسر التاء فإنما كسرها لأن الأصل الكسر؛ لأن الساكن إذا حرك حرك إلى الكسر، ومن ضم فلأن فيه معنى الغاية؛ أي قالت: دعائي لك، فلما حذفت الإضافة بني على الضم؛ مثل حيث وبعد. وقراءة أهل المدينة فيها قولان: أحدهما: أن يكون الفتح لالتقاء الساكنين كما مر. والآخر: أن يكون فعلا من هاء يهيئ مثل جاء يجيء؛ فيكون المعنى في « هئت » أي حسنت هيئتك، ويكون « لك » من كلام آخر، كما تقول: لك أعني. ومن همز. وضم التاء فهو فعل بمعنى تهيأت لك؛ وكذلك من قرأ « هيت لك » . وأنكر أبو عمرو هذه القراءة؛ قال أبو عبيدة - معمر بن المثنى: سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء وضم التاء مهموزا فقال أبو عمرو: باطل؛ جعلها من تهيأت! اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن هل تعرف أحدا يقول هذا؟! وقال الكسائي أيضا: لم تحك « هئت » عن العرب. قال عكرمة: « هئت لك » أي تهيأت لك وتزينت وتحسنت، وهي قراءة غير مرضية؛ لأنها لم تسمع في العربية. قال النحاس: وهي جيدة عند البصريين؛ لأنه يقال: هاء الرجل يهاء ويهيئ هيأة فهاء يهيئ مثل جاء يجيء وهئت مثل جئت. وكسر الهاء في « هيت » لغة لقوم يؤثرون كسر الهاء على فتحها. قال الزجاج: أجود القراءات « هيت » بفتح الهاء والتاء؛ قال طرفة:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما قال داع من العشيرة هيت
بفتح الهاء والتاء. وقال الشاعر في علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أبلغ أمير المؤمنـ ـين أخا العراق إذا أتيتا
إن العراق وأهله سلم إليك فهيت هيتا
قال ابن عباس والحسن: « هيت » كلمة بالسريانية تدعوه إلى نفسها. وقال السدي: معناها بالقبطية هلم لك. قال أبو عبيد: كان الكسائي يقول: هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناه تعال؛ قال أبو عبيد: فسألت شيخا عالما من حوران فذكر أنها لغتهم؛ وبه قال عكرمة. وقال مجاهد وغيره: هي لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال على الأشياء؛ قال الجوهري: يقال هوت به وهيت به إذا صاح به ودعاه؛ قال:
قد رابني أن الكري أسكتا لو كان معنيا بها لهيتا
أي صاح؛ وقال آخر: يحدو بها كل فتى هيات
قوله تعالى: « قال معاذ الله » أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه؛ وهو مصدر، أي أعوذ بالله معاذا؛ فيحذف المفعول وينتصب بالمصدر بالفعل المحذوف، ويضاف المصدر إلى اسم الله كما يضاف المصدر إلى المفعول، كما تقول: مررت بزيد مرور عمرو أي كمروري بعمرو. « إنه ربي » يعني زوجها، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه؛ قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي. وقال الزجاج: أي إن الله ربي تولاني بلطفه، فلا أرتكب ما حرمه. وفي الخبر أنها قالت له: يا يوسف! ما أحسن صورة وجهك! قال: في الرحم صورني ربي؛ قالت: يا يوسف ما أحسن شعرك! قال: هو أول شيء يبلى مني في قبري؛ قالت: يا يوسف! ما أحسن عينيك؟ قال: بهما أنظر إلى ربي. قالت: يا يوسف! ارفع بصرك فانظر في وجهي، قال: إني أخاف العمى في آخرتي. قالت يا يوسف ! أدنو منك وتتباعد مني؟! قال: أريد بذلك القرب من ربي. قالت: يا يوسف! القيطون فرشته لك فادخل معي، قال: القيطون لا يسترني من ربي. قالت: يا يوسف! فراش الحرير قد فرشته لك، قم فاقض حاجتي، قال: إذا يذهب من الجنة نصيبي؛ إلى غير ذلك من كلامها وهو يراجعها؛ إلى أن هم بها. وقد ذكر بعضهم ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة؛ فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه. واختلف العلماء في همه. ولا خلاف أن همها كان المعصية، وأما يوسف فهم بها « لولا أن رأى برهان ربه » ولكن لما رأى البرهان ما هم؛ وهذا لوجوب العصمة للأنبياء؛ قال الله تعالى: « كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين » فإذا في الكلام تقديم وتأخير؛ أي لولا أن رأى برهان ربه هم بها. قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: « ولقد همت به وهم بها » الآية، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير؛ كأنه أراد ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها. وقال أحمد بن يحيى: أي همت زليخاء بالمعصية وكانت مصرة، وهم يوسف ولم يواقع ما هم به؛ فبين الهمتين فرق، ذكر هذين القولين الهروي في كتابه. قال جميل:
هممت بهم من بثينة لو بدا شفيت غليلات الهوى من فؤاديا
آخر:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
فهذا كله حديث نفس من غير عزم. وقيل: هم بها تمنى زوجيتها. وقيل: هم بها أي بضربها ودفعها عن نفسه، والبرهان كفه عن الضرب؛ إذ لو ضربها لأوهم أنه قصدها بالحرام فامتنعت فضربها. وقيل: إن هم يوسف كان معصية، وأنه جلس منها مجلس الرجل من امرأته، وإلى هذا القول ذهب معظم المفسرين وعامتهم، فيما ذكر القشيري أبو نصر، وابن الأنباري والنحاس والماوردي وغيرهم. قال ابن عباس: حل الهميان وجلس منها مجلس الخاتن، وعنه: استلقت، على قفاها وقعد بين رجليها ينزع ثيابه. وقال سعيد بن جبير: أطلق تكة سراويله. وقال مجاهد: حل السراويل حتى بلغ الأليتين، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته. قال ابن عباس: ولما قال: « ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب » [ يوسف: 52 ] قال له جبريل: ولا حين هممت بها يا يوسف؟! فقال عند ذلك: « وما أبرئ نفسي » [ يوسف: 53 ] . قالوا: والانكفاف في مثل هذه الحالة دال على الإخلاص، وأعظم للثواب.
قلت: وهذا كان سبب ثناء الله تعالى على ذي الكفل حسب، ما يأتي بيانه في « ص ] إن شاء الله تعالى. وجواب » لولا « على هذا محذوف؛ أي لولا أن رأى برهان ربه لأمضى ما هم به؛ ومثله » كلا لو تعلمون علم اليقين « [ التكاثر: 5 ] وجوابه لم تتنافسوا؛ قال ابن عطية: روي هذا القول عن ابن عباس وجماعة من السلف، وقالوا: الحكمة في ذلك أن يكون مثلا للمذنبين ليروا أن توبتهم ترجع إلى، عفو الله تعالى كما رجعت ممن هو خير منهم ولم يوبقه القرب من الذنب، وهذا كله على أن هم يوسف بلغ فيما روت هذه الفرقة إلى أن جلس بين رجلي زليخاء وأخذ في حل ثيابه وتكته ونحو ذلك، وهي قد استلقت له؛ حكاه الطبري. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: وابن عباس ومن دونه لا يختلفون في أنه هم بها، وهم أعلم بالله وبتأويل كتابه، وأشد تعظيما للأنبياء من أن يتكلموا فيهم بغير علم. وقال الحسن: إن الله عز وجل لم يذكر معاصي الأنبياء ليعيرهم بها؛ ولكنه ذكرها لكيلا تيأسوا من التوبة. قال الغزنوي: مع أن زلة الأنبياء حكما: زيادة الوجل، وشدة الحياء بالخجل، والتخلي عن عجب، العمل، والتلذذ بنعمة العفو بعد الأمل، وكونهم أئمة رجاء أهل الزلل. قال القشيري أبو نصر: وقال قوم جرى من يوسف هم، وكان ذلك الهم حركة طبع من غير تصميم للعقد على الفعل؛ وما كان من هذا القبيل لا يؤخذ به العبد، وقد يخطر بقلب المرء وهو صائم شرب الماء البارد؛ وتناول الطعام اللذيذ؛ فإذا لم يأكل ولم يشرب، ولم يصمم عزمه على الأكل والشرب لا يؤاخذ بما هجس في النفس؛ والبرهان صرفه عن هذا الهم حتى لم يصر عزما مصمما.»
قلت: هذا قول حسن؛ وممن قال به الحسن. قال ابن عطية: الذي أقول به في هذه الآية إن كون يوسف نبيا في وقت هذه النازلة لم يصح، ولا تظاهرت به رواية؛ وإذا كان كذلك فهو مؤمن قد أوتي حكما وعلما، ويجوز عليه الهم الذي هو إرادة الشيء دون مواقعته وأن يستصحب الخاطر الرديء على ما في ذلك من الخطيئة؛ وإن فرضناه نبيا في ذلك الوقت فلا يجوز عليه عندي إلا الهم الذي هو خاطر، ولا يصح عليه شيء مما ذكر من حل تكته ونحوه؛ لأن العصمة مع النبوة. وما روي من أنه قيل له: تكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء. فإنما معناه العدة بالنبوة فيما بعد.
قلت: ما ذكره من هذا التفصيل صحيح؛ لكن قوله تعالى: « وأوحينا إليه » [ يوسف: 15 ] يدل على أنه كان نبيا على ما ذكرناه، وهو قول جماعة من العلماء؛ وإذا كان نبيا فلم يبق إلا أن يكون الهم الذي هم به ما يخطر في النفس ولا يثبت في الصدر؛ وهو الذي رفع الله فيه المؤاخذة عن الخلق، إذ لا قدرة للمكلف على دفعه؛ ويكون قوله: « وما أبرئ نفسي » [ يوسف: 53 ] - إن كان من قول يوسف - أي من هذا الهم، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف، لمخالفة النفس لما زكي به قبل وبرئ؛ وقد أخبر الله تعالى عن حال يوسف من حين بلوغه فقال: « ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما » [ يوسف: 22 ] على ما تقدم بيانه؛ وخبر الله تعالى صدق، ووصفه صحيح، وكلامه حق؛ فقد عمل يوسف بما علمه الله من تحريم الزنى ومقدماته؛ وخيانة السيد والجار والأجنبي في أهله؛ فما تعرض لامرأة العزيز، ولا أجاب إلى المراودة، بل أدبر عنها وفر منها؛ حكمة خص بها، وعملا بمقتضى ما علمه الله. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قالت الملائكة رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي ) . وقال عليه السلام مخبرا عن ربه: ( إذا هم عبدي بسيئة فلم يعملها كتبت حسنة ) . فإن كان ما يهم به العبد من السيئة يكتب له بتركها حسنة فلا ذنب؛ وفي الصحيح: ( إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به ) وقد تقدم. قال ابن العربي: كان بمدينة السلام إمام من أئمة الصوفية، - وأي إمام - يعرف بابن عطاء! تكلم يوما على يوسف وأخباره حتى ذكر تبرئته مما نسب إليه من مكروه؛ فقام رجل من آخر مجلسه وهو مشحون بالخليقة من كل طائفة فقال: يا شيخ! يا سيدنا! فإذا يوسف هم وما تم؟ قال: نعم! لأن العناية من ثم. فانظر إلى حلاوة العالم والمتعلم، وانظر إلى فطنة العامي في سؤاله، وجواب العالم في اختصاره واستيفائه؛ ولذلك قال علماء الصوفية: إن فائدة قوله: « ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما » [ يوسف: 22 ] إنما أعطاه ذلك إبان غلبة الشهوة لتكون له سببا للعصمة.
قلت: وإذا تقررت عصمته وبراءته بثناء الله تعالى عليه فلا يصح ما قال مصعب بن عثمان: إن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجها، فاشتاقته امرأة فسامته نفسها فامتنع عليها وذكرها، فقالت: إن لم تفعل لأشهرنك؛ فخرج وتركها، فرأى في منامه يوسف الصديق عليه السلام جالسا فقال: أنت يوسف؟ فقال: أنا يوسف الذي هممت، وأنت سليمان الذي لم تهم؟! فإن هذا يقتضي أن تكون درجة الولاية أرفع من درجة النبوة وهو محال؛ ولو قدرنا يوسف غير نبي فدرجته الولاية، فيكون محفوظا كهو؛ ولو غلقت على سليمان الأبواب، وروجع في المقال والخطاب، والكلام والجواب مع طول الصحبة لخيف عليه الفتنة، وعظيم المحنة، والله أعلم.
قوله تعالى: « لولا أن رأى برهان ربه » « أن » في موضع رفع أي لولا رؤية برهان ربه والجواب محذوف. لعلم السامع؛ أي لكان ما كان. وهذا البرهان غير مذكور في القرآن؛ فروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن زليخاء قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال: ما تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني في هذه الصورة؛ فقال يوسف: أنا أولى أن أستحي من الله؛ وهذا أحسن ما قيل فيه، لأن فيه إقامة الدليل. وقيل: رأى مكتوبا في سقف البيت « ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا » [ الإسراء: 32 ] . وقال ابن عباس: بدت كف مكتوب عليها « وإن عليكم لحافظين » [ الانفطار: 10 ] وقال قوم: تذكر عهد. الله وميثاقه. وقيل: نودي يا يوسف! أنت مكتوب في ديوان الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟! وقيل: رأى صورة يعقوب على الجدران عاضا على أنملته يتوعده فسكن، وخرجت شهوته من أنامله؛ قال قتادة ومجاهد والحسن والضحاك. وأبو صالح وسعيد بن جبير. وروى الأعمش عن مجاهد قال: حل سراويله فتمثل له يعقوب، وقال له: يا يوسف! فولى هاربا. وروى سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير قال: مثل له يعقوب فضرب صدره فخرجت شهوته من أنامله، قال مجاهد: فولد لكل واحد من أولاد يعقوب اثنا عشر ذكرا إلا يوسف لم يولد له إلا غلامان، ونقص بتلك الشهوة ولده؛ وقيل غير هذا. وبالجملة: فذلك البرهان آية من آيات الله أراها الله يوسف حتى قوي إيمانه، وامتنع عن المعصية.
قوله تعالى: « كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء » الكاف من « كذلك » يجوز أن تكون رفعا، بأن يكون خبر ابتداء محذوف، التقدير.: البراهين كذلك، ويكون نعتا لمصدر محذوف؛ أي أريناه البراهين رؤية كذلك. والسوء الشهوة، والفحشاء المباشرة. وقيل: السوء الثناء القبيح، والفحشاء الزنى. وقيل: السوء خيانة صاحبه، والفحشاء ركوب الفاحشة. وقيل: السوء عقوبة الملك العزيز. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر « المخلصين » بكسر اللام؛ وتأويلها الذين أخلصوا طاعة الله. وقرأ الباقون بفتح اللام، وتأويلها: الذين أخلصهم الله لرسالته؛ وقد كان يوسف صلى الله عليه وسلم بهاتين الصفتين؛ لأنه كان مخلصا في طاعة الله تعالى، مستخلصا لرسالة الله تعالى.
الآية: 25 ( واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلا أن يسجن أو عذاب أليم )
قوله تعالى: « واستبقا الباب » قال العلماء: وهذا من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني؛ وذلك أنه لما رأى برهان ربه هرب منها فتعاديا، هي لترده إلى نفسها، وهو ليهرب عنها، فأدركته قبل أن يخرج. وحذفت الألف من « استبقا » في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها؛ كما يقال: جاءني عبدالله في التثنية؛ ومن العرب من يقول: جاءني عبدا الله بإثبات الألف بغير همز، يجمع بين ساكنين؛ لأن الثاني مدغم، والأول حرف مد ولين. ومنهم من يقول: عبدا الله بإثبات الألف والهمز، كما تقول في الوقف.
قوله تعالى: « وقدت قميصه من دبر » أي من خلفه؛ قبضت في أعلى قميصه فتخرق القميص عند طوقه، ونزل التخريق إلى أسفل القميص. والاستباق طلب السبق إلى الشيء؛ ومنه السباق. والقد القطع، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولا؛ قال النابغة:
تقد السلوقي المضاعف نسجه وتوقد بالصفاح نار الحباحب
والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضا. وقال المفضل بن حرب: قرأت في مصحف « فلما رأى قميصه عط من دبره » أي شق. قال يعقوب: العط الشق في الجلد الصحيح والثوب الصحيح.
في الآية دليل على القياس والاعتبار، والعمل بالعرف والعادة؛ لما ذكر من قد القميص مقبلا ومدبرا، وهذا أمر انفرد به المالكية في كتبهم؛ وذلك أن القميص إذا جبذ من خلف تمزق من تلك الجهة، وإذا جبذ من قدام تمزق من تلك الجهة، وهذا هو الأغلب.
قوله تعالى: « وألفيا سيدها لدى الباب » أي وجدا العزيز عند الباب، وعني بالسيد الزوج، والقبط يسمون الزوج سيدا. يقال: ألفاه وصادفه ووارطه ووالطه ولاطه كله بمعنى واحد؛ فلما رأت زوجها طلبت وجها للحيلة وكادت فـ « قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا » أي زنى.
قوله تعالى: « إلا أن يسجن » تقول: يضرب ضربا وجيعا. و « ما جزاء » ابتداء، وخبره « أن يسجن » . « أو عذاب أليم » عطف على موضع « أن يسجن » لأن المعنى: إلا السجن. ويجوز أو عذابا أليما بمعنى: أو يعذب عذابا أليما؛ قال الكسائي.
الآيات: 26 - 29 ( قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين )
قوله تعالى: « قال هي راودتني عن نفسي » قال العلماء: لما برأت نفسها؛ ولم تكن صادقة في حبه - لأن من شأن المحب إيثار المحبوب - قال: « هي راودتني عن نفسي » نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه. قال نوف الشامي وغيره: كأن يوسف عليه السلام لم يبن عن كشف القضية، فلما بغت به غضب فقال الحق.
قوله تعالى: « وشهد شاهد من أهلها » لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب، فشهد شاهد من أهلها. أي حكم حاكم من أهلها؛ لأنه حكم منه وليس بشهادة. وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة: الأول - أنه طفل في المهد تكلم؛ قال السهيلي: وهو الصحيح؛ للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة... ) وذكر فيهم شاهد يوسف. وقال القشيري أبو نصر: قيل فيه: كان صبيا في المهد في الدار وهو ابن خالتها؛ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( تكلم أربعة وهم صغار... ) فذكر منهم شاهد يوسف؛ فهذا قول. الثاني - أن الشاهد قد القميص؛ رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو مجاز صحيح من جهة اللغة؛ فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال؛ وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات، وذلك كثير في أشعارها وكلامها؛ ومن أحلاه قول بعضهم: قال الحائط للوتد لم تشقني؟ قال له: سل من يدقني. إلا أن قول الله تعالى بعد « من أهلها » يبطل أن يكون القميص. الثالث - أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنسي ولا بجني؛ قال مجاهد أيضا، وهذا يرده قوله تعالى: « من أهلها » . الرابع - أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره، وكان من جملة أهل المرأة وكان مع زوجها فقال: قد سمعت الاستبدار والجلبة من وراء الباب، وشق القميص، فلا يدري أيكما كان قدام صاحبه؛ فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة، وإن كان من خلفه فهو صادق، فنظروا إلى القميص فإذا هو مشقوق من خلف؛ هذا قول الحسن وعكرمة وقتادة والضحاك ومجاهد أيضا والسدي. قال السدي: كان ابن عمها؛ وروي عن ابن عباس، وهو الصحيح في الباب، والله أعلم. وروي عن ابن عباس - رواه عنه إسرائيل عن سماك عن عكرمة - قال: كان رجلا ذا لحية. وقال سفيان عن جابر عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه قال: كان من خاصة الملك. وقال عكرمة: لم يكن بصبي، ولكن كان رجلا حكيما. وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: كان رجلا. قال أبو جعفر النحاس: والأشبه بالمعنى - والله أعلم - أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة؛ ولو كان طفلا لكانت شهادته ليوسف صلى الله عليه وسلم تغني عن أن يأتي بدليل من العادة؛ لأن كلام الطفل آية معجزة، فكادت أوضح من الاستدلال بالعادة؛ وليس هذا بمخالف للحديث ( تكلم أربعة وهم صغار ) منهم صاحب يوسف، يكون المعنى: صغيرا ليس بشيخ؛ وفي هذا دليل آخر وهو: أن ابن عباس رضي الله عنهما روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي.
قلت: قد روي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك أنه كان صبيا في المهد؛ إلا أنه لو كان صبيا تكلم لكان الدليل نفس كلامه، دون أن يحتاج إلى استدلال بالقميص، وكان يكون ذلك خرق عادة، ونوع معجزة؛ والله أعلم. وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة [ البروج ] إن شاء الله.
إذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على العمل بالإمارات كما ذكرنا؛ وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع؛ حتى قال مالك في اللصوص: إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها، وليست لهم بينة فإن السلطان يتلوم لهم في ذلك؛ فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم. وقال محمد في متاع البيت إذا اختلفت فيه المرأة والرجل: إن ما كان للرجال فهو للرجل، وما كان للنساء فهو للمرأة، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل. وكان شريح وإياس بن معاوية يعملان على العلامات في الحكومات؛ وأصل ذلك هذه الآية، والله أعلم.
قوله تعالى: « إن كان قميصه قد من قبل » كان في موضع جزم بالشرط، وفيه من النحو ما يشكل، لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل، وليس هذا في كان؛ فقال المبرد محمد بن يزيد: هذا لقوة كان، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال. وقال الزجاج: المعنى إن يكن؛ أي إن يعلم، والعلم لم يقع، وكذا الكون لأنه يؤدي عن العلم. « قد من قبل » فخبر عن « كان » بالفعل الماضي؛ كما قال زهير:
وكان طوى كشحا على مستكنة فلا هو أبداها ولم يتقدم
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق « من قبل » بضم القاف والباء واللام، وكذا « دبر » قال الزجاج: يجعلهما غايتين كقبل وبعد؛ كأنه قال: من قبله ومن دبره، فلما حذف المضاف إليه - وهو مراد - صار المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له. ويجوز « من قبل » « ومن دبر » بفتح الراء واللام تشبيها بما لا ينصرف؛ لأنه معرفة ومزال عن بابه. وروى محبوب عن أبي عمرو « من قبل » « ومن دبر » مخففان مجروران.
قوله تعالى: « فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن » قيل: قال لها ذلك العزيز عند قولها: « ما جزاء من أراد بأهلك سوءا » [ يوسف: 25 ] . وقيل: قاله لها الشاهد. والكيد: المكر والحيلة، وقد تقدم في ( الأنفال ) . « إن كيدكن عظيم » وإنما قال « عظيم » لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن. وقال مقاتل عن يحيى بن أبي كثير عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول: « إن كيد الشيطان كان ضعيفا » [ النساء: 76 ] وقال: « إن كيدكن عظيم » .
قوله تعالى: « يوسف أعرض عن هذا » القائل هذا هو الشاهد. و « يوسف » نداء مفرد، أي يا يوسف، فحذف. « أعرض عن هذا » أي لا تذكره لأحد واكتمه. « واستغفري لذنبك » أقبل عليها فقال: وأنت استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك. « إنك كنت من الخاطئين » ولم يقل من الخاطئات لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث، فغلب المذكر؛ والمعنى: من الناس الخاطئين، أو من القوم الخاطئين؛ مثل: « إنها كانت من قوم كافرين » [ النمل: 43 ] « وكانت من القانتين » [ التحريم: 12 ] . وقيل: إن القائل ليوسف أعرض ولها استغفري زوجها الملك؛ وفيه قولان: أحدهما: أنه لم يكن غيورا؛ فلذلك، كان ساكنا. وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود. الثاني: أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفي بادرته وعفا عنها.
الآية [ 30 ] في الصفحة التالية ...