الآية: 72 ( قالت يا ويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب )
قوله تعالى: « يا ويلتا » قال الزجاج: أصلها يا ويلتي؛ فأبدل من الياء ألف، لأنها أخف من الياء والكسرة؛ ولم ترد الدعاء على نفسها بالويل، ولكنها كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه؛ وعجبت من ولادتها ومن كون بعلها شيخا لخروجه عن العادة، وما خرج عن العادة مستغرب ومستنكر. و « أألد » استفهام معناه التعجب. « وأنا عجوز » أي شيخة. ولقد عجزت تعجز عجزا وعجزت تعجيزا؛ أي طعنت في السن. وقد يقال: عجوزة أيضا. وعجزت المرأة بكسر الجيم؛ عظمت عجيزتها عجزا وعجزا بضم العين وفتحها. قال مجاهد: كانت بنت تسع وتسعين سنة. وقال ابن إسحاق: كانت بنت تسعين سنة. وقيل غير هذا.
قوله تعالى: « وهذا بعلي شيخا » « وهذا بعلي » أي زوجي. « شيخا » نصب على الحال، والعامل فيه التنبيه أو الإشارة. « وهذا بعلي » ابتداء وخبر. وقال الأخفش: وفي قراءة ابن مسعود وأبي « وهذا بعلي شيخ » قال النحاس: كما تقول هذا زيد قائم؛ فزيد بدل من هذا؛ وقائم خبر الابتداء. ويجوز أن يكون « هذا » مبتدأ « وزيد قائم » خبرين؛ وحكى سيبويه: هذا حلو حامض. وقيل: كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: ابن مائة فكان يزيد عليها في قول مجاهد سنة. وقيل: إنها عرضت بقولها: « وهذا بعلي شيخا » أي عن ترك غشيانه لها. وسارة هذه امرأة إبراهيم بنت هاران بن ناحور بن شاروع بن أرغو بن فالغ، وهي بنت عم إبراهيم. « إن هذا لشيء عجيب » أي الذي بشرتموني به لشيء عجيب.
الآية: 73 ( قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد )
قوله تعالى: « قالوا أتعجبين من أمر الله » لما قالت: « وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا » وتعجبت، أنكرت الملائكة عليها تعجبها من أمر الله، أي من قضائه. وقدره، أي لا عجب من أن يرزقكما الله الولد، وهو إسحاق. وبهذه الآية استدل كثير من العلماء على أن الذبيح إسماعيل، وأنه أسن من إسحاق؛ لأنها بشرت بأن إسحاق يعيش حتى يولد له يعقوب. وسيأتي الكلام في هذا؛ وبيانه في « الصافات » إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « رحمة الله وبركاته » مبتدأ، والخبر « عليكم » . وحكى سيبويه « عليكم » بكسر الكاف لمجاورتها الياء. وهل هو خبر أو دعاء؟ وكونه إخبارا أشرف؛ لأن ذلك يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، المعنى: أوصل الله لكم رحمته وبركاته أهل البيت. وكونه دعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل به بعد. « أهل البيت » نصب على الاختصاص؛ وهذا مذهب سيبويه. وقيل: على النداء.
هذه الآية تعطي أن زوجة الرجل، من أهل البيت؛ فدل، هذا على أن أزواج الأنبياء من أهل البيت؛ فعائشة رضي الله عنها وغيرها من جملة أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ ممن قال الله فيهم: « ويطهركم تطهيرا » [ الأحزاب: 33 ] وسيأتي.
ودلت الآية أيضا على أن منتهى السلام « وبركاته » كما أخبر الله عن صالحي عباده « رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت » . والبركة النمو والزيادة؛ ومن تلك البركات أن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا في ولد إبراهيم وسارة. وروى مالك عن وهب بن كيسان أبي نعيم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: كنت جالسا عند عبدالله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ ثم زاد شيئا مع ذلك؛ فقال، ابن عباس - وهو يومئذ قد ذهب بصره - من هذا؟ فقالوا اليماني الذي يغشاك، فعرفوه إياه، فقال: ( إن السلام انتهى إلى البركة ) . وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال: دخلت المسجد فإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم في عصبة من أصحابه، فقلت: السلام عليكم؛ فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله عشرون لي وعشرة لك ) . قال: ودخلت الثانية؛ فقلت: السلام عليكم ورحمة الله فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وعشرون لك ) . فدخلت الثالثة فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فقال: ( وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ثلاثون لي وثلاثون لك أنا وأنت في السلام سواء ) . « إنه حميد مجيد » أي محمود ماجد. وقد بيناهما في « الأسماء الحسنى » .
الآيات: 74 - 76 ( فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط، إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود )
قوله تعالى: « فلما ذهب عن إبراهيم الروع » أي الخوف؛ يقال: ارتاع من كذا إذا خاف؛ قال النابغة:
فارتاع من صوت كلاب فبات له طوع الشوامت من خوف ومن صرد
« وجاءته البشرى » أي بإسحاق ويعقوب. وقال قتادة: بشروه بأنهم إنما أتوا بالعذاب إلى قوم لوط، وأنه لا يخاف. « يجادلنا » أي يجادل رسلنا، وأضافه إلى نفسه، لأنهم نزلوا بأمره. وهذه المجادلة رواها حميد بن هلال عن جندب عن حذيفة؛ وذلك أنهم لما قالوا: « إنا مهلكو أهل هذه القرية » [ العنكبوت: 31 ] قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا. قال: فعشرون؟ قالوا: لا. قال: فإن كان فيها عشرة - أو خمسة شك حميد - قالوا: لا. قال قتادة: نحوا منه؛ قال فقال يعني إبراهيم: قوم ليس فيهم عشرة من المسلمين لا خير فيهم. وقيل إن إبراهيم قال: أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فقال إبراهيم عند ذلك: « إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين » [ العنكبوت: 32 ] . وقال عبدالرحمن ابن سمرة: كانوا أربعمائة ألف. ابن جريج. وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف. ومذهب الأخفش والكسائي أن « يجادلنا » في موضع « جادلنا » . قال النحاس: لما كان جواب « لما » يجب أن يكون بالماضي جعل المستقبل مكانه؛ كما أن الشرط يجب أن يكون بالمستقبل فجعل الماضي مكانه. وفيه جواب آخر: أن يكون « يجادلنا » في موضع الحال؛ أي أقبل يجادلنا؛ وهذا قول الفراء. « إن إبراهيم لحليم : لأواه منيب » تقدم في « براءة » معنى « لأواه حليم » [ التوبة: 114 ] والمنيب الراجع؛ يقال: إذا رجع. وإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان راجعا إلى الله تعالى في أمور كلها. وقيل: الأواه المتأوه أسفا على ما قد فات قوم لوط من الإيمان.
قوله تعالى: « يا إبراهيم أعرض عن هذا » أي دع عنك الجدال في قوم لوط. « إنه قد جاء أمر ربك » أي عذابه لهم. « إنهم آتيهم » أي نازل بهم. « عذاب غير مردود » أي غير مصروف عنهم ولا مدفوع.
الآية: 77 ( ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب )
قوله تعالى: « ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم » لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ بصرت بنتا لوط - وهما تستقيان - بالملائكة ورأتا هيئة حسنة، فقالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ قالوا: من موضع كذا نريد هذه القرية قالتا: فإن أهلها أصحاب الفواحش؛ فقالوا: أبها من يضيفنا؟ قالتا: نعم! هذا الشيخ وأشارتا إلى لوط؛ فلما رأى لوط هيئتهم خاف قومه، عليهم. « سيء بهم » أي ساءه مجيئهم؛ يقال: ساء بسوء فهو لازم، وساءه يسوءه فهو متعد أيضا، وإن شئت ضممت السين؛ لأن أصلها الضم، والأصل سوئ بهم من السوء؛ قلبت حركة الواو على السين فانقلبت ياء، وإن خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء فقلت: « سي بهم » مخففا، ولغة شاذة بالتشديد. « وضاق بهم ذرعا » أي ضاق صدره بمجيئهم وكرهه. وقيل: ضاق وسعه وطاقته. وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه؛ فإذا حمل على أكثر من طوقه ضاق عن ذلك، وضعف ومد عنقه؛ فضيق الذرع عبارة عن ضيق الوسع. وقيل: هو من ذرعه القيء أي غابه؛ أي ضاق عن حبسه المكروه في نفسه، وإنما ضاق ذرعه بهم لما رأى من جمالهم، وما يعلم من فسق قومه. « وقال هذا يوم عصيب » أي شديد في الشر. وقال الشاعر:
وإنك إلا ترض بكر بن وائل يكن لك يوم بالعراق عصيب
وقال آخر:
يوم عصيب يعصب الأبطالا عصب القوي السلم الطوالا
ويقال: عصيب وعصبصب على التكثير؛ أي مكروه مجتمع الشر وقد. عصب؛ أي عصب بالشر عصابة، ومنه قيل: عصبة وعصابة أي مجتمعو الكلمة؛ أي مجتمعون في أنفسهم. وعصبة الرجل المجتمعون معه في النسب؛ وتعصبت لفلان صرت كعصبته، ورجل معصوب، أي مجتمع الخلق.
الآية: 78 ( وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد )
قوله تعالى: « وجاءه قومه يهرعون إليه » في موضع الحال. « يهرعون » أي يسرعون. قال الكسائي والفراء وغيرهما من أهل اللغة: لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة؛ يقال: أهرع الرجل إهراعا أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى، وهو مهرع؛ قال مهلهل:
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى نقودهم على رغم الأنوف
وقال آخر:
بمعجلات نحوه مهارع
وهذا مثل: أولع فلان بالأمر، وأرعد زيد. وزهي فلان. وتجيء ولا تستعمل إلا على هذا الوجه. وقيل: أهرع أي أهرعه حرصه؛ وعلى هذا « يهرعون » أي يستحثون عليه. ومن قال بالأول قال: لم يسمع إلا أهرع الرجل أي أسرع؛ على لفظ ما لم يسم فاعله. قال ابن القوطية: هرع الإنسان هرعا، وأهرع: سيق واستعجل. وقال الهروي يقال: هرع الرجل وأهرع أي استحث. قال ابن عباس وقتادة والسدي: ( « يهرعون » يهرولون ) . الضحاك: يسعون. ابن عيينة: كأنهم يدفعون. وقال شمر بن عطية: هو مشي بين الهرولة والجَمَزَى. وقال الحسن: مشي بين مشيين؛ والمعنى متقارب. وكان سبب إسراعهم ما روي أن امرأة لوط الكافرة، لما رأت الأضياف وجمالهم وهيئتهم، خرجت حتى أتت مجالس قومها، فقالت لهم: إن لوطا قد أضاف الليلة فتية ما رئي مثلهم جمال؛ وكذا وكذا؛ فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه. ويذكر أن الرسل لما وصلوا إلى بلد لوط وجدوا لوطا في حرث له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء من نهر سدوم؛ فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانكم! وذهبت إلى أبيها فأخبرته؛ فخرج إليهم؛ فقالوا: نريد أن تضيفنا الليلة؛ فقال لهم: أوما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال أشهد بالله إنهم لشر قوم في الأرض - وقد كان الله عز وجل، قال لملائكته لا تعذبوهم حتى يشهد لوط عليهم أربع شهادات - فلما قال لوط هذه المقالة، قال جبريل لأصحابه: هذه واحدة، وتردد القول بينهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل بهم المدينة.
قوله تعالى: « ومن قبل » أي ومن قبل مجيء الرسل. وقيل: من قبل لوط. « كانوا يعملون السيئات » أي كانت عادتهم إتيان الرجال. فلما جاؤوا إلى لوط وقصدوا أضيافه قام إليهم لوط مدافعا، وقال: « هؤلاء بناتي » ابتداء وخبر. وقد اختلف في قوله: « هؤلاء بناتي » فقيل: كان له ثلاث بنات من صلبه. وقيل: بنتان؛ زيتا وزعوراء؛ فقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه. وقيل: ندبهم في هذه الحالة إلى النكاح، وكانت سنتهم جواز نكاح الكافر المؤمنة؛ وقد كان هذا في أول الإسلام جائزا ثم نسخ؛ فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتا له من عتبة بن أبي لهب، والأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين. وقالت فرقة - منهم مجاهد وسعيد بن جبير - أشار بقوله: « بناتي » إلى النساء جملة؛ إذ نبي القوم أب لهم؛ ويقوي هذا أن في قراءة ابن مسعود. « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم » [ الأحزاب: 6 ] . وقالت طائفة: إنما كان الكلام مدافعة ولم يرد إمضاءه؛ روي هذا القول عن أبي عبيدة؛ كما يقال لمن ينهى عن أكل مال الغير: الخنزير أحل لك من هذا. وقال عكرمة: لم يعرض عليهم بناته ولا بنات أمته، وإنما قال لهم هذا لينصرفوا.
قوله تعالى: « هن أطهر لكم » ابتداء وخبر؛ أي أزوجكموهن؛ فهو أطهر لكم مما تريدون، أي أحل. والتطهر التنزه عما لا يحل. وقال ابن عباس: ( كان رؤساؤهم خطبوا بناته فلم يجبهم، وأراد ذلك اليوم أن يفدي أضيافه ببناته ) . وليس ألف « أطهر » للتفضيل حتى يتوهم أن في نكاح الرجال طهارة، بل هو كقولك: الله أكبر وأعلى وأجل، وإن لم يكن تفضيل؛ وهذا جائز شائع في كلام العرب، ولم يكابر الله تعالى أحد حتى يكون الله تعالى أكبر منه. وقد قال أبو سفيان بن حرب يوم أحد: اعل هبل اعل هبل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: ( قل الله أعلى وأجل ) . وهبل لم يكن قط عاليا ولا جليلا. وقرأ العامة برفع الراء. وقرأ الحسن وعيسى بن عمرو « هن أطهر » بالنصب على الحال. و « هن » عماد. ولا يجيز الخليل وسيبويه والأخفش أن يكون « هن » ههنا عمادا، وإنما يكون عمادا فيما لا يتم الكلام إلا بما بعدها، نحو كان زيد هو أخاك، لتدل بها على أن الأخ ليس بنعت. قال الزجاج: ويدل بها على أن كان تحتاج إلى خبر. وقال غيره: يدل بها على أن الخبر معرفة أو ما قارنها.
قوله تعالى: « فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي » أي لا تهينوني ولا تذلوني. ومنه قول حسان:
فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
مددت يمينا للنبي تعمدا ودميت فاه قطعت بالبوارق
ويجوز أن يكون من الخزاية، وهو الحياء، والخجل؛ قال ذو الرمة:
خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب
وقال آخر:
من البيض لا تخزى إذا الريح ألصقت بها مرطها أو زايل الحلي جيدها
وضيف يقع للاثنين والجميع على لفظ الواحد، لأنه في الأصل مصدر؛ قال الشاعر:
لا تعدمي الدهر شفار الجازر للضيف والضيف أحق زائر
ويجوز فيه التثنية والجمع؛ والأول أكثر كقولك: رجال صوم وفطر وزور. وخزي الرجل خزاية؛ أي استحيا مثل ذل وهان. وخزي خزيا إذا افتضح؛ يخزى فيهما جميعا. ثم وبخهم بقوله: « أليس منكم رجل رشيد » أي شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وقيل: « رشيد » أي ذو رشد. أو بمعنى راشد أو مرشد، أي صالح أو مصلح ابن عباس: مؤمن. أبو مالك: ناه عن المنكر. وقيل: الرشيد بمعنى الرشد؛ والرشد والرشاد الهدى والاستقامة. ويجوز أي يكون بمعنى المرشد؛ كالحكيم بمعنى المحكم.
الآية: 79 ( قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد )
قوله تعالى: « قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق » روي أن قوم لوط خطبوا بناته فردهم، وكانت سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا؛ فذلك قوله تعالى: « قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق » وبعد ألا تكون هذه الخاصية. فوجه الكلام أنه ليس، لنا إلى بناتك تعلق، ولا هن قصدنا، ولا لنا عادة نطلب ذلك. « وإنك لتعلم ما نريد » إشارة إلى الأضياف.
الآية: 80 ( قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد )
قوله تعالى: « قال لو أن لي بكم قوة » لما رأى استمرارهم في غيهم، وضعف عنهم، ولم يقدر على دفعهم، تمنى لو وجد عونا على ردهم؛ فقال على جهة التفجع والاستكانة. « لو أن لي بكم قوة » أي أنصارا وأعوانا. وقال ابن عباس: أراد الولد. و « أن » في موضع رفع بفعل مضمر، تقديره: لو اتفق أو وقع. وهذا يطرد في « أن » التابعة لـ « لو » . وجواب « لو » محذوف؛ أي لرددت أهل الفساد، وحلت بينهم وبين ما يريدون. « أو آوي إلى ركن شديد » أي ألجأ وأنضوي. وقرئ « أو آوي » بالنصب عطفا على « قوة » كأنه قال: « لو أن لي بكم قوة » أو إيواء إلى ركن شديد؛ أي وأن آوي، فهو منصوب بإضمار « أن » . ومراد لوط بالركن العشيرة، والمنعة بالكثرة. وبلغ بهم قبيح فعلهم إلى قوله هذا مع علمه بما عند الله تعالى؛ فيروى أن الملائكة وجدت عليه حين قال هذه الكلمات، وقالوا: إن ركنك لشديد. وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ) الحديث؛ وقد تقدم في « البقرة » . وخرجه الترمذي وزاد ( ما بعث الله بعده نبيا إلا في ثروة من قومه ) . قال محمد بن عمرو: والثروة الكثرة والمنعة؛ حديث حسن. ويروى أن لوطا عليه السلام لما غلبه قومه، وهموا بكسر الباب وهو يمسكه، قالت له الرسل: تنح عن الباب؛ فتنحى وانفتح الباب؛ فضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم، وعموا وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاء؛ قال الله تعالى: « ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم » [ القمر: 37 ] . وقال ابن عباس وأهل التفسير: أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظر قومه ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسور الجدار؛ فلما رأت الملائكة ما لقي من الجهد والكرب والنصب بسببهم، قالوا: يا لوط إن ركنك لشديد، وأنهم آتيهم عذاب غير مردود، وإنا رسل ربك؛ فافتح الباب ودعنا وإياهم؛ ففتح الباب فضربهم جبريل بجناحه على ما تقدم. وقيل: أخذ جبريل قبضة من تراب فأذراها في وجوههم، فأوصل الله إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب فطمس أعينهم، فلم يعرفوا طريقا، ولا اهتدوا إلى بيوتهم، وجعلوا يقولون: النجاء النجاء! فإن في بيت لوط قوما هم أسحر من على وجه الأرض، وقد سحرونا فأعموا أبصارنا. وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى نصبح فسترى؛ يتوعدونه.
الآية: 81 ( قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب )
قوله تعالى: « قالوا يا لوط إنا رسل ربك » لما رأت الملائكة حزنه واضطرابه ومدافعته عرفوه بأنفسهم، فلما علم أنهم رسل مكن قومه من الدخول، فأمر جبريل عليه السلام يده على أعينهم فعموا، وعلى أيديهم فجفت. « لن يصلوا إليك » أي بمكروه « فأسر بأهلك » قرئ « فاسر » بوصل الألف وقطعها؛ لغتان فصيحتان. قال الله تعالى: « والليل إذا يسر » [ الفجر: 4 ] وقال: « سبحان الذي أسرى » [ الإسراء: 1 ] وقال النابغة: فجمع بين اللغتين:
أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليه جامد البرد
وقال آخر:
حي النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
وقد قيل: « فأسر » بالقطع إذا سار من أول الليل، وسرى إذا سار من آخره؛ ولا يقال في النهار إلا سار. وقال لبيد:
إذا المرء أسرى ليلة ظن أنه قضى عملا والمرء ما عاش عامل
وقال عبدالله بن رواحة:
عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى
« بقطع من الليل » قال ابن عباس: بطائفة من الليل. الضحاك: ببقية من الليل. قتادة: بعد مضي صدر من الليل. الأخفش: بعد جنح من الليل. ابن الأعرابي: بساعة من الليل. وقيل: بظلمة من الليل. وقيل: بعد هدء من الليل. وقيل: هزيع من الليل. وكلها متقاربة؛ وقيل: إنه نصف الليل؛ مأخوذ من قطعه نصفين؛ ومنه قول الشاعر:
ونائحة تنوح بقطع ليل على رجل بقارعة الصعيد
فإن قيل: السرى لا يكون إلا بالليل، فما معنى « بقطع من الليل » ؟ فالجواب: أنه لو لم يقل: « بقطع من الليل » جاز أن يكون أوله. « ولا يلتفت منكم أحد » أي لا ينظر وراءه منكم أحد؛ قال مجاهد. ابن عباس: لا يتخلف منكم أحد. علي بن عيسى لا يشتغل منكم أحد بما يخلفه من مال أو متاع. « إلا امرأتك » بالنصب؛ وهي القراءة الواضحة البينة المعنى؛ أي فأسر بأهلك إلا امرأتك. وكذا في قراءة ابن مسعود « فأسر بأهلك إلا امرأتك » فهو استثناء من الأهل. وعلى هذا لم يخرج بها معه. وقد قال الله عز وجل: « كانت من الغابرين » [ الأعراف: 83 ] أي من الباقين. وقرأ أبو عمرو وابن كثير: « إلا امرأتك » بالرفع على البدل من « أحد » . وأنكر هذه القراءة جماعة منهم أبو عبيد؛ وقال: لا يصح ذلك إلا برفع « يلتفت » ويكون نعتا؛ لأن المعنى يصير - إذا أبدلت وجزمت - أن المرأة أبيح لها الالتفات، وليس المعنى كذلك. قال النحاس: وهذا الحمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون؛ والرفع على البدل له معنى صحيح، والتأويل له على ما حكى محمد بن الوليد عن محمد بن يزيد أن يقول الرجل لحاجبه: لا يخرج فلان؛ فلفظ النهي لفلان ومعناه للمخاطب؛ أي لا تدعه يخرج؛ ومثله قولك: لا يقم أحد إلا زيد؛ يكون معناه: انههم عن القيام إلا زيدا؛ وكذلك النهي للوط ولفظه لغيره؛ كأنه قال: انههم لا يلتفت منهم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن النهي عن الالتفات لأنه كلام تام؛ أي لا يلتفت، منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وتهلك، وأن لوطا خرج بها، ونهى من معه ممن أسرى بهم ألا يلتفت، فلم يلتفت منهم أحد سوى زوجته؛ فإنها لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه! فأدركها حجر فقتلها. « إنه مصيبها » أي من العذاب، والكناية في « إنه » ترجع إلى الأمر والشأن؛ أي فإن الأمر والشأن والقصة. « مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح » لما قالت الملائكة: « إنا مهلكو أهل هذه القرية » [ العنكبوت: 31 ] قال لوط: الآن الآن. استعجلهم بالعذاب لغيظه على قومه؛ فقالوا: « أليس الصبح بقريب » وقرأ عيسى بن عمر « أليس الصبح » بضم الباء وهي لغة. ويحتمل أن يكون جعل الصبح ميقاتا لهلاكهم؛ لأن النفوس فيه أودع، والناس فيه أجمع. وقال بعض أهل التفسير: إن لوطا خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر؛ وأن الملائكة قالت له: إن الله قد وكل بهذه القرية ملائكة معهم صوت رعد، وخطف برق، وصواعق عظيمة، وقد ذكرنا لهم أن لوطا سيخرج فلا تؤذوه؛ وأمارته أنه لا يلتفت، ولا تلتفت ابنتاه فلا يهولنك ما ترى. فخرج لوط وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم.