الآيتان: 46 - 47 ( قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين، قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين )
قوله تعالى: « قال يا نوح إنه ليس من أهلك » أي ليس، من أهلك الذين وعدتهم أن أنجيهم؛ قاله سعيد بن جبير. وقال الجمهور: ليس من أهل دينك ولا ولايتك؛ فهو على حذف مضاف؛ وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من حكم النسب. « إنه عمل غير صالح » قرأ ابن عباس وعروة وعكرمة ويعقوب والكسائي « إنه عمل غير صالح » أي من الكفر والتكذيب؛ واختاره أبو عبيد. وقرأ الباقون « عمل » أي ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف؛ قاله الزجاج وغيره. قال:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار
أي ذات إقبال وإدبار. وهذا القول والذي قبله يرجع إلى معنى واحد. ويجوز أن تكون الهاء للسؤال؛ أي إن سؤالك إياي أن أنجيه. عمل غير صالح. قال قتادة. وقال الحسن: معنى عمل غير صالح أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه. وكان لغير رشدة، وقال أيضا مجاهد. قال قتادة سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه؛ قلت إن الله أخبر عن نوح أنه قال: « إن ابني من أهلي » فقال: لم يقل مني، وهذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر؛ فقلت له: إن الله حكى عنه أنه قال: « إن ابني من أهلي » « ونادى نوح ابنه » ولا يختلف أهل الكتابين أنه ابنه؛ فقال الحسن: ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب! إنهم يكذبون. وقرأ: « فخانتاهما » [ التحريم: 10 ] . وقال ابن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ابنة، وكان ولد على فراشه، وكانت امرأته خانته فيه، ولهذا قال: « فخانتاهما » . وقال ابن عباس: ( ما بغت امرأة نبي قط ) ، وأنه كان ابنه لصلبه. وكذلك قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وغيرهم، وأنه كان ابنه لصلبه. وقيل لسعيد بن جبير يقول نوح: « إن ابني من أهلي » أكان من أهله؟ أكان ابنه؟ فسبح الله طويلا ثم قال: ( لا اله إلا الله! يحدث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه، وتقول إنه ليس ابنه! نعم كان ابنه؛ ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين، ولهذا قال الله تعالى: « إنه ليس من أهلك » ) ؛ وهذا هو الصحيح في الباب إن شاء الله تعالى لجلالة من قال به، وإن قوله: « إنه ليس من أهلك » ليس مما ينفي عنه أنه ابنه. وقوله: « فخانتاهما » [ التحريم: 10 ] يعني في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وذلك أنها قالت له: أما ينصرك ربك؟ فقال لها: نعم. قالت: فمتى؟ قال: إذا فار التنور؛ فخرجت تقول لقومها: يا قوم والله إنه لمجنون، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور، فهذه خيانتها. وخيانة الأخرى أنها كانت تدل على الأضياف على ما سيأتي إن شاء الله. والله أعلم. وقيل: الولد قد يسمى عملا كما يسمى كسبا، كما في الخبر ( أولادكم من كسبكم ) . ذكره القشيري.
في هذه الآية تسلية للخلق في فساد ابنائهم وإن كانوا صالحين. وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه، قال: فعلم مالك أنه قد فهمه الناس؛ فقال مالك: الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات. وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا، ومن أهل البيت؛ فمن وصى لأهله دخل في ذلك ابنه، ومن تضمنه منزله، وهو في عياله. وقال تعالى في آية أخرى: « ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون. ونجيناه وأهله من الكرب العظيم » [ الصافات: 75 ] فسمى جميع من ضمه منزله من أهله.
ودلت الآية على قول الحسن ومجاهد وغيرهما: أن الولد للفراش؛ ولذلك قال نوح ما قال آخذا بظاهر الفراش. وقد روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع عبيد بن عمير يقول: نرى رسول الله صلى عليه وسلم إنما قضى بالولد للفراش من أجل ابن نوح عليه السلام؛ ذكره أبو عمر في كتاب « التمهيد » . وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الولد للفراش وللعاهر الحجر ) يريد الخيبة. وقيل: الرجم بالحجارة. وقرأ عروة بن الزبير. « ونادى نوح ابنها » يريد ابن امرأته، وهي تفسير القراءة المتقدمة عنه، وعن علي رضي الله عنه، وهي حجة للحسن ومجاهد؛ إلا أنها قراءة شاذة، فلا نترك المتفق عليها لها. والله أعلم.
قوله تعالى: « إني أعظك أن تكون من الجاهلين » أي أنهاك عن هذا السؤال، وأحذرك لئلا تكون، أو كراهية أن تكون من الجاهلين؛ أي الآثمين. ومنه قوله تعالى: « يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا » [ النور: 17 ] أي يحذركم الله وينهاكم. وقيل: المعنى أرفعك أن تكون من الجاهلين. قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين؛ فـ « قال » نوح: « رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم » الآية وهذه ذنوب الأنبياء عليهم السلام، فشكر الله تذلله وتواضعه. « وإلا تغفر لي » ما فرط من السؤال. « وترحمني » أي بالتوبة. « أكن من الخاسرين » أي أعمالا. فقال: « يا نوح اهبط بسلام منا » .
الآية: 48 ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم )
قوله تعالى: « قيل يا نوح اهبط بسلام منا » أي قالت له الملائكة، أو قال الله تعالى له: اهبط من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى الأرض؛ فقد ابتلعت الماء وجفت. « بسلام منا » أي بسلامة وأمن. وقيل: بتحية. « وبركات عليك » أي نعم ثابتة؛ مشتق من بروك الجمل وهو ثبوته وإقامته. ومنه البركة لثبوت الماء فيها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ( نوح آدم الأصغر ) ، فجميع الخلائق الآن من نسله، ولم يكن معه في السفينة من الرجال والنساء إلا من كان من ذريته؛ على قول قتادة وغيره، حسب ما تقدم؛ وفي التنزيل « وجعلنا ذريته هم الباقين » [ الصافات: 77 ] . « وعلى أمم ممن معك » قيل: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة. ودخل في قوله « وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم » كل كافر إلى يوم القيامة؛ روي ذلك عن محمد بن كعب. والتقدير على هذا: وعلى ذرية أمم ممن معك، وذرية أمم سنمتعهم. وقيل: « من » للتبعيض، وتكون لبيان الجنس. « وأمم سنمتعهم » ارتفع و « أمم » على معنى وتكون أمم. قال الأخفش سعيد كما تقول: كلمت زيدا وعمرو جالس. وأجاز الفراء في غير القراءة وأمما، وتقديره: ونمتع أمما. وأعيدت « على » مع « أمم » لأنه معطوف على الكاف من « عليك » وهي ضمير المجرور، ولا يعطف على ضمير المجرور إلا بإعادة الجار على قول سيبويه وغيره. وقد تقدم في « النساء » بيان هذا مستوفى في قوله تعالى: « واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام » [ النساء: 1 ] بالخفض. والباء في قوله: « بسلام » متعلقة بمحذوف؛ لأنها في موضع الحال؛ أي اهبط مسلما عليك. و « منا » في موضع جر متعلق بمحذوف؛ لأنه نعت للبركات. « وعلى أمم » متعلق بما تعلق به « عليك » ؛ لأنه أعيد من أجل المعطوف على الكاف. و « من » في قوله: « ممن معك » متعلق بمحذوف؛ لأنه في موضع جر نعت للأمم. و « معك » متعلق بفعل محذوف؛ لأنه صلة « لمن » أي ممن استقر معك، أو آمن معك، أو ركب معك.
الآية: 49 ( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين )
قوله تعالى: « تلك من أنباء الغيب » أي تلك الأنباء، وفي موضع آخر « ذلك » أي ذلك النبأ والقصص من أنباء ما غاب عنك. « نوحيها إليك » أي لتقف عليها. « ما كنت تعلمها أنت ولا قومك » أي كانوا غير عارفين بأمر الطوفان، والمجوس الآن ينكرونه. « من قبل هذا » خبر أي مجهولة عندك وعند قومك. « فاصبر » على مشاق الرسالة وإذاية القوم كما صبر نوح. وقيل: أراد جهلهم بقصة ابن نوح وإن سمعوا أمر الطوفان [ فإنه ] على الجملة. « فاصبر » أي اصبر يا محمد على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته، وما تلقى من أذى العرب الكفار، كما صبر نوح على أذى قومه. « إن العاقبة » في الدنيا بالظفر، وفي الآخرة بالفوز. « للمتقين » عن الشرك والمعاصي.
الآيتان: 50 - 51 ( وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون، يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون )
قوله تعالى: « وإلى عاد أخاهم هودا » أي وأرسلنا، فهو معطوف على « أرسلنا نوحا » . وقيل له أخوهم لأنه منهم، وكانت القبيلة تجمعهم؛ كما تقول: يا أخا تميم. وقيل: إنما قيل له أخوهم لأنه من بني آدم كما أنهم من بني آدم؛ وقد تقدم هذا في « الأعراف » وكانوا عبدة الأوثان. وقيل: هم عادان، عاد الأولى وعاد الأخرى، فهؤلاء هم الأولى؛ وأما الأخرى فهو شداد ولقمان المذكوران في قوله تعالى: « إرم ذات العماد » [ الفجر: 7 ] . وعاد اسم رجل ثم استمر على قوم انتسبوا إليه. « قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره » بالخفض على اللفظ، و « غيره » بالرفع على الموضع، و « غيره » بالنصب على الاستثناء. « إن أنتم إلا مفترون » أي ما أنتم في اتخاذكم إلها غيره إلا كاذبون عليه جل وعز.
قوله تعالى: « يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني » أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به فيثقل عليكم، أي ثوابي في تبليغ الرسالة. والفطرة ابتداء الخلق.
قوله تعالى: « أفلا تعقلون » ما جرى على قوم نوح لما كذبوا الرسل.
الآية: 52 ( ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين )
قوله تعالى: « ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه » تقدم في أول السورة. « يرسل السماء » جزم لأنه جواب وفيه معنى المجازاة. « عليكم مدرارا » نصب على الحال، وفيه معنى التكثير؛ أي يرسل السماء بالمطر متتابعا يتلو بعضه بعضا؛ والعرب تحذف الهاء في مفعال على النسب؛ وأكثر ما يأتي مفعال من أفعل، وقد جاء ههنا من فعل؛ لأنه من درت السماء تدر وتدر فهي مدرار. وكان قوم هود - أعني عادا - أهل بساتين وزروع وعمارة، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن كما تقدم في « الأعراف » . « ويزدكم » عطف على يرسل. « قوة إلى قوتكم » قال مجاهد: شدة على شدتكم. الضحاك. خصبا إلى خصبكم. علي بن عيسى: عزا على عزكم. عكرمة: ولدا إلى ولدكم. وقيل: إن الله حبس عنهم المطر وأعقم الأرحام ثلاث سنين فلم يولد لهم ولد؛ فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد؛ فتلك القوة. وقال الزجاج: المعنى يزدكم قوة في النعم. « ولا تتولوا مجرمين » أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه، وتقيموا على الكفر
الآية: 53 ( قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين )
قوله تعالى: « قالوا يا هود ما جئتنا ببينة » أي حجة واضحة. « وما نحن لك بمؤمنين » إصرارا منهم على الكفر.