الآية: 13 ( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين )
قوله تعالى: « أم يقولون افتراه » « أم » بمعنى بل، وقد تقدم في « يونس » أي قد أزحت علتهم وإشكالهم في نبوتك بهذا القرآن، وحججتهم به؛ فإن قالوا: افتريته - أي اختلقته - فليأتوا بمثله مفترى بزعمهم. « وادعوا من استطعتم من دون الله » أي من الكهنة والأعوان.
الآية: 14 ( فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون )
قوله تعالى: « فإلم يستجيبوا لكم » « فإن لم يستجيبوا لكم » أي في المعارضة ولم تتهيأ لهم فقد قامت عليهم الحجة؛ إذ هم اللسن البلغاء، وأصحاب الألسن الفصحاء. « فاعلموا أنما أنزل بعلم الله » واعلموا صدق محمد صلى الله عليه وسلم، « و » اعلموا « أن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون » استفهام معناه الأمر. وقد تقدم القول في معنى هذه الآية، وأن القرآن معجز في مقدمة الكتاب. والحمد لله. وقال: « قل فأتوا » وبعده. « فإن لم يستجيبوا لكم » ولم يقل لك؛ فقيل: هو على تحويل المخاطبة من الإفراد، إلى الجمع تعظيما وتفخيما؛ وقد يخاطب الرئيس بما يخاطب به الجماعة. وقيل: الضمير في « لكم » وفي « فاعلموا » للجميع، أي فليعلم للجميع « أنما أنزل بعلم الله » ؛ قاله مجاهد. وقيل: الضمير في « لكم » وفي « فاعلموا » للمشركين؛ والمعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المعاونة؛ ولا تهيأت لكم المعارضة « فاعلموا أنما أنزل بعلم الله » . وقيل: الضمير في « لكم » للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وفي « فاعلموا » للمشركين.
الآية: 15 ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون )
قوله تعالى: « من كان » كان زائدة، ولهذا جزم بالجواب فقال: « نوف إليهم » قاله الفراء. وقال الزجاج: « من كان » في موضع جزم بالشرط، وجوابه « نوف إليهم » أي من يكن يريد؛ والأول في اللفظ ماضي والثاني مستقبل، كما قال زهير:
ومن هاب أسباب المنية يلقها ولو رام أسباب السماء بسلم
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية؛ فقيل: نزلت في الكفار؛ قال الضحاك، واختاره النحاس؛ بدليل الآية التي بعدها « أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار » [ هود: 16 ] أي من أتى منهم بصلة رحم أو صدقة نكافئه بها في الدنيا، بصحة الجسم، وكثرة الرزق، لكن لا حسنة له في الآخرة. وقد تقدم هذا المعنى في « براءة » مستوفى. وقيل: المراد بالآية المؤمنون؛ أي من أراد بعمله ثواب الدنيا عجل له الثواب ولم ينقص شيئا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب لأنه جرد قصده إلى الدنيا، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات ) فالعبد إنما يعطي على وجه قصده، وبحكم ضميره؛ وهذا أمر متفق عليه في الأمم بين كل ملة. وقيل: هو لأهل الرياء؛ وفي الخبر أنه يقال لأهل الرياء: ( صمتم وصليتم وتصدقتم وجاهدتم وقرأتم ليقال ذلك فقد قيل ذلك ) ثم قال: ( إن هؤلاء أول من تسعر بهم النار ) . رواه أبو هريرة، ثم بكى بكاء شديدا وقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، « من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها » وقرأ الآيتين، خرجه مسلم [ في صحيحه ] بمعناه والترمذي أيضا. وقيل: الآية عامة في كل من ينوي بعمله غير الله تعالى، كان معه أصل إيمان أو لم يكن؛ قال مجاهد وميمون بن مهران، وإليه ذهب معاوية رحمه الله تعالى. وقال ميمون بن مهران: ليس أحد يعمل حسنة إلا وفي ثوابها؛ فإن كان مسلما مخلصا وفي في الدنيا والآخرة، وإن كان كافرا وفي الدنيا. وقيل: من كان يريد [ الدنيا ] بغزوه مع النبي صلى الله عليه وسلم وفيها، أي وفي أجر الغزاة ولم ينقص منها؛ وهذا خصوص والصحيح العموم.
قال بعض العلماء: معنى هذه الآية قوله عليه السلام: ( إنما الأعمال بالنيات ) وتدلك هذه الآية على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وتدل على أن من توضأ للتبرد والتنظف لا يقع قربة عن جهة الصلاة، وهكذا كل ما كان في معناه.
ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة؛ وكذلك الآية التي في « الشورى » « من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها » [ الشورى: 20 ] الآية. وكذلك « ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها » [ آل عمران: 145 ] قيدها وفسرها التي في « سبحان » « من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد » [ الإسراء: 18 ] إلى قوله: « محظورا » [ الإسراء: 20 ] فأخبر سبحانه أن العبد ينوي ويريد والله سبحانه يحكم ما يريد، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ( في قوله: « من كان يريد الحياة الدنيا » أنها منسوخة بقوله: « من كان يريد العاجلة » ) [ الإسراء: 18 ] . والصحيح ما ذكرناه؛ وأنه من باب الإطلاق والتقييد؛ ومثله قوله: « وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان » [ البقرة: 186 ] فهذا ظاهره خبر عن إجابة كل داع دائما على كل حال، وليس كذلك؛ لقوله تعالى: « فيكشف ما تدعون إليه إن شاء » [ الأنعام: 41 ] والنسخ في الأخبار لا يجوز؛ لاستحالة تبدل الواجبات العقلية، ولاستحالة الكذب على الله تعالى فأما الأخبار عن الأحكام الشرعية فيجوز نسخها على خلاف فيه، على ما هو مذكور في الأصول؛ ويأتي في « النحل » بيانه إن شاء الله تعالى.
الآية: 16 ( أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون )
قوله تعالى: « أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار » إشارة إلى التخليد، والمؤمن لا يخلد؛ لقوله تعالى: « إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك » [ النساء: 48 ] الآية. فهو محمول على ما لو كانت. موافاة هذا المرئي على الكفر. وقيل: المعنى ليس لهم إلا النار في أيام معلومة ثم يخرج؛ إما بالشفاعة، وإما بالقبضة. والآية تقتضي الوعيد بسلب الإيمان؛ وفي الحديث الماضي يريد الكفر وخاصة الرياء، إذ هو شرك على ما تقدم بيانه في « النساء » ويأتي في آخر « الكهف » . « وباطل ما كانوا يعملون ابتداء وخبر، قال أبو حاتم: وحذف الهاء؛ قال النحاس: هذا لا يحتاج إلى حذف؛ لأنه بمعنى المصدر؛ أي وباطل عمله. وفي حرف أبي وعبدالله » وباطلا ما كانوا يعملون « وتكون » ما « زائدة؛ أي وكانوا يعملون باطلا.»
الآية: 17 ( أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون )
قوله تعالى: « أفمن كان على بينة من ربه » ابتداء والخبر محذوف؛ أي أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه من الفضل ما يتبين به كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها؟ ! عن علي بن الحسين والحسن بن أبي الحسن. وكذلك قال ابن زيد إن الذي على بينة هو من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم. « ويتلوه شاهد منه » من الله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل المراد بقوله « أفمن كان على بينة من ربه » النبي صلى الله عليه وسلم والكلام راجع إلى قوله: « وضائق به صدرك » [ هود: 12 ] ؛ أي أفمن كان معه بيان من الله، ومعجزة كالقرآن، ومعه شاهد كجبريل - على ما يأتي - وقد بشرت به الكتب السالفة يضيق صدره بالإبلاغ، وهو يعلم أن الله لا يسلمه. والهاء في « ربه » تعود عليه، وقوله: « ويتلوه شاهد منه » وروى عكرمة عن ابن عباس ( أنه جبريل ) ؛ وهو قول مجاهد والنخعي. والهاء في « منه » لله عز وجل؛ أي ويتلو البيان والبرهان شاهد من الله عز وجل. وقال مجاهد: الشاهد ملك من الله عز وجل يحفظه ويسدده. وقال الحسن البصري وقتادة: الشاهد لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن علي بن الحنفية: قلت لأبي أنت الشاهد؟ فقال: وددت أن أكون أنا هو، ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: هو علي بن أبي طالب؛ روي عن ابن عباس أنه قال: ( هو علي بن أبي طالب ) ؛ وروي عن علي أنه قال: ( ما من رجل من قريش إلا وقد أنزلت فيه الآية والآيتان؛ فقال له رجل: أي شيء نزل فيك؟ فقال علي: « ويتلوه شاهد منه » ) . وقيل: الشاهد صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهه ومخائله؛ لأن من كان له فضل وعقل فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالهاء على هذا ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، على قول ابن زيد وغيره. وقيل: الشاهد القرآن في نظمه وبلاغته، والمعاني الكثيرة منه في اللفظ الواحد؛ قال الحسين بن الفضل، فالهاء في « منه » للقرآن. وقال الفراء قال بعضهم: « ويتلوه شاهد منه » الإنجيل، وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق؛ والهاء في « منه » لله عز وجل. وقيل: البينة معرفة الله التي أشرقت لها القلوب، والشاهد الذي يتلوه العقل الذي ركب في دماغه وأشرق صدره بنوره. « ومن قبله » أي من قبل الإنجيل. « كتاب موسى » رفع بالابتداء، قال أبو إسحاق الزجاج والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم موصوف في كتاب موسى « يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل » [ الأعراف: 157 ] وحكى أبو حاتم عن بعضهم أنه قرأ « ومن قبله كتاب موسى » بالنصب؛ وحكاها المهدوي عن الكلبي؛ يكون معطوفا على الهاء في « يتلوه » والمعنى: ويتلو كتاب موسى جبريل عليه السلام؛ وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما؛ المعنى من قبله ( تلا جبريل كتاب موسى على موسى ) . ويجوز على ما ذكره ابن عباس أيضا من هذا القول أن يرفع « كتاب » على أن يكون المعنى: ومن قبله كتاب موسى كذلك؛ أي تلاه جبريل على موسى كما تلا القرآن على محمد. « إماما » نصب على الحال. « ورحمة » معطوف. « أولئك يؤمنون به » إشارة إلى بني إسرائيل، أي يؤمنون بما في التوراة من البشارة بك؛ وإنما كفر بك هؤلاء المتأخرون فهم الذين موعدهم النار؛ حكاه القشيري. والهاء في « به » يجوز أن تكون للقرآن، ويجوز أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم. « ومن يكفر به » أي بالقرآن أو بالنبي عليه السلام. « من الأحزاب » يعني من الملل كلها؛ عن قتادة؛ وكذا قال سعيد بن جبير: « الأحزاب » أهل الأديان كلها؛ لأنهم يتحازبون. وقيل: قريش وحلفاؤهم. « فالنار موعده » أي هو من أهل النار؛ وأنشد حسان:
أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لاقيها
وفي صحيح مسلم من حديث أبي يونس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار ) . « فلا تكن في مرية » أي في شك. « »
قوله تعالى: « منه » أي من القرآن. « إنه الحق من ربك » أي القرآن من الله؛ قاله مقاتل. وقال الكلبي: المعنى فلا تك في مرية في أن الكافر في النار. « إنه الحق » أي القول الحق الكائن؛ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد جميع المكلفين.
الآيتان: 18 - 19 ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون )
قوله تعالى: « ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا » أي لا أحد أظلم منهم لأنفسهم لأنهم افتروا على الله كذبا؛ فأضافوا كلامه إلى غيره؛ وزعموا أن له شريكا وولدا، وقالوا للأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله. « أولئك يعرضون على ربهم » أي يحاسبهم على أعمالهم « ويقول الأشهاد » يعني الملائكة الحفظة؛ عن مجاهد وغيره؛ وقال سفيان: سألت الأعمش عن ( الأشهاد ) فقال: الملائكة. الضحاك: هم الأنبياء والمرسلون؛ دليله قوله: « فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا » [ النساء: 41 ] . وقيل: الملائكة والأنبياء والعلماء الذين بلغوا الرسالات. وقال قتادة: عن الخلائق أجمع. وفي صحيح مسلم من حديث صفوان بن محرز عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه قال: ( وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على الله ) . « ألا لعنة الله على الظالمين » أي بعده وسخطه وإبعاده من رحمته على الذين وضعوا العبادة في غير موضعها..
قوله تعالى: « الذين يصدون عن سبيل الله » يجوز أن تكون « الذين » في موضع خفض نعتا للظالمين، ويجوز أن تكون في موضع رفع؛ أي هم الذين. وقيل: هو ابتداء خطاب من الله تعالى؛ أي هم الذين يصدون أنفسهم وغيرهم عن الإيمان والطاعة. « ويبغونها عوجا » أي يعدلون بالناس عنها إلى المعاصي والشرك. « وهم بالآخرة هم كافرون » أعاد لفظ « هم » تأكيدا.