الآية: 53 ( ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم )
تعليل. أي هذا العقاب، لأنهم غيروا وبدلوا، ونعمة الله على قريش الخصب والسعة، والأمن والعافية. « أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم » [ العنكبوت:67 ] الآية. وقال السدي: نعمة الله عليهم محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به، فنقل إلى المدينة وحل بالمشركين العقاب.
الآية: 54 ( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين )
ليس هذا بتكرير، لأن الأول للعادة في التكذيب، والثاني للعادة في التغيير، وباقي الآية بين.
الآيتان: 55 - 56 ( إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون )
قوله تعالى: « إن شر الدواب عند الله » أي من يدب على وجه الأرض في علم الله وحكمه.
قوله تعالى: « الذين كفروا فهم لا يؤمنون » نظيره « الصم البكم الذين لا يعقلون » [ الأنفال: 22 ] . ثم وصفهم فقال: « الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون » أي لا يخافون الانتقال. « ومن » في قوله « منهم » للتبعيض، لأن العهد إنما يجري مع أشرافهم ثم ينقصونه. والمعني بهم قريظة والنضير، في قول مجاهد وغيره. نقضوا العهد فأعانوا مشركي مكة بالسلاح، ثم اعتذروا فقالوا: نسينا، فعاهدهم عليه السلام ثانية فنقضوا يوم الخندق.
الآية: 57 ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون )
قوله تعالى: « فإما تثقفنهم في الحرب » شرط وجوابه. ودخلت النون توكيدا لما دخلت ما، هذا قول البصريين. وقال الكوفيون: تدخل النون الثقيلة والخفيفة مع « إما » في المجازاة للفرق بين المجازاة والتخيير. ومعنى « تثقفنهم » تأسرهم وتجعلهم في ثقاف، أو تلقاهم بحال ضعف، تقدر عليهم فيها وتغلبهم. وهذا لازم من اللفظ؛ لقول: « في الحرب » . وقال بعض الناس: تصادفنهم وتلقاهم. يقال: ثقفته أثقفه ثقفا، أي وجدته. وفلان ثقف لقف أي سريع الوجود لما يحاوله ويطلبه. وثقف لقف. وامرأة ثقاف. والقول الأول أولى؛ لارتباطه بالآية كما بينا. والمصادف قد يغلب فيمكن التشريد به، وقد لا يغلب. والثقاف في اللغة: ما يشد به القناة ونحوها. ومنه قول النابغة:
تدعو قعينا وقد عض الحديد بها عض الثقاف على صم الأنابيب
قوله تعالى: « فشرد بهم من خلفهم » قال سعيد بن جبير: المعنى أنذر بهم من خلفهم. قال أبو عبيد: هي لغة قريش، شرد بهم سمع بهم. وقال الضحاك: نكل بهم. الزجاج: افعل بهم فعلا من القتل تفرق به من خلفهم. والتشريد في اللغة: التبديد والتفريق، يقال: شردت بني فلان قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها. وكذلك الواحد، تقول: تركته شريدا عن وطنه وأهله. قال الشاعر من هذيل:
أطوف في الأباطح كل يوم مخافة أن يشرد بي حكيم
ومنه شرد البعير والدابة إذا فارق صاحبه. و « من » بمعنى الذي، قال الكسائي. وروي عن ابن مسعود « فشرذ » بالذال المعجمة، وهما لغتان. وقال قطرب: التشريذ ( بالذال المعجمة ) التنكيل. وبالدال المهملة التفريق، حكاه الثعلبي. وقال المهدوي: الذال لا وجه لها، إلا أن تكون بدلا من الدال المهملة لتقاربهما، ولا يعرف في اللغة « فشرذ » . وقرئ « من خلفهم » بكسر الميم والفاء. « لعلهم يذكرون » أي يتذكرون بوعدك إياهم. وقيل: هذا يرجع إلى من خلفهم، لأن من قتل لا يتذكر أي شرد بهم من خلفهم من عمل بمثل عملهم.
الآية: 58 ( وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين )
قوله تعالى: « وإما تخافن من قوم خيانة » أي غشا ونقضا للعهد. « فانبذ إليهم على سواء » وهذه الآية نزلت في بني قريظة وبني النضير. وحكاه الطبري عن مجاهد. قال ابن عطية: والذي يظهر في ألفاظ القرآن أن أم بني قريظة انقضى عند قول « فشرد بهم من خلفهم » ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية بأمره فيما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة، فتترتب فيهم هذه الآية. وبنو قريظة لم يكونوا في حد من تخاف خيانته، وإنما كانت خيانتهم ظاهرة مشهورة.
قال ابن العربي: فإن قيل كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة، والخوف ظن لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد مع ظن الخيانة. فالجواب من وجهين: أحدهما - أن الخوف قد يأتي بمعنى اليقين، كما قد يأتي الرجاء بمعنى العلم، قال الله تعالى: « ما لكم لا ترجون لله وقارا » [ نوح: 13 ] . الثاني - إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت دلائلها، وجب نبذ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة، وجاز إسقاط اليقين هنا ضرورة. وأما إذا علم اليقين فيستغنى عن نبذ العهد إليهم، وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة عام الفتح، لما إذا اشتهر منهم نقض العهد من غير أن ينبذ إليهم عهدهم. والنبذ: الرمي والرفض. وقال الأزهري: معناه إذا عاهدت قوما فعلمت منهم النقض بالعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تلقي إليهم أنك قد نقضت العهد والمواعدة، فيكونوا في علم النقض مستويين، ثم أوقع بهم. قال النحاس: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه. والمعنى: وإما تخافن من قوم بينك وبينهم عهد خيانة فأنبذ إليهم العهد، أي قل لهم قد نبذت إليكم عهدكم، وأنا مقاتلكم، ليعلموا ذلك فيكونوا معك في العلم سواء، ولا تقاتلهم وبينك وبينهم عهد وهم يثقون بك، فيكون ذلك خيانة وغدرا. ثم بين هذا بقوله: « إن الله لا يحب الخائنين » .
قلت: ما ذكره الأزهري والنحاس من إنباذ العهد مع العلم بنقضه يرده فعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فإنهم لما نقضوا لم يوجه إليهم بل قال: ( اللهم اقطع خبري عنهم ) وغزاهم. وهو أيضا معنى الآية، لأن في قطع العهد منهم ونكثه مع العلم به حصول نقض عهدهم والاستواء معهم. فأما مع غير العلم بنقض العهد منهم فلا يحل ولا يجوز. روى الترمذي وأبو داود عن سليم بن عامر قال: كان بين معاوية والروم عهد وكان يسير نحو بلادهم ليقرب حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاءه رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظروا فإذا هو عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية فسأل فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء ) فرجع معاوية بالناس. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والسواء: المساواة والاعتدال. وقال الراجز
فاضرب وجوه الغدر الأعداء حتى يجيبوك إلى السواء
وقال الكسائي: السواء العدل. وقد يكون بمعنى الوسط، ومنه قوله تعالى: « في سواء الجحيم » [ الصافات: 55 ] . ومنه قول حسان:
يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد
الفراء: ويقال « فانبذ إليهم على سواء » جهرا لا سرا.
روى مسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة ) . قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إنما كان الغدر في حق الإمام أعظم وأفحش منه في غيره لما في ذلك من المفسدة، فإنما إذا غدروا وعلم ذلك منهم ولم ينبذوا بالعهد لم يأمنهم العدو على عهد ولا صلح، فتشتد شوكته ويعظم ضرره، ويكون ذلك منفرا عن الدخول في الدين، وموجبا لذم أئمة المسلمين. فأما إذا لم يكن للعدو عهد فينبغي أن يتحيل عليه بكل حيلة، وتدار عليه كل خديعة. وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: ( الحرب خدعة ) . وقد اختلف العلماء هل يجاهد مع الإمام الغادر، على قولين. فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقاتل معه، بخلاف الخائن والفاسق. وذهب بعضهم إلى الجهاد معه. والقولان في مذهبنا.
الآية: 59 ( ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون )
قوله تعالى: « ولا يحسبن الذين كفروا » أي من أفلت من وقعة بدر سبق إلى الحياة. ثم استأنف فقال: « إنهم لا يعجزون » أي في الدنيا حتى يظفرك الله بهم. وقيل: يعني في الآخرة. وهو قول الحسن. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة « يحسبن » بالياء والباقون بالتاء، على أن يكون في الفعل ضمير الفاعل. و « الذين كفروا » مفعول أول. و « سبقوا » مفعول ثان. وأما قراءة الياء فزعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن هذا لحن لا تحل القراءة به، ولا تسمع لمن عرف الإعراب أو عرفه. قال أبو حاتم: لأنه لم يأت لـ « يحسبن » بمفعول وهو يحتاج إلى مفعولين. قال النحاس: وهذا تحامل شديد، والقراءة تجوز ويكون المعنى: ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا، فيكون الضمير يعود على ما تقدم، إلا أن القراءة بالتاء أبين. المهدوي: ومن قرأ بالياء احتمل أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون « الذين كفروا سبقوا » المفعولين. ويجوز أن يكون « الذين كفروا » فاعلا، والمفعول الأول محذوف، المعنى: ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا. مكي: ويجوز أن يضمر مع سبقوا أن، فيسد مسد المفعولين والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، فهو مثل « أحسب الناس أن يتركوا » [ العنكبوت: 2 ] في سد أن مسد المفعولين. وقرأ ابن عامر « أنهم لا يعجزون » بفتح الهمزة. واستبعد هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد. قال أبو عبيد: وإنما يجوز على أن يكون المعنى: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون. قال النحاس: الذي ذكره أبو عبيد لا يجوز عند النحويين البصريين، لا يجوز حسبت زيدا أنه خارج، إلا بكسر الألف، وإنما لم يجز لأنه في موضع المبتدأ، كما تقول: حسبت زيدا أبوه خارج، ولو فتحت لصار المعنى حسبت زيدا خروجه. وهذا محال، وفيه أيضا من البعد أنه لا وجه لما قال يصح به معنى، إلا أن يجعل « لا » زائدة، ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله عز وجل إلى التطول بغير حجة يجب التسليم لها. والقراءة جيدة على أن يكون المعنى: لأنهم لا يعجزون. مكي: فالمعنى لا يحسبن الكفار أنفسهم فأتوا لأنهم لا يعجزون، أي لا يفوتون. فـ « أن » في موضع نصب بحذف اللام، أو في موضع خفض على إعمال اللام لكثرة حذفها مع « أن » ، وهو يروى عن الخليل والكسائي. وقرأ الباقون بكسر « إن » على الاستئناف والقطع مما قبله، وهو الاختيار، لما فيه من معنى التأكيد، ولأن الجماعة عليه. وروي عن ابن محيصن أنه قرأ « لا يعجزون » بالتشديد وكسر النون. النحاس: وهذا خطأ من وجهين: أحدهما أن معنى عجزه ضعفه وضعف أمره. والآخر - أنه كان يجب أن يكون بنونين. ومعنى أعجزه سبقه وفاته حتى لم يقدر عليه.
الآية: 60 ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون )
قوله تعالى: « وأعدوا لهم » أمر الله سبحانه المؤمنين بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكد تقدمة التقوى. فإن الله سبحانه لو شاء لهزمهم بالكلام والتفل في وجوههم وبحفنة من تراب، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنه أراد أن يبتلي بعض الناس ببعض بعلمه السابق وقضائه النافذ. وكلما تعده لصديقك من خير أو لعدوك من شر فهو داخل في عدتك. قال ابن عباس: القوة ههنا السلاح والقسي. وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ) . وهذا نص رواه عن عقبة أبو علي ثمامة بن شفي الهمداني، وليس له في الصحيح غيره. وحديث آخر في الرمي عن عقبة أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه ) . وقال صلى الله عليه وسلم: ( كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنه من الحق ) . ومعنى هذا والله أعلم: أن كل ما يتلهى به الرجل مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدة فهو باطل، والإعراض عنه أولى. وهذه الأمور الثلاثة فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهى بها وينشط، فإنها حق لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس وتأديب الفرس جميعا من معاون القتال. وملاعبة الأهل قد تؤدي إلى ما يكون عنه ولد يوحد الله ويعبده، فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق. وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله يدخل ثلاثة نفر الجنة بسهم واحد صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي ومبله ) . وفضل الرمي عظيم ومنفعته عظيمة للمسلمين، ونكايته شديدة على الكافرين. قال صلى الله عليه وسلم: ( يا بني إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا ) . وتعلم الفروسية واستعمال الأسلحة فرض كفاية. وقد يتعين. « ومن رباط الخيل » وقرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة « ومن ربط الخيل » بضم الراء والباء، جمع رباط، ككتاب وكتب قال أبو حاتم عن ابن زيد: الرباط من الخيل الخمس فما فوقها، وجماعته ربط. وهي التي ترتبط، يقال منه: ربط يربط ربطا. وارتبط يرتبط ارتباطا. ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو. قال الشاعر:
أمر الإله بربطها لعدوه في الحرب إن الله خير موفق
وقال مكحول بن عبدالله:
تلوم على ربط الجياد وحبسها وأوصى بها الله النبي محمدا
ورباط الخيل فضل عظيم ومنزلة شريفة. وكان لعروة البارقي سبعون فرسا معدة للجهاد. والمستحب منها الإناث، قال عكرمة وجماعة. وهو صحيح، فإن الأنثى بطنها كنز وظهرها عز. وفرس جبريل كان أنثى. وروى الأئمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر ) الحديث. ولم يخص ذكرا من أنثى. وأجودها أعظمها أجرا وأكثرها نفعا. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الرقاب أفضل؟ فقال: ( أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ) . وروى النسائي عن أبي وهب الجشمي - وكانت له صحبة - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عز وجل عبدالله وعبدالرحمن وارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأكفالها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار وعليكم بكل كميت أغر محجل أو أشقر أغر محجل أو أدهم أغر محجل ) . وروى الترمذي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم ثم الأقرح المحجل طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية ) . ورواه الدارمي عن أبي قتادة أيضا، أن رجلا قال: يا رسول الله، إني أريد أن أشتري فرسا، فأيها أشتري؟ قال: ( اشتر أدهم أرثم محجلا طلق اليد اليمنى أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم ) . وكان صلى الله عليه وسلم يكره الشكال من الخيل. والشكال: أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى ورجله اليسرى. خرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه. ويذكر أن الفرس الذي قتل عليه الحسين بن علي رضي الله عنهما كان أشكل.
فإن قيل: إن قوله « وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة » كان يكفي، فلم خص الرمي والخيل بالذكر؟ قيل له: إن الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها التي عقد الخير في نواصيها، وهي أقوى القوة وأشد العدة وحصون الفرسان، وبها يجال في الميدان، خصها بالذكر تشريفا، وأقسم بغبارها تكريما. فقال: « والعاديات ضبحا » [ العاديات: 1 ] الآية. ولما كانت السهام من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدو وأقربها تناولا للأرواح، خصها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لها والتنبيه عليها. ونظير هذا في التنزيل، « وجبريل وميكال » [ البقرة: 98 ] ومثله كثير.
وقد استدل بعض علمائنا بهذه الآية على جواز وقف الخيل والسلاح، واتخاذ الخزائن والخزان لها عدة للأعداء. وقد اختلف العلماء في جواز وقف الحيوان كالخيل والإبل على قولين: المنع، وبه قال أبو حنيفة. والصحة، وبه قال الشافعي رضي الله عنه. وهو أصح، لهذه الآية، ولحديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله وقوله عليه السلام في حق خالد: ( وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله ) الحديث. وما روي أن امرأة جعلت بعيرا في سبيل الله، فأراد زوجها الحج، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحج من سبيل الله ) . ولأنه مال ينتفع به في وجه قربة، فجاز أن يوقف كالرباع. وقد ذكر السهيلي في هذه الآية تسمية خيل النبي صلى الإله عليه وسلم، وآلة حربه. من أرادها وجدها في كتاب الأعلام.
قوله تعالى: « ترهبون به عدو الله وعدوكم » يعني تخيفون به عدو الله وعدوكم من اليهود وقريش وكفار العرب. « وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم » يعني فارس والروم، قاله السدي. وقيل: الجن. وهو اختيار الطبري. وقيل: المراد بذلك كل من لا تعرف عداوته. قال السهيلي: قيل لهم قريظة. وقيل: هم من الجن. وقيل غير ذلك. ولا ينبغي أن يقال فيهم شيء، لأن الله سبحانه قال: « وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم » ، فكيف يدعي أحد علما بهم، إلا أن يصح حديث جاء في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قوله في هذه الآية: ( هم الجن ) . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان لا يخبل أحدا في دار فيها فرس عتيق ) وإنما سمي عتيقا لأنه قد تخلص من الهجانة. وهذا الحديث أسنده الحارث بن أبي أسامة عن ابن المليكي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي: أن الجن لا تقرب دارا فيها فرس، وأنها تنفر من صهيل الخيل. « وما تنفقوا من شيء » أي تتصدقوا. وقيل: تنفقوه على أنفسكم أو خيلكم. « في سبيل الله يوف إليكم » في الآخرة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة. « وأنتم لا تظلمون » .
الآية: 61 ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم )
قوله تعالى: « وإن جنحوا للسلم فاجنح لها » إنما قال « لها » لأن السلم مؤنثة. ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة. والجنوح الميل. يقول: إن مالوا - يعني الذين نبذ إليهم عهدهم - إلى المسالمة، أي الصلح، فمل إليها. وجنح الرجل إلى الآخر: مال إليه، ومنه قيل للأضلاع جوانح، لأنها مالت على الحشوة. وجنحت الإبل: إذا مالت أعناقها في السير. وقال ذو الرمة:
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنح
وقال النابغة:
جوانح قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى الجمعان أول غالب
يعني الطير. وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض. والسلم والسلام هو الصلح. وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل « للسلم » بكسر السين. الباقون بالفتح. وقد تقدم معنى ذلك في « البقرة » مستوفى. وقد يكون السلام من التسليم. وقرأ الجمهور « فاجنح » بفتح النون، وهي لغة تميم. وقرأ الأشهب العقيلي « فاجنح » بضم النون، وهي لغة قيس. قال ابن جني: وهذه اللغة هي القياس.
وقد اختلف في هذه الآية، هل هي منسوخة أم لا. فقال قتادة وعكرمة: نسخها « فاقتلوا المشركين حيث وجدتموه » [ التوبة: 5 ] . « وقاتلوا المشركين كافة » [ التوبة: 36 ] وقالا: نسخت براءة كل موادعة، حتى يقولوا لا إله إلا الله. ابن عباس: الناسخ لها « فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم » [ محمد: 35 ] . وقيل: ليست بمنسوخة، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية. وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم، على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم. وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من أهل البلاد على مال يؤدونه، من ذلك خيبر، رد أهلها إليها بعد الغلبة على أن يعملوا ويؤدوا النصف. قال ابن إسحاق: قال مجاهد عنى بهذه الآية قريظة، لأن الجزية تقبل منهم، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء. وقال السدي وابن زيد.: معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم. ولا نسخ فيها. قال ابن العربي: وبهذا يختلف الجواب عنه، وقد قال الله عز وجل: « فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم » [ محمد: 35 ] . فإذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة، وجماعة عديدة، وشدة شديدة فلا صلح، كما قال:
فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم
وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه. وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم. وقد صالح الضمري وأكيدر دومة وأهل نجران، وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده. وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة، وبالوجوه التي شرحناها عاملة. قال القشيري: إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألا تبلغ الهدنة سنة. وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا تجوز الزيادة. وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين. قال ابن المنذر: اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وبين أهل مكة عام الحديبية، فقال عروة: كانت أربع سنين. وقال ابن جريج: كانت ثلاث سنين. وقال ابن إسحاق: كانت عشر سنين. وقال الشافعي رحمه الله: لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة، لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية. وقال ابن حبيب عن مالك رضي الله عنه: تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث، وإلى غير مدة. قال المهلب: إنما قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين، لسبب حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة، حين توجه إليها فبركت. وقال: ( حبسها حابس الفيل ) . على ما خرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة. ودل على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم، إذا رأى ذلك الإمام وجها. ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو، لموادعة النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة، وينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا، ويرجعا بقومهما عنهم. وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقالا: يا رسول الله، هذا أمر تحبه فنصنعه لك، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع، أو أمر تصنعه لنا؟ فقال: ( بل أمر أصنعه لكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ) ، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة، إلا شراء أو قرى، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ( أنتم وذاك ) . وقال لعيينة والحارث: ( انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف ) . وتناول سعد الصحيفة، وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله فمحاها.