لآيات: 118 - 122 ( فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقي السحرة ساجدين، قالوا آمنا برب العالمين، رب موسى وهارون )
قوله تعالى: « فوقع الحق » قال مجاهد: فظهر الحق. « وانقلبوا صاغرين » نصب على الحال. والفعل منه صغر يصغر صغرا وصغرا وصغارا. أي انقلب قوم فرعون وفرعون معهم أذلاء مقهورين مغلوبين. فأما السحرة فقد آمنوا.
الآيتان: 123 - 124 ( قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون، لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين )
قوله تعالى: « قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم » إنكار منه عليهم. « إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها » أي جرت بينكم وبينه مواطأة في هذا لتستولوا على مصر، أي كان هذا منكم في مدينة مصر قبل أن تبرزوا إلى هذه الصحراء « فسوف تعلمون » تهديدا لهم. قال ابن عباس: كان فرعون أول من صلب، وقطع الأيدي والأرجل من خلاف، الرجل اليمنى واليد اليسرى، واليد اليمنى والرجل اليسرى، عن الحسن.
الآيتان: 125 - 126 ( قالوا إنا إلى ربنا منقلبون، وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين )
قوله تعالى: « وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا » قرأ الحسن بفتح القاف. قال الأخفش: هي لغة يقال: نقمت الأمر ونقمته أنكرته، أي لست تكره منا سوى أن آمنا بالله وهو الحق. « لما جاءتنا » آياته وبيناته. « ربنا أفرغ علينا صبرا » الإفراغ الصب، أي اصببه علينا عند القطع والصلب. « وتوفنا مسلمين » فقيل: إن فرعون أخذ السحرة وقطعهم على شاطئ النهر، وإنه آمن بموسى عند إيمان السحرة ستمائة ألف.
الآيتان: 127 - 128 ( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون، قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين )
قوله تعالى: « وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض » أي بإيقاع الفرقة وتشتيت الشمل. « ويذرك » بنصب الراء جواب الاستفهام، والواو نائبة عن الفاء. « وآلهتك » قال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام، فكان يعبد ويعبد. قال سليمان التيمي: بلغني أن فرعون كان يعبد البقر. قال التيمي: فقلت للحسن هل كان فرعون يعبد شيئا؟ قال نعم؛ إنه كان يعبد شيئا كان قد جعل في عنقه. وقيل: معنى « وآلهتك » أي وطاعتك، كما قيل في قوله: « اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله » [ التوبة: 31 ] إنهم ما عبدوهم ولكن أطاعوهم؛ فصار تمثيلا. وقرأ نعيم بن ميسرة « ويذرك » بالرفع على تقدير وهو يذرك. وقرأ الأشهب العقيلي « ويذرك » مجزوما مخفف يذرك لثقل الضمة. وقرأ أنس بن مالك « ونذرك » بالرفع والنون. أخبروا عن أنفسهم أنهم يتركون عبادته إن ترك موسى حيا. وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس والضحاك « وإلا هتك » ومعناه وعبادتك. وعلى هذه القراءة كان يعبد ولا يعبد، أي ويترك عبادته لك. قال أبو بكر الأنباري: فمن مذهب أصحاب هذه القراءة أن فرعون لما قال « أنا ربكم الأعلى » [ النازعات: 24 ] و « ما علمت لكم من إله غيري » [ القصص: 38 ] نفى أن يكون له رب مع الإهة. فقيل له: ويذرك وإلاهتك؛ بمعنى ويتركك وعبادة الناس لك. وقراءة العامة « وآلهتك » كما تقدم، وهي مبنية على أن فرعون ادعى الربوبية في ظاهر أمره وكان يعلم أنه مربوب. ودليل هذا قوله عند حضور الحمام « آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل » [ يونس: 90 ] فلم يقبل هذا القول منه لما أتى به بعد إغلاق باب التوبة. وكان قبل هذا الحال له إله يعبده سرا دون رب العالمين جل وعز؛ قال الحسن وغيره. وفي حرف أبي « أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض وقد تركوك أن يعبدوك » . وقيل: « وإلا هتك » قيل: كان يعبد بقرة، وكان إذا استحسن بقرة أمر بعبادتها، وقال: أنا ربكم ورب هذه. ولهذا قال: « فأخرج لهم عجلا جسدا » [ طه: 88 ] . ذكره ابن عباس والسدي. قال الزجاج: كان له أصنام صغار يعبدها قومه تقربا إليه فنسبت إليه؛ ولهذا قال: « أنا ربكم الأعلى » . قال إسماعيل بن إسحاق: قول فرعون « أنا ربكم الأعلى » . يدل على أنهم كانوا يعبدون شيئا غيره. وقد قيل: إن المراد بالإلاهة على قراءة ابن عباس البقرة التي كان يعبدها. وقيل: أرادوا بها الشمس وكانوا يعبدونها. قال الشاعر:
وأعجلنا الإلاهة أن تؤوبا
ثم آنس قومه فقال « سنقتل أبناءهم » بالتخفيف، قراءة نافع وابن كثير. والباقون بالتشديد على التكثير. « ونستحيي نساءهم » أي لا تخافوا جانبهم. « وإنا فوقهم قاهرون » آنسهم بهذا الكلام. ولم يقل سنقتل موسى لعلمه أنه لا يقدر عليه. وعن سعيد بن جبير قال: كان فرعون قد ملئ من موسى رعبا؛ فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار. ولما بلغ قوم موسى من فرعون هذا قال لهم موسى: « استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء » أطمعهم في أن يورثهم الله أرض مصر. « والعاقبة للمتقين » أي الجنة لمن اتقى. وعاقبة كل شيء: آخره، ولكنها إذا أطلقت فقيل: العاقبة لفلان فهم منه في العرف الخير.
الآية: 129 ( قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون )
قوله تعالى: « قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا » أي في ابتداء ولادتك بقتل الأبناء واسترقاق النساء. « ومن بعد ما جئتنا » أي والآن أعيد علينا ذلك؛ يعنون الوعيد الذي كان من فرعون. وقيل: الأذى من قبل تسخيرهم لبني إسرائيل في أعمالهم إلى نصف النهار، وإرسالهم بقيته ليكتسبوا لأنفسهم. والأذى من بعد: تسخيرهم جميع النهار كله بلا طعام ولا شراب؛ قاله جويبر. وقال الحسن: الأذى من قبل ومن بعد واحد، وهو أخذ الجزية. « قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض » « عسى » من الله واجب؛ جدد لهم الوعد وحققه. وقد استحلفوا في مصر في زمان داود وسليمان عليهما السلام، وفتحوا بيت المقدس مع يوشع بن نون؛ كما تقدم. وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى وتبعهم فرعون فكان وراءهم والبحر أمامهم، فحقق الله الوعيد بأن غرق فرعون وقومه وأنجاهم. « فينظر كيف تعملون » أي يرى ذلك العمل الذي يجب به الجزاء؛ لأن الله لا يجازيهم على ما يعلمه منهم؛ إنما يجازيهم على ما يقع منهم.
الآية: 130 ( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون )
قوله تعالى: « ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين » يعني الجدوب. وهذا معروف في اللغة؛ يقال: أصابتهم سنة، أي جدب. وتقديره جدب سنة. وفي الحديث: ( اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ) . ومن العرب من يعرب النون في السنين؛ وأنشد الفراء:
أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال
قال النحاس: وأنشد سيبويه هذا البيت بفتح النون؛ ولكن أنشد في هذا ما لا يجوز غيره، وهو قوله:
وقد جاوزت رأس الأربعين
وحكى الفراء عن بني عامر أنهم يقولون: أقمت عنده سنينا يا هذا؛ مصروفا. قال: وبنو تميم لا يصرفون ويقولون: مضت له سنين يا هذا. وسنين جمع سنة، والسنة هنا بمعنى الجدب لا بمعنى الحول. ومنه أسنت القوم أي أجدبوا. قال عبدالله بن الزبعرى:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
« لعلهم يذكرون » أي ليتعظوا وترق قلوبهم.