الآية: 102 ( ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل )
قوله تعالى: « ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو » « ذلكم » في موضع رفع بالابتداء. « الله ربكم » على البدل. « خالق كل شيء » خبر الابتداء. ويجوز أن يكون « ربكم » الخبر، و « خالق » خبرا ثانيا، أو على إضمار مبتدأ، أي هو خالق. وأجاز الكسائي والقراء فيه النصب.
الآية: 103 ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير )
قوله تعالى: « لا تدركه الأبصار » بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات، والرؤية ثابتة. فقال الزجاج: أي لا يبلغ كنه حقيقته؛ كما تقول: أدركت كذا وكذا؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة. وقال ابن عباس: « لا تدركه الأبصار » في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة؛ لإخبار الله بها في قوله: « وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة » [ القيامة: 22 - 23 ] . وقال السدي. وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة. وسيأتي بيانه في « يونس » . وقيل: « لا تدركه الأبصار » لا تحيط به وهو يحيط بها؛ عن ابن عباس أيضا. وقيل: المعنى لا تدركه أبصار القلوب، أي لا تدركه العقول فتتوهمه؛ إذ « ليس كمثله شيء » [ الشورى: 11 ] وقيل: المعنى لا تدركه الأبصار المخلوقة في الدنيا، لكنه يخلق لمن يريد كرامته بصرا وإدراكا يراه فيه كمحمد عليه السلام؛ إذ رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلا، إذ لو لم تكن جائزة لكان سؤال موسى عليه السلام مستحيلا، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا يجوز، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل. واختلف السلف في رؤية نبينا عليه السلام ربه، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل « ولقد رآه بالأفق المبين » [ التكوير: 23 ] . « ولقد رآه نزلة أخرى » [ النجم: 13 ] ؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة من سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ) . فقالت: أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول: « لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير » ؟ أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول: « وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا - إلى قول - علي حكيم » [ الشورى: 51 ] ؟ قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته » [ المائدة: 67 ] قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول: « قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله » [ النمل: 65 ] . إلى ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من عدم الرؤية، وأنه إنما رأى جبريل: ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه رأى جبريل، واختلف عنهما. وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وعن ابن عباس أنه رآه بعينه؛ هذا هو المشهور عنه. وحجته قوله تعالى: « ما كذب الفؤاد ما رأى » [ النجم: 11 ] . وقال عب الله بن الحارث: اجتمع ابن عباس وأبي بن كعب، فقال ابن عباس: أما نحن بنو هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين. ثم قال ابن عباس: أتعجبون أن الخلة تكون لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. قال: فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما السلام، فكلم موسى ورآه محمد صلى الله عليه وسلم.
وحكى عبدالرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه. وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة، وحكاه بعض المتكلمين عن ابن مسعود، والأول عنه أشهر. وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة: هل رأى محمد ربه؟ فقال نعم وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال: أنا أقول بحديث ابن عباس: بعينه رآه رآه! حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد. وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى الله ببصره وعيني رأسه. وقال أنس وابن عباس وعكرمة والربيع والحسن. وكان الحسن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد ربه. وقال جماعة منهم أبو العالية والقرظي والربيع بن أنس: إنه إنما رأى ربه بقلبه وفؤاده؛ وحكي عن ابن عباس أيضا وعكرمة. وقال أبو عمر: قال أحمد بن حنبل رآه بقلبه، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار. وعن مالك بن أنس قال: لم ير في الدنيا؛ لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي. قال القاضي عياض: وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة؛ فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع في حقه. وسيأتي شيء من هذا في حق موسى عليه السلام في « الأعراف » إن شاء الله. قوله تعالى: « وهو يدرك الأبصار » أي لا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه. إنما خص الأبصار؛ لتجنيس الكلام. وقال الزجاج: وفي هذا الكلام دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار؛ أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه. ثم قال: « وهو اللطيف الخبير » أي الرفيق بعباده؛ يقال: لطف فلان بفلان يلطف، أي رفق به. واللطف في الفعل الرفق فيه. واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة. وألطفه بكذا، أي بره به. والاسم اللطف بالتحريك. يقال: جاءتنا من فلان لطفه؛ أي هدية. والملاطفة المبارة؛ عن الجوهري وابن فارس. قال أبو العالية: المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها. وقال الجنيد: اللطيف من نور قلبك بالهدى، وربى جسمك بالغذا، وجعل لك الولاية في البلوى، ويحرسك وأنت في لظى، ويدخلك جنة المأوى. وقيل غير هذا، مما معناه راجع إلى معنى الرفق وغيره. وسيأتي ما للعلماء من الأقوال في ذلك في « الشورى » إن شاء الله تعالى.
الآية: 104 ( قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ )
قوله تعالى: « قد جاءكم بصائر من ربكم » أي آيات وبراهين يبصر بها ويستدل؛ جمع بصيرة وهي الدلالة. قال الشاعر:
جاؤوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عَتَدٌ وآي
يعني بالبصيرة الحجة البينة الظاهرة. ووصف الدلالة بالمجيء لتفخيم شأنها؛ إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس؛ كما يقال: جاءت العافية وقد انصرف المرض، وأقبل السعود وأدبر النحوس. « فمن أبصر فلنفسه » الإبصار: هو الإدراك بحاسة البصر؛ أي فمن استدل وتعرف فنفسه نفع. « ومن عمي فعليها » لم يستدل، فصار بمنزلة الأعمى؛ فعلى نفسه يعود ضرر عماه. « وما أنا عليكم بحفيظ » أي لم أومر بحفظكم على أن تهلكوا أنفسكم. وقيل: أي لا أحفظكم من عذاب الله. وقيل: « بحفظ » برقيب؛ أحصي عليكم أعمالكم، إنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي، وهو الحفيظ عليكم لا يخفى عليه شيء من أفعالكم. قال الزجاج: نزل هذا قبل فرض القتال، ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان.
الآية: 105 ( وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون )
قوله تعالى: « وكذلك نصرف الآيات » الكاف في كذلك في موضع نصب؛ أي نصرف الآيات مثل ما تلونا عليك. أي كما صرفنا الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة نصرف في غيرها. « وليقولوا درست » والواو للعطف على مضمر؛ أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست. وقيل: أي « وليقولوا درست » صرفناها؛ فهي لام الصيرورة. وقال الزجاج: هذا كما تقول كتب فلان هذا الكتاب لحتفه؛ أي آل أمره إلى ذلك. وكذا لما صرفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا: درست وتعلمت من جبر ويسار، وكانا غلامين نصرانيين بمكة، فقال أهل مكة: إنما يتعلم منهما. قال النحاس: وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى « نصرف الآيات » نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا؛ فيذكرون الأول بالآخر. فهذا حقيقة، والذي قاله أبو إسحاق مجاز.
وفي « درست » سبع قراءات. قرأ أبو عمرو وابن كثير « دارست » بالألف بين الدال والراء؛ كفاعلت. وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة. قال ابن عباس: معنى « دارست » تاليت. وقرأ ابن عامر « درست » بفتح السين وإسكان التاء غير ألف؛ كخرجت. وهي قراءة الحسن. وقرأ الباقون « درست » كخرجت. فعلى الأولى: دارست أهل الكتاب ودارسوك؛ أي ذاكرتهم وذاكروك؛ قال سعيد بن جبير. ودل على هذا المعنى قوله تعالى إخبارا عنهم: « وأعانه عليه قوم آخرون » [ الفرقان: 4 ] أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن وذاكروه فيه. وهذا كله قول المشركين. ومثله قولهم: « وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا » [ الفرقان: 5 ] « إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين » [ النحل: 24 ] . وقيل: المعنى دارستنا؛ فيكون معناه كمعنى درست؛ ذكره النحاس واختاره، والأول ذكره مكي. وزعم النحاس أنه مجاز؛ كما قال:
فللموت ما تلد الوالده
ومن قرأ « درست » فأحسن ما قيل في قراءته أن المعنى: ولئلا يقولوا انقطعت وامحت، وليس يأتي محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها. وقرأ قتادة « درست » أي قرئت. وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قرأ « دارست » . وكان أبو حاتم يذهب إلى أن هذه القراءة لا تجوز؛ قال: لأن الآيات لا تدارس. وقال غيره: القراءة بهذا تجوز، وليس المعنى على ما ذهب إليه أبو حاتم، ولكن معناه دارست أمتك؛ أي دارستك أمتك، وإن كان لم يتقدم لها ذكر؛ مثل قوله: « حتى توارت بالحجاب » [ ص: 32 ] . وحكى الأخفش « وليقولوا درست » وهو بمعنى « درست » إلا أنه أبلغ. وحكى أبو العباس أنه قرئ « وليقولوا درست » بإسكان اللام على الأمر. وفيه معنى التهديد؛ أي فليقولوا بما شاؤوا فإن الحق بين؛ كما قال عز وجل « فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا » [ التوبة: 82 ] فأما من كسر اللام فإنها عنده لام كي. وهذه القراءات كلها يرجع اشتقاقها إلى شيء واحد، إلى التليين والتذليل. و « درست » من درس يدرس دراسة، وهي القراءة على الغير. وقيل: درسته أي ذللته بكثرة القراءة؛ وأصله درس الطعام أي داسه. والدياس الدراس بلغة أهل الشام. وقيل: أصله من درست الثوب أدرسه درسا أي أخلقته. وقد درس الثوب درسا أي أخلق. ويرجع هذا إلى، التذلل أيضا. ويقال: سمي إدريسي لكثرة دراسته لكتاب الله. ودارست الكتب وتدارستها وادارستها أي درستها. ودرست الكتاب درسا ودراسة. ودرست المرأة درسا أي حاضت. ويقال إن فرج المرأة يكنى أبا أدراس؛ وهو من الحيض. والدرس أيضا: الطريق الخفي. وحكى الأصمعي: بعير لم يدرس أي لم يركب، ودرست من درس المنزل إذا عفا. وقرأ ابن مسعود وأصحابه وأبي وطلحة والأعمش « وليقولوا درس » أي درس محمد الآيات. « ولنبينه » يعني القول والتصريف، أو القرآن « لقوم يعلمون » .
الآية: 106 ( اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين )
قوله تعالى: « اتبع ما أوحي إليك من ربك » يعني القرآن؛ أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم، بل اشتغل بعبادة الله. « لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين » منسوخ.
الآية: 107 ( ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل )
قوله تعالى: « ولو شاء الله ما أشركوا » نص على أن الشرك بمشيئته، وهو إبطال لمذهب القدرية كما تقدم. « وما جعلناك عليهم حفيظا » أي لا يمكنك حفظهم من عذاب الله. « وما أنت عليهم بوكيل » أي قيم بأمورهم في مصالحهم لدينهم أو دنياهم، حتى تلطف لهم في تناول ما يجب لهم؛ فلست بحفيظ في ذلك ولا وكيل في هذا، إنما أنت مبلغ. وهذا قبل أن يؤمر بالقتال.
الآية: 108 ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون )
قوله تعالى: « ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله » نهي. « فيسبوا الله » جواب النهي. فنهى سبحانه لمؤمنين أن يسبوا أوثانهم؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا. قال ابن عباس: قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن إلهه ونهجوه؛ فنزلت الآية.
قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال؛ فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو البني عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية. وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بـ « الذين » على معتقد الكفرة فيها.
في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع؛ وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين. ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة. قال ابن العربي: إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول.
قوله تعالى: « عدوا » أي جهلا واعتداء. وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا « عدوا » بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، وهي راجعة إلى القراءة الأولى، وهما جميعا بمعنى الظلم. وقرأ أهل مكة أيضا « عدوا » بفتح العين وضم الدال بمعنى عدو. وهو واحد يؤدي عن جمع؛ كما قال: « فإنهم عدو لي إلا رب العالمين » [ الشعراء: 77 ] . وقال تعالى: « هم العدو » وهو منصوب على المصدر أو على المفعول من أجله.
قوله تعالى: « كذلك زينا لكل أمة عملهم » أي كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم. قال ابن عباس. زينا لأهل الطاعة الطاعة، ولأهل الكفر الكفر؛ وهو كقوله: « كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء » [ المدثر: 31 ] . وفي هذا رد على القدرية.
الآية: 109 ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون )
قوله تعالى: « وأقسموا » أي حلفوا. وجهد اليمين أشدها، وهو بالله. فقوله: « جهد أيمانهم » أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى؛ كما أخبر عنهم بقوله تعالى: « ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى » [ الزمر: 3 ] . وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله. « جهد » منصوب على المصدر والعامل فيه « أقسموا » على مذهب سيبويه؛ لأنه في معناه. والجهد ( بفتح الجيم ) : المشقة يقال: فعلت ذلك بجهد. والجهد ( بضمها ) : الطاقة يقال: هذا جهدي، أي طاقتي. ومنهم من يجعلهما واحدا، ويحتج بقول « والذين لا يجدون إلا جهدهم » [ التوبة: 79 ] . وقرئ « جهدهم » بالفتح؛ عن ابن قتيبة. وسبب الآية فيما ذكر المفسرون: القرظي والكلبي وغيرهما، أن قريشا قالت: يا محمد، تخبرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة؛ فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك. فقال: ( أي شيء تحبون ) ؟ قالوا: أجعل لنا الصفا ذهبا؛ فوالله إن فعلته لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صلى الله عليه سلم يدعو؛ فجاءه جبريل عليه السلام فقال: ( إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولئن أرسل الله آية ولم يصدقوا عندها ليعذبنهم فأتركهم حتى يتوب تائبهم ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بل يتوب تائبهم ) فنزلت هذه الآية. وبين الرب بأن من سبق العلم الأزلي بأنه لا يؤمن فإنه لا يومن وإن أقسم ليؤمنن.
قوله تعالى: « جهد أيمانهم » قيل: معناه بأغلظ الأيمان عندهم. وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمى، وهي قول الرجل: الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا. قال ابن العربي: وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة، كانوا يقولون: على أشد ما أخذه أحد على أحد؛ فقال مالك: تطلق نساؤه. ثم تكاثرت الصورة حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها. وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول: يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها؛ لأن قوله « الإيمان » جمع يمين، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارة. ولو قال: علي يمينان للزمته كفارتان إذا حنث. والإيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات.
قلت: وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه: اختلف شيوخ القيروان فيها؛ فقال أبو محمد بن أبي زيد؛ يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات، والمشي إلى مكة، وتفريق ثلث ماله، وكفارة يمين، وعتق رقبة. قال ابن مغيث: وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة. وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبدالرحمن القروي: تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية. ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله: « وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه ذلك كفارة يمين » . قال ابن مغيث: فجعل من سميناه على القائل: « الإيمان تلزمه » طلقة واحدة؛ لأنه لا يكون أسوأ حالا من قوله: أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين، قال وبه نقول. قال: واحتج الأولون بقول ابن القاسم من قال: علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله؛ فقال: إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات. فان لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله: علي عهد الله وغليظ ميثاقه. ويعتق رقبة وتطلق نساؤه، ويمشي إلى مكة ويتصدق بثلث ما له في قوله: وأشد ما أخذه على أحد. قال ابن العربي: أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الإيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد؛ فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك « بالله » فيكون ما قاله الفهري. فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد؛ فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ما له؛ إذ قد تكون الصدقة بالمال يمينا. والله أعلم.
قوله تعالى: « قل إنما الآيات عند الله » أي قل يا محمد: الله القادر على الآتيان بها، وإنما يأتي بها إذا شاء. « وما يشعركم » أي وما يدويكم أيمانكم؛ فحذف المفعول. ثم استأنف فقال: « إنها إذا جاءت لا يؤمنون » بكسر إن، وهي قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير. ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود « وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون » . وقال مجاهد وابن زيد: المخاطب بهذا المشركون، وتم الكلام. حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون. وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ « تؤمنون » بالتاء. وقال الفراء وغيره؛ الخطاب للمؤمنين؛ لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون؛ فقال الله تعالى: « وما يشعركم » أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون. « أنها » بالفتح، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. قال الخليل: « أنها » بمعنى لعلها؛ وحكاه عنه سيبويه. وفي التنزيل: « وما يدريك لعله يزكى » [ عبس: 3 ] أي أنه يزكى. وحكي عن العرب: ايت السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي لعلك. وقال أبو النجم:
قلت لشيبان ادن من لقائه أنّ تغدي القوم من شوائه
وقال عدي بن زيد:
أعاذل ما يدريك أنّ منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
أي لعل. وقال دريد بن الصمة:
أريني جوادا مات هزلا لأنني أري ما ترين أو بخيلا مخلدا
أي لعلني. وهو في كلام العرب كثير « أن » بمعنى لعل. وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب « وما أدراكم لعلها » . وقال الكسائي والفراء: أن « لا » زائدة، والمعنى: وما يشعركم أنها - أي الآيات - إذا جاءت المشركين يؤمنون، فزيدت « لا » ؛ كما زيدت « لا » في قوله تعالى: « حرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون » [ الأنبياء: 95 ] . لأن المعنى: وحرام على قرية مهلكة رجوعهم. وفي قوله: « ما منعك ألا تسجد » [ الأعراف: 12 ] . والمعنى: ما منعك أن تسجد. وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة « لا » وقالوا: هو غلط وخطأ؛ لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل. وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، ثم حذف هذا لعلم السامع؛ ذكره النحاس وغيره.
الآية: 110 ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون )
قوله تعالى: « ونقلب أفئدتهم وأبصارهم » هذه آية مشكلة، ولا سيما وفيها « ونذرهم في طغيانهم يعمهون » . قيل: المعنى ونقلب أفئدتهم وأنظارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر؛ كما لم يؤمنوا في الدنيا. « ونذرهم » في الدنيا، أي نمهلهم ولا نعاقبهم؛ فبعض الآية في الآخرة، وبعضها في الدنيا. ونظيرها « وجوه يومئذ خاشعة » [ الغاشية: 2 ] فهذا في الآخرة. « عاملة ناصبة » في الدنيا. وقيل: ونقلب في الدنيا؛ أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة؛ لما دعوتهم وأظهرت المعجزة. وفي التنزيل: « واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه » [ الأنفال: 24 ] . والمعنى: كان ينبغي أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فرأوها بأبصارهم وعرفوها بقلوبهم؛ فإذا لم يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله قلوبهم وأبصارهم. « كما لم يؤمنوا به أول مرة » ودخلت الكاف على محذوف، أي فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ أي أول مرة أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره. وقيل: ونقلب أفئدة هؤلاء كيلا يؤمنوا؛ كما لم تؤمن كفار الأمم السالفة لما رأوا ما اقترحوا من الآيات. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير؛ أي أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا أول مرة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم. « ونذرهم في طغيانهم يعمهون » يتحيرون. وقد مضى في « البقرة » .