تفسير القرطبي سورة المائدة من 18 الي 23
الآية: 18 ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير )
قوله تعالى: « وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه » قال ابن عباس: خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من اليهود العقاب فقالوا: لا نخاف فإنا أبناء الله وأحباؤه؛ فنزلت الآية. قال ابن إسحاق: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا وبحري بن عمرو وشأس بن عدي فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله عز وجل وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟؛ نحن أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى؛ فأنزل الله عز وجل فيهم « وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم » إلى آخر الآية. قال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا فبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته؛ فقال رافع بن حريمة ووهب بن يهوذا: ما قلنا هذا لكم، ولا أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا من بعده؛ فأنزل الله عز وجل: « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل » إلى قوله: « والله على كل شيء قدير » . السدي: زعمت اليهود أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل عليه السلام أن ولدك بكري من الولد. قال غيره: والنصارى قالت نحن أبناء الله؛ لأن في الإنجيل حكاية عن عيسى « أذهب إلى أبي وأبيكم » . وقيل: المعنى: نحن أبناء رسل الله، فهو على حذف مضاف. وبالجملة. فإنهم رأوا لأنفسهم فضلا؛ فرد عليهم قولهم فقال « فلم يعذبكم بذنوبكم » فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين؛ إما أن يقولوا هو يعذبنا. فيقال لهم: فلستم إذا أبناءه وأحباءه؛ فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم تقرون بعذابه؛ فذلك دليل على كذبكم - وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف - أو يقولوا: لا يعذبنا فيكذبوا ما في كتبهم، وما جاءت به رسلهم، ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم؛ ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم. وقيل: معنى « يعذبكم » عذبكم؛ فهو بمعنى المضي؛ أي فلم مسخكم قردة وخنازير؟ ولم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى بأنواع العذاب وهم أمثالكم؟ لأن الله سبحانه لا يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد، لأنهم ربما يقولون لا نعذب غدا، بل يحتج عليهم بما عرفوه. ثم قال: « بل أنتم بشر ممن خلق » أي كسائر خلقه يحاسبكم على الطاعة والمعصية، ويجازي كلا بما عمل. « يغفر لمن يشاء » أي لمن تاب من اليهود. « ويعذب من يشاء » من مات عليها. « ولله ملك السماوات والأرض » فلا شريك له يعارضه. « وإليه المصير » أي يؤول أمر العباد إليه في الآخرة.
الآية: 19 ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير )
قوله تعالى: « يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا » يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. « يبين لكم »
انقطاع حجتهم حتى لا يقولوا غدا ما جاءنا رسول. « على فترة من الرسل » أي سكون؛ يقال فتر الشيء سكن. وقيل: « على فترة » على انقطاع ما بين النبيين؛ عن أبي علي وجماعة أهل العلم، حكاه الرماني؛ قال: والأصل فيها انقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه، من قولهم: فتر عن عمله وفترته عنه. ومنه فتر الماء إذا عما كان من السخونة إلى البرد. وامرأة فاترة الطرف أي منقطعة عن حدة النظر. وفتور البدن كفتور الماء. والفتر ما بين السبابة والإبهام إذا فتحتهما. والمعنى؛ أي مضت للرسل مدة قبله. واختلف في قدر مدة تلك الفترة؛ فذكر محمد بن سعد في كتاب « الطبقات » عن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهما السلام ألف سنة وسبعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم. وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء؛ وهو قوله تعالى: « إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث » [ يس: 14 ] والذي عزز به « شمعون » وكان من الحواريين. وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة. وذكر الكلبي أن بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة سنة وتسعا وستين، وبينهما أربعة أنبياء؛ واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان. قال القشيري: ومثل هذا مما لم إلا بخبر صدق. وقال قتادة: كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة؛ وقاله مقاتل والضحاك ووهب بن منبه، إلا أن وهبا زاد عشرين سنة. وعن الضحاك أيضا أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. وذكر ابن سعد عن عكرمة قال: بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام. قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمرو بن واقد الأسلمي عن غير واحد قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة؛ فهذا ما بين آدم ومحمد عليهما السلام من القرون والسنين. والله أعلم. « أن تقولوا » أي لئلا أو كراهية أن تقولوا؛ فهو في موضع نصب. « ما جاءنا من بشير » أي مبشر. « ولا نذير » أي منذر. ويجوز « من بشير ولا نذير » على الموضع. قال ابن عباس: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود؛ يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمن أن محمدا رسول الله، ولقد منتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته؛ فقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده من بشير ولا نذير؛ فنزلت الآية. « والله على كل شيء قدير » على إرسال من شاء من خلقه. وقيل: قدير على إنجاز ما بشر به وأنذر منه.
الآية [ 20 ] في الصفحة التالية ...