الآيات: 14 - 16 ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون، يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم )
قوله تعالى: « ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم » أي في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو مكتوب في الإنجيل. « فنسوا حظا » وهو الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ أي لم يعملوا بما أمروا به، وجعلوا ذلك الهوى والتحريف سببا للكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. ومعنى « أخذنا ميثاقهم » هو كقولك: أخذت من زيد ثوبه ودرهمه؛ قاله الأخفش. ورتبة « الذين » أن تكون بعد « أخذنا » وقيل الميثاق؛ فيكون التقدير: أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم؛ لأنه في موضع المفعول الثاني لأخذنا. وتقديره عند الكوفيين ومن الذين قالوا إنا نصارى من أخذنا ميثاقه؛ فالهاء والميم تعودان على « من » المحذوفة، وعلى القول الأول تعودان على « الذين » . ولا يجيز النحويون أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى، ولا ألينها لبست من الثياب؛ لئلا يتقدم مضمر على ظاهر. وفي قولهم: « إنا نصارى » ولم يقل من النصارى دليل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها؛ روي معناه عن الحسن.
قوله تعالى: « فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء » أي هيجنا. وقيل: ألصقنا بهم؛ مأخوذ من الغراء وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه. يقال: غري بالشيء يغرى غرا « بفتح الغين » مقصورا وغراء « بكسر الغين » ممدودا إذا أولع به كأنه التصق به. وحكى الرماني: الإغراء تسليط بعضهم على بعض. وقيل: الإغراء التحريش، وأصله اللصوق؛ يقال: غريت بالرجل غرا - مقصور وممدود مفتوح الأول - إذ لصقت به. وقال كثير.
إذا قيل مهلا قالت العين بالبكا غراء ومدتها حوافل نهل
وأغريت زيدا بكذا حتى غري به؛ ومنه الغراء الذي يغري به للصوقه؛ فالإغراء بالشيء الإلصاق به من جهة التسليط عليه. وأغريت الكلب أي أولعته بالصيد. « بينهم » ظرف للعداوة. « والبغضاء » البغض. أشار بهذا إلى اليهود والنصارى لتقدم ذكرهما. عن السدي وقتادة: بعضهم لبعض عدو. وقيل: أشار إلى افتراق النصارى خاصة؛ قاله الربيع بن أنس، لأنهم أقرب مذكور؛ وذلك أنهم افترقوا إلى اليعاقبة والنسطورية والملكانية؛ أي كفر بعضهم بعضا. قال النحاس: ومن أحسن ما قيل في معنى « أغرينا بينهم العداوة والبغضاء » أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمُورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها لأنهم كفار. وقوله: « وسوف ينبئهم الله » تهديد لهم؛ أي سيلقون جزاء نقض الميثاق.
قوله تعالى: « يا أهل الكتاب » الكتاب اسم جنس بمعنى الكتب؛ فجميعهم مخاطبون. « قد جاءكم رسولنا » محمد صلى الله عليه وسلم. « يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب » أي من كتبكم؛ من الإيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة؛ فإنهم كانوا يخفونها. « ويعفو عن كثير » أي يتركه ولا يبينه، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوته، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه. وقيل: « ويعفو عن كثير » يعني يتجاوز عن كثير فلا يخبركم به. وذكر أن رجلا من أحبارهم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: يا هذا عفوت عنا؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين؛ وإنما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه، فلما لم يبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من عنده فذهب وقال لأصحابه: أرى أنه صادق فيما يقول: لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبين له ما سأله عنه. « قد جاءكم من الله نور » أي ضياء؛ قيل: الإسلام. وقيل: محمد عليه السلام؛ عن الزجاج. « وكتاب مبين » أي القرآن؛ فإنه يبين الأحكام، وقد تقدم. « يهدي به الله من اتبع رضوانه » أي ما رضيه الله. « سبل السلام » طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، والمؤمنة من كل مخافة؛ وهي الجنة. وقال الحسن والسدي: « السلام » الله عز وجل؛ فالمعنى دين الله - وهو الإسلام - كما قال: « إن الدين عند الله الإسلام » [ آل عمران: 19 ] . « ويخرجهم من الظلمات إلى النور » أي من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الإسلام والهدايات. « بإذنه » أي بتوفيق وإرادته.
الآية: 17 ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير )
قوله تعالى: « لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم » تقدم في آخر « النساء » بيانه والقول فيه. وكفر النصارى في دلالة هذا الكلام إنما كان بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم على جهة الدينونة به؛ لأنهم لو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا. « قل فمن يملك من الله شيئا » أي من أمر الله. و « يملك » بمعنى يقدر؛ من قولهم ملكت على فلان أمره أي اقتدرت عليه. أي فمن يقدر أن يمنع من ذلك شيئا؟ فأعلم الله تعالى أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره، وقد أمات أمه ولم يتمكن من دفع الموت عنها؛ فلو أهلكه هو أيضا فمن يدفعه عن ذلك أو يرده. « ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما » والمسيح وأمه بينهما مخلوقان محدودان محصوران، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للإلهية. وقال « وما بينهما » ولم يقل وما بينهن؛ لأنه أراد النوعين والصنفين كما قال الراعي:
طرقا فتلك هماهمي أقربهما قلصا لواقح كالقصي وحولا
فقال: « طرقا » ثم قال: « فتلك هماهمي » . « يخلق ما يشاء » عيسى من أم بلا أب آية لعباده. `