لواجب على من سئل عن علم أن يقول إن لم يعلم: الله أعلم ولا أدري، اقتداء بالملائكة والأنبياء والفضلاء من العلماء، لكن قد أخبر الصادق أن بموت العلماء يقبض العلم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون. وأما ما ورد من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين بعدهم في معنى الآية فروى البستي في المسند الصحيح له عن ابن عمر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي البقاع شر؟ قال: ( لا أدري حتى أسأل جبريل ) فسأل جبريل، فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، فجاء فقال: خير البقاع المساجد، وشرها الأسواق. وقال الصديق للجدة: ارجعي حتى أسأل الناس. وكان علي يقول: وأبردها على الكبد، ثلاث مرات. قالوا وما ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم. وسأل ابن عمر رجل عن مسألة فقال: لا علم لي بها، فلما أدبر الرجل. قال ابن عمر: نعم ما قال ابن عمر، سئل عما لا يعلم فقال لا علم لي به! ذكره الدارمي في مسنده. وفي صحيح مسلم عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل صاحب بهية قال: كنت جالسا عند القاسم بن عبيدالله ويحيى بن سعيد، فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن يسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج، أو علم ولا مخرج؟ فقال له القاسم: وعم ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى: ابن أبي بكر وعمر. قال يقول له القاسم: أقبح من ذاك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. فسكت فما أجابه. وقال مالك بن أنس: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون أصلا في أيديهم، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري. وذكر الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري.
قلت: ومثله كثير عن الصحابة والتابعين وفقهاء المسلمين. وإنما يحمل على ترك ذلك الرياسة وعدم الإنصاف في العلم. قال ابن عبدالبر: من بركة العلم وآدابه الإنصاف فيه، ومن لم ينصف لم يفهم ولم يتفهم. روى يونس بن عبدالأعلى قال: سمعت ابن وهب يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: ما في زماننا شيء أقل من الإنصاف.
قلت: هذا في زمن مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عم فينا الفساد وكثر فيه الطغام! وطلب فيه العلم للرياسة لا للدراية، بل للظهور في الدنيا وغلبة الأقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن، وذلك مما يحمل على عدم التقوى وترك الخوف من الله تعالى. أين هذا مما روي عن عمر رضي الله عنه وقد قال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية ولو كانت بنت ذي العصبة - يعني يزيد بن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال، فقامت امرأة من صوب النساء طويلة فيها فطس فقالت: ما ذلك لك! قال: ولم؟ قالت لأن الله عز وجل يقول: « وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا » [ النساء: 20 ] فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ! وروى وكيع عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي قال: سأل رجل عليا رضي الله عنه عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كذا وكذا، فقال علي: أصبت وأخطأت، وفوق كل ذي علم عليم. وذكر أبو محمد قاسم بن أصبغ قال: لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان فأخذت على بكر بن حماد حديث مسدد، ثم رحلت إلى بغداد ولقيت الناس، فلما انصرفت عدت إليه لتمام حديث مسدد، فقرأت عليه فيه يوما حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه قدم عليه قوم من مضر من مجتابي النمار ) فقال: إنما هو مجتابي الثمار، فقلت إنما هو مجتابي النمار، هكذا قرأته على كل من قرأته عليه بالأندلس والعراق، فقال لي: بدخولك العراق تعارضنا وتفخر علينا! أو نحو هذا. ثم قال لي: قم بنا إلى ذلك الشيخ - لشيخ كان في المسجد - فإن له بمثل هذا علما، فقمنا إليه فسألناه عن ذلك فقال: إنما هو مجتابي النمار، كما قلت. وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة، جيوبهم أمامهم. والنمار جمع نمرة. فقال بكر بن حماد وأخذ بأنفه: رغم أنفي للحق، رغم أنفي للحق. وانصرف. وقال يزيد بن الوليد بن عبدالملك فأحسن:
إذا ما تحدثت في مجلس تناهى حديثي إلى ما علمت
ولم أعد علمي إلى غيره وكان إذا ما تناهى سكت
قوله تعالى: « سبحانك » ( سبحان ) منصوب على المصدر عند الخليل وسيبويه، يؤدي عن معنى نسبحك تسبيحا. وقال الكسائي: هو منصوب على أنه نداء مضاف. و « العليم » فعيل للمبالغة والتكبير في المعلومات في خلق الله تعالى. و « الحكيم » معناه الحاكم، وبينهما مزيد المبالغة. وقيل معناه المحكم ويجيء الحكيم على هذا من صفات الفعل، صرف عن مفعل إلى فعيل، كما صرف عن مسمع إلى سميع ومؤلم إلى أليم، قاله ابن الأنباري. وقال قوم: الحكيم المانع من الفساد، ومنه سميت حكمة اللجام، لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصد. قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
أي امنعوهم من الفساد. وقال زهير:
القائد الخيل منكوبا دوابرها قد أحكمت حكمات القد والأبقا
القد: الجلد. والأبق: القنب. والعرب تقول: أحكم اليتيم عن كذا وكذا، يريدون منعه. والسورة المحكمة: الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزاد عليها ما ليس منها، والحكمة من هذا، لأنها تمنع صاحبها من الجهل. ويقال: أحكم الشيء إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد. فهو محكم وحكيم على التكثير.
الآية: 33 ( قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون )
قوله تعالى: « أنبئهم بأسمائهم » أمره الله أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة ليعلموا أنه أعلم بما سألهم عنه تنبيها على فضله وعلو شأنه، فكان أفضل منهم بأن قدمه عليهم وأسجدهم له وجعلهم تلامذته وأمرهم بأن يتعلموا منه. فحصلت له رتبة الجلال والعظمة بأن جعله مسجودا له، مختصا بالعلم.
في هذه الآية دليل على فضل العلم وأهله، وفي الحديث: ( وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ) أي تخضع وتتواضع وإنما تفعل ذلك لأهل العلم خاصة من بين سائر عيال الله، لأن الله تعالى ألزمها ذلك في آدم عليه السلام فتأدبت بذلك الأدب. فكلما ظهر لها علم في بشر خضعت له وتواضعت وتذللت إعظاما للعلم وأهله، ورضا منهم بالطلب له والشغل به. هذا في الطلاب منهم فكيف بالأحبار فيهم والربانيين منهم جعلنا الله منهم وفيهم، إنه ذو فضل عظيم.
اختلف العلماء من هذا الباب، أيما أفضل الملائكة أو بنو آدم على قولين: فذهب قوم إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة. وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل. احتج من فضل الملائكة بأنهم « عباد مكرمون. لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون » [ الأنبياء: 27 ] « لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون » [ التحريم: 6 ] . وقوله: « لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون » [ النساء: 172 ] وقوله: « قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك » [ الأنعام: 50 ] . وفي البخاري: ( يقول الله عز وجل: « من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ) . وهذا نص. احتج من فضل بني آدم بقوله تعالى: » إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريئة « [ الأنعام: 50 ] بالهمز، من برأ الله الخلق. وقوله عليه السلام: ( وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضي لطالب العلم ) الحديث. أخرجه أبو داود، وبما جاء في أحاديث من أن الله تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، ولا يباهي إلا بالأفضل، والله أعلم. وقال بعض العلماء: ولا طريق إلى القطع بأن الأنبياء أفضل من الملائكة، ولا القطع بأن الملائكة خير منهم، لأن طريق ذلك خبر الله تعالى وخبر رسوله أو إجماع الأمة، وليس ههنا شيء من ذلك خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر رحمه الله حيث قالوا: الملائكة أفضل. قال: وأما من قال من أصحابنا والشيعة: إن الأنبياء أفضل لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فيقال لهم: المسجود له لا يكون أفضل من الساجد، ألا ترى أن الكعبة مسجود لها والأنبياء والخلق يسجدون نحوها، ثم إن الأنبياء خير من الكعبة باتفاق الأمة. ولا خلاف أن السجود لا يكون إلا لله تعالى، لأن السجود عبادة، والعبادة لا تكون إلا لله، فإذا كان كذلك فكون السجود إلى جهة لا يدل على أن الجهة خير من الساجد العابد، وهذا واضح. وسيأتي له مزيد بيان في الآية بعد هذا. »
قوله تعالى: « إني أعلم غيب السماوات والأرض » دليل على أن أحدا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله كالأنبياء أو من أعلمه من أعلمه الله تعالى فالمنجمون والكهان وغيرهم كذبة. وسيأتي بيان هذا في « الأنعام » إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: « وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو » 0
قوله تعالى: « وأعلم ما تبدون » أي من قولهم: « أتجعل فيها من يفسد فيها » حكاه مكي والماوردي. وقال الزهراوي: ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم. « وما كنتم تكتمون » قال ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير: المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والمعصية. قال ابن عطية: وجاء « تكتمون » للجماعة، والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم: أنتم فعلتم كذا. أي منكم فاعله، وهذا مع قصد تعنيف، ومنه قوله تعالى: « إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون » [ الحجرات: 4 ] وإنما ناداه منهم عيينة، وقيل الأقرع. وقالت طائفة: الإبداء والمكتوم ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع. وقال مهدي بن ميمون: كنا عند الحسن فسأله الحسن بن دينار ما الذي كتمت الملائكة؟ قال: إن الله عز وجل لما خلق آدم رأت الملائكة خلقا عجبا، وكأنهم دخلهم من ذلك شيء، قال: ثم أقبل بعضهم على بعض وأسروا ذلك بينهم، فقالوا: وما يهمكم من هذا المخلوق إن الله لم يخلق خلقا إلا كنا أكرم عليه منه. و « ما » في قوله: « ما تبدون » يجوز أن ينتصب بـ « أعلم » على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم وتنصب به « ما » فيكون مثل حواج بيت الله، وقد تقدم.
الآية: 34 ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي واستكبر وكان من الكافرين )
قوله تعالى: « وإذ قلنا » أي واذكر. وأما قول أبي عبيدة: إن « إذ » زائدة فليس بجائز، لأن إذ ظرف. وقال: « قلنا » ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيما وإشادة بذكره. والملائكة جمع ملك، وروي عن ابن جعفر بن القعقاع أنه ضم تاء التأنيث من الملائكة إتباعا لضم الجيم في « اسجدوا » . ونظيره « الحمد لله » . 0
قوله تعالى: « اسجدوا » السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع، قال الشاعر:
يجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
الأكم: الجبال الصغار. جعلها سجدا للحوافر لقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها. وعين ساجدة، أي فاترة عن النظر، وغايته وضع الوجه بالأرض. قال ابن فارس: سجد إذا تطامن، وكل ما سجد فقد ذل. والإسجاد: إدامة النظر. قال أبو عمرو: وأسجد إذا طأطأ رأسه، قال:
فضول أزمتها أسجدت سجود النصارى لأحبارها
قال أبو عبيدة: وأنشدني أعرابي من بني أسد:
وقلن له أسجد لليلى فأسجدا
يعني البعير إذا طأطأ رأسه. ودراهم الإسجاد: دراهم كانت عليها صور كانوا يسجدون لها، قال:
وافى بها كدراهم الإسجاد
استدل من فضل آدم وبنيه بقوله تعالى للملائكة: « اسجدوا لآدم » . قالوا: وذلك يدل على أنه كان أفضل منهم. والجواب أن معنى « اسجدوا لآدم » اسجدوا لي مستقبلين وجه آدم. وهو كقوله تعالى: « أقم الصلاة لدلوك الشمس » [ الإسراء: 78 ] أي عند دلوك الشمس وكقوله: « ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين » [ ص: 72 ] أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين. وقد بينا أن المسجود له لا يكون أفضل من الساجد بدليل القبلة.
فإن قيل: فإذا لم يكن أفضل منهم فما الحكمة في الأمر بالسجود له؟ قيل له: إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم. وقال بعضهم: عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به فأمروا بالسجود له تكريما. ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم: « أتجعل فيها من يفسد فيها » لما قال لهم: « إني جاعل في الأرض خليفة » [ البقرة: 30 ] وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا، فقال لهم: « إني خالق بشرا من طين » [ ص: 71 ] وجاعله خليفة، فإذا نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. والمعنى: ليكون ذلك عقوبة لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن. فإن قيل: فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: « لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون » [ الحجر: 72 ] . وأمنه من العذاب بقوله: « ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر » [ الفتح: 2 ] . وقال للملائكة: « و من يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم » [ الأنبياء: 29 ] . قيل له: إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بحياة نفسه سبحانه، فلم يقل: لعمري. وأقسم بالسماء والأرض، ولم يدل على أنهما أرفع قدرا من العرش والجنان السبع. وأقسم بالتين والزيتون. وأما قول سبحانه: « ومن يقل منهم إني إله من دونه » [ الأنبياء: 29 ] فهو نظير قوله لنبيه عليه السلام: « لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين » [ الزمر: 65 ] فليس فيه إذا دلالة، والله أعلم.
واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبادة، فقال الجمهور: كان هذا أمرا للملائكة بوضع الجباه على الأرض، كالسجود المعتاد في الصلاة، لأنه الظاهر من السجود في العرف والشرع، وعلى هذا قيل: كان ذلك السجود تكريما لآدم وإظهارا لفضله، وطاعة لله تعالى، وكان آدم كالقبلة لنا. ومعنى « لآدم » : إلى آدم، كما يقال صلى للقبلة، أي إلى القبلة. وقال قوم: لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ولكنه مبقى على أصل اللغة، فهو من التذلل والانقياد، أي اخضعوا لآدم وأقروا له بالفضل. « فسجدوا » أي امتثلوا ما أمروا به.
واختلف أيضا هل كان ذلك السجود خاصا بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى، أم كان جائزا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام، لقوله تعالى: « ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا » [ يوسف: 100 ] فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحا إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أولى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد، فقال لهم: ( لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين ) . روى ابن ماجة في سننه والبستي في صحيحه عن أبي واقد قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما هذا ) فقال: يا رسول الله، قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك، قال: ( فلا تفعل فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه ) . لفظ البستي. ومعنى القتب أن العرب يعز عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القتب عند الولادة. وفي بعض طرق معاذ: ونهى عن السجود للبشر وأمر بالمصافحة.
قلت: وهذا السجود المنهي عنه قد اتخذه جهال المتصوفة عادة في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم، فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للأقدام لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه، ضل سعيهم وخاب عملهم.
قوله: « إلا إبليس » نصب على الاستثناء المتصل، لأنه كان من الملائكة على قول الجمهور: ابن عباس وابن مسعود وابن جريج وابن المسيب وقتادة وغيرهم، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، ورجحه الطبري، وهو ظاهر الآية. قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد. روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا. وحكى الماوردي عن قتادة: أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنة. وقال سعيد بن جبير: إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم، وخلق سائر الملائكة من نور. وقال ابن زيد والحسن وقتادة أيضا: إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن ملكا، وروى نحوه عن ابن عباس وقال: اسمه الحارث. وقال شهر بن حوشب وبعض الأصوليين: كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب، وحكاه الطبري عن ابن مسعود. والاستثناء على هذا منقطع، مثل قوله تعالى: « ما لهم به من علم إلا اتباع الظن » [ النساء: 175 ] وقوله: « إلا ما ذكيتم » [ المائدة: 3 ] في أحد القولين، وقال الشاعر:
ليس عليك عطش ولا جوع إلا الرقاد والرقاد ممنوع
واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله جل وعز وصف الملائكة فقال: « لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون » [ التحريم: 6 ] ، وقوله تعالى: « إلا إبليس كان من الجن » [ الكهف: 50 ] والجن غير الملائكة. أجاب أهل المقالة الأولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه عدلا منه، لا يسأل عما يفعل، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة. وقول من قال: إنه كان من جن الأرض فسبي، فقد روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الأرض مع جند من الملائكة، حكاه المهدوي وغيره. وحكى الثعلبي عن ابن عباس: أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم، وخلقت الملائكة من نور، وكان اسمه بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، وكان من خزان الجنة وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما، وكان يسوس ما بين السماء والأرض، فرأى لنفسه بذلك شرفا وعظمة، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطانا رجيما. فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه، وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية، وخطيئة إبليس كبرا. والملائكة قد تسمى جنا لاستتارها، وفي التنزيل: « وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا » [ الصافات: 158 ] ، وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام:
وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر
وأيضا لما كان من خزان الجنة نسب إليها فاشتق اسمه من اسمها، والله أعلم. وإبليس وزنه إفعيل، مشتق من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله تعالى. ولم ينصرف، لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبه بالأعجمية، قال أبو عبيدة وغيره. وقيل: هو أعجمي لا اشتقاق له فلم ينصرف للعجمة والتعريف، قاله الزجاج وغيره.
قوله تعالى: « أبى » معناه امتنع من فعل ما أمر به، ومنه الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله - وفي راوية: يا ويلي - أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار ) . خرجه مسلم. يقال: أبي يأبى إباء، وهو حرف نادر جاء على فعل يفعل ليس فيه حرف من حروف الحلق، وقد قيل: إن الألف مضارعة لحروف الحلق. قال الزجاج: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: القول عندي أن الألف مضارعة لحروف الحلق. قال النحاس: ولا أعلم أن أبا إسحاق روى إسماعيل نحوا غير هذا الحرف.
قوله تعالى: « واستكبر » الاستكبار: الاستعظام، فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم، فكان ترك السجود لآدم تسفيها لأمر الله وحكمته. وعن هذا الكبر عبر عليه السلام بقوله: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر ) . في رواية فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: ( إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس ) . أخرجه مسلم. ومعنى بطر الحق: تسفيهه وإبطاله. وغمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم. ويروى: « وغمص » بالصاد المهملة، والمعنى واحد، يقال: غمصه يغمصه غمصا واغتمصه، أي استصغره ولم يره شيئا. وغمص فلان النعمة إذا لم يشكرها. وغمصت عليه قولا قاله، أي عبته عليه. وقد صرح اللعين بهذا المعنى فقال: « أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين » [ ص: 76 ] . « أأسجد لمن خلقت طينا » [ الإسراء: 61 ] . « لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون » [ الحجر: 26 ] فكفره الله بذلك. فكل من سفه شيئا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله عليه السلام كان حكمه حكمه، وهذا ما لا خلاف فيه. وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال بلغني أن أول معصية كانت الحسد والكبر، حسد إبليس آدم، وشح آدم في أكله من الشجرة. وقال قتادة: حسد إبليس آدم، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناري وهذا طيني. وكان بدء الذنوب الكبر، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه.
قوله تعالى: « وكان من الكافرين » قيل: كان هنا بمعنى صار، ومنه قوله تعالى: « فكان من المغرقين » . وقال الشاعر:
بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
أي صارت. وقال ابن فورك. « كان » هنا بمعنى صار خطأ ترده الأصول. وقال جمهور المتأولين: المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر، لأن الكافر حقيقة والمؤمن حقيقة هو الذي قد علم الله منه الموافاة.
قلت: وهذا صحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: ( وإنما الأعمال بالخواتيم ) . وقيل: إن إبليس عبدالله تعالى ثمانين ألف سنة، وأعطي الرياسة والخزانة في الجنة على الاستدراج، كما أعطي المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم، وكما أعطي بلعام الاسم الأعظم على طرف لسانه، فكان في رياسته والكبر في نفسه متمكن. قال ابن عباس: كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده، فلذلك قال: أنا خير منه، ولذلك قال الله عز وجل: « ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أستكبرت أم كنت من العالين » [ ص: 75 ] أي استكبرت ولا كبر لك، ولم أتكبر أنا حين خلقته بيدي والكبر لي فلذلك قال: « وكان من الكافرين » . [ ص: 74 ] . وكان أصل خلقته من نار العزة، ولذلك حلف بالعزة فقال: « فبعزتك لأغوينهم أجمعين » [ ص: 82 ] فالعزة أورثته الكبر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام. وعن أبي صالح قال: خلقت الملائكة من نور العزة وخلق إبليس من نار العزة.
قال علماؤنا - رحمة الله عليهم - : ومن أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالا على ولايته، خلافا لبعض الصوفية والرافضة حيث قالوا: إن ذلك يدل على أنه ولي، إذ لو لم يكن وليا ما أظهر الله على يديه ما أظهر. ودليلنا أن العلم بأن الواحد منا ولي لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنا لم يمكنا أن نقطع على أنه ولي لله تعالى، لأن الولي لله تعالى من علم الله تعالى أنه لا يوافي إلا بالإيمان. ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالإيمان، ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالإيمان، علم أن ذلك ليس يدل على ولايته لله. قالوا: ولا نمنع أن يطلع بعض أوليائه على حسن عاقبته وخاتمة عمله وغيره معه، قال الشيخ أبو الحسن الأشعري وغيره. وذهب الطبري إلى أن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته، ومع قدم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم.
واختلف هل كان قبل إبليس كافر أو لا؟ فقيل: لا، وإن إبليس أول من كفر. وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذين كانوا في الأرض. واختلف أيضا هل كفر إبليس جهلا أو عنادا على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره. فمن قال إنه كفر جهلا قال: إنه سلب العلم عند كفره. ومن قال كفر عنادا قال: كفر ومعه علمه. قال ابن عطية: والكفر عنادا مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء.
الآية: 35 ( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين )
قوله تعالى: « وقلنا يا آدم اسكن » لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: اسكن، أي لازم الإقامة واتخذها مسكنا، وهو محل السكون. وسكن إليه يسكن سكونا. والسكن: النار، قال الشاعر:
قد قومت بسكن وأدهان
والسكن: كل ما سكن إليه. والسكين معروف سمي به لأنه يسكن حركة المذبوح، ومنه المسكين لقلة تصرفه وحركته. وسكان السفينة عربي، لأنه يسكنها عن الاضطراب.
في قوله تعالى: « اسكن » تنبيه على الخروج، لأن السكنى لا تكون ملكا، ولهذا قال بعض العارفين: السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع، فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة.
قلت: وإذا كان هذا فيكون فيه دلالة على ما يقول الجمهور من العلماء: إن من أسكن رجلا مسكنا له أنه لا يملكه بالسكنى، وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدة الإسكان. وكان الشعبي يقول: إذا قال الرجل داري لك سكنى حتى تموت فهي له حياته وموته، وإذا قال: داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات. ونحو من السكنى العمرى، إلا أن الخلاف في العمرى أقوى منه في السكنى. وسيأتي الكلام في العمرى في « هود » إن شاء الله تعالى. قال الحربي: سمعت ابن الإعرابي يقول: لم يختلف العرب في أن هذه الأشياء على ملك أربابها ومنافعها لمن جعلت له العمرى والرقبى والإفقار والإخبال والمنحة والعرية والسكنى والإطراق. وهذا حجة مالك وأصحابه في أنه لا يملك شيء من العطايا إلا المنافع دون الرقاب، وهو قول الليث بن سعد والقاسم بن محمد، ويزيد بن قسيط.
والعمرى: هو إسكانك الرجل في دار لك مدة عمرك أو عمره. ومثله الرقبى: وهو أن يقول: إن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك، وهي من المراقبة. والمراقبة: أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه، ولذلك اختلفوا في إجازتها ومنعها، فأجازها أبو يوسف والشافعي، وكأنها وصية عندهم. ومنعها مالك والكوفيون، لأن كل واحد منهم يقصد إلى عوض لا يدري هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه. وفي الباب حديثان أيضا بالإجازة والمنع ذكرهما ابن ماجة في سننه، الأول رواه جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها ) ففي هذا الحديث التسوية بين العمرى والرقبى في الحكم. الثاني رواه ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا رقبى فمن أرقب شيئا فهو له حياته ومماته ) . قال: والرقبى أن يقول هو للآخر: مني ومنك موتا. فقوله: ( لا رقبى ) نهي يدل على المنع، وقوله: ( من أرقب شيئا فهو له ) يدل على الجواز، وأخرجهما أيضا النسائي. وذكر عن ابن عباس قال: العمرى والرقبى سواء. وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها ) . فقد صحح الحديث ابن المنذر، وهو حجة لمن قال بأن العمرى والرقبى سواء. وروي عن علي وبه قال الثوري وأحمد، وأنها لا ترجع إلى الأول أبدا، وبه قال إسحاق. وقال طاوس: من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث. والإفقار مأخوذ من فقار الظهر. أفقرتك ناقتي: أعرتك فقارها لتركبها. وأفقرك الصيد إذا أمكنك من فقاره حتى ترميه. ومثله الإخبال، يقال: أخبلت فلانا إذا أعرته ناقة يركبها أو فرسا يغزو عليه، قال زهير:
هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
والمنحة: العطية. والمنحة: منحة اللبن. والمنيحة: الناقه أو الشاة يعطيها الرجل آخر يحتلبها ثم يردها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم ) . رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي والدارقطني وغيرهما، وهو صحيح. والإطراق: إعارة الفحل، استطرق فلان فلانا فحله: إذا طلبه ليضرب في إبله، فأطرقه إياه، ويقال: أطرقني فحلك أي أعرني فحلك ليضرب في إبلي. وطرق الفحل الناقة يطرق طروقا أي قعا عليها. وطروقة الفحل: أنثاه، يقال: ناقة طروقة الفحل للتي بلغت أن يضربها الفحل.
قوله تعالى: « أنت وزوجك » « أنت » تأكيد للمضمر الذي في الفعل، ومثله « فاذهب أنت وربك » . ولا يجوز اسكن وزوجك، ولا اذهب وربك، إلا في ضرورة الشعر، كما قال:
قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسفن رملا
ف « زهر » معطوف على المضمر في « أقبلت » ولم يؤكد ذلك المضمر. ويجوز في غير القرآن على بعد: قم وزيد.
قوله تعالى: « وزوجك » لغة القرآن « زوج » بغير هاء، وقد جاء في صحيح مسلم: « زوجة » حدثنا عبدالله بن مسلمة بن قعنب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه فجاء فقال: ( يا فلان هذه زوجتي فلانة ) : فقال يا رسول الله، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ) . وزوج آدم عليه السلام هي حواء عليها السلام، وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك، ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته، فلما انتبه قيل له: من هذه؟ قال: امرأة قيل: وما اسمها؟ قال: حواء، قيل: ولم سميت امرأة؟ قال: لأنها من المرء أخذت، قيل: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي. روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه، وأنهم قالوا له: أتحبها يا آدم؟ قال: نعم، قالوا لحواء: أتحبينه يا حواء؟ قالت: لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه. قالوا: فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء. وقال ابن مسعود وابن عباس: لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها، فلما انتبه رآها فقال: من أنت؟ قالت: امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي، وهو معنى قوله تعالى: « هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها » [ الزمر: 6 ] . قال العلماء: ولهذا كانت المرأة عوجاء، لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن المرأة خلقت من ضلع - في رواية: وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه - لن تستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها ) . وقال الشاعر:
هي الضلع العوجاء ليست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها
أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى أليس عجيبا ضعفها واقتدارها
ومن هذا الباب استدل العلماء على ميراث الخنثى المشكل إذا تساوت فيه علامات النساء والرجال في اللحية والثدي والمبال بنقص الأعضاء. فإن نقصت أضلاعه عن أضلاع المرأة أعطي نصيب رجل - روي ذلك عن علي رضي الله عنه - لخلق حواء من أحد أضلاعه، وسيأتي في المواريث بيان هذا إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: « الجنة » الجنة: البستان، وقد تقدم القول فيها. ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد وإنما كان في جنة بأرض عدن. واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس، فإن الله يقول: « لا لغو فيها ولا تأثيم » [ الطور: 23 ] وقال « لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا » [ النبأ: 35 ] وقال: « لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما. إلا قيلا سلاما » [ الواقعة: 25 ] . وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله: « وما هم منها بمخرجين » [ الحجر: 48 ] . وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها. وقد لغا فيها إبليس وكذب، وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما. قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى؟ فالجواب: أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام، ومن قال: أسأل الله الجنة، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد. ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم، وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى: أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة، فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لرد على موسى، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها. وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء. وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها هي جنة الخلد حقا. وأما قولهم: إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام، وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي، وكذلك دار القدس. قال أبو الحسن بن بطال: وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم. وقولهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد، فيعكس عليهم ويقال: كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل، فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا، على ما قال أبو أمامة على ما يأتي.
قوله تعالى: « وكلا منها رغدا حيث شئتما » قراءة الجمهور « رغدا » بفتح الغين. وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها. والرغد: العيش الدار الهني الذي لا عناء فيه، قال:
بينما المرء تراه ناعما يأمن الأحداث في عيش رغد
ويقال: رغد عيشهم ورغد ( بضم الغين وكسرها ) . وأرغد القوم: أخصبوا وصاروا في رغد من العيش. وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف، وحيثُ وحيثَ وحيثِ، وحوثَ وحوثِ وحاث، كلها لغات، ذكرها النحاس وغيره.
قوله تعالى « وكلا منها رغدا » حذفت النون من « كلا » لأنه أمر، وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وحذفها شاذ. قال سيبويه: من العرب من يقول أأكل، فيتم. يقال منه: أكلت الطعام أكلا ومأكلا. والأكلة ( بالفتح ) : المرة الواحدة حتى تشبع. والأكلة ( بالضم ) : اللقمة، تقول: أكلت أكلة واحدة، أي لقمة، وهي القرصة أيضا. وهذا الشيء أكلة لك، أي طعمة لك. والأكل أيضا ما أكل. ويقال: فلان ذو أكل إذا كان ذا حظ من الدنيا ورزق واسع. « رغدا » نعت لمصدر محذوف، أي أكلا رغدا. قال ابن كيسان: ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال. وقال مجاهد: « رغدا » أي لا حساب عليهم. والرغد في اللغة. الكثير الذي لا يعنيك، ويقال: أرغد القوم، إذا وقعوا في خصب وسعة. وقد تقدم هذا المعنى. « حيث » مبنية على الضم، لأنها خالفت أخواتها الظروف في أنها لا تضاف، فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمت. قال الكسائي: لغة قيس وكنانة الضم، ولغة تميم الفتح. قال الكسائي: وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض، وينصبونها في موضع النصب، قال الله تعالى: « سنستدرجهم من حيث لا يعلمون » [ الأعراف: 182 ] وتضم وتفتح. « ولا تقربا هذه الشجرة » الهاء من « هذه » بدل من ياء الأصل، لأن الأصل هذي. قال النحاس: ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسورا ما قبلها إلا هاء « هذه » ومن العرب من يقول: هاتا هند، ومنهم من يقول: هاتي هند. وحكى سيبويه: هذه هند، بإسكان الهاء. وحكى الكسائي عن العرب: ولا تقربا هذي الشجرة. وعن شبل ابن عباد قال: كان ابن كثير وابن محيصن لا يثبتان الهاء في « هذه » في جميع القرآن. وقراءة الجماعة « رغدا » بفتح الغين. وروي عن ابن وثاب والنخعي أنهما سكّنا الغين. وحكى سلمة عن الفراء قال يقال: هذه فعلت وهذي فعلت، بإثبات ياء بعد الذال. وهذِ فعلت، بكسر الذال من غير إلحاق ياء ولا هاء. وتا فعلت. قال هشام ويقال: تا فعلت. وأنشد:
خليلي لولا ساكن الدار لم أقم بتا الدار إلا عابر ابن سبيل
قال ابن الأنباري: وتا بإسقاط ها بمنزلة ذي بإسقاط ها من هذي، وبمنزلة ذه بإسقاط ها من هذه. وقد قال الفراء: من قال هذ قامت لا يسقط ها، لأن الاسم لا يكون على ذال واحدة.
قوله تعالى: « ولا تقربا هذه الشجرة » أي لا تقرباها بأكل، لأن الإباحة فيه وقعت. قال ابن العربي: سمعت الشاشي في مجلس النضر [ بن شميل ] يقول: إذا قيل لا تقرب ( بفتح الراء ) كان معناه لا تلبس بالفعل، وإذا كان ( بضم الراء ) فإن معناه لا تدن منه. وفي الصحاح: قرب الشيء يقرب قربا أي دنا. وقربته ( بالكسر ) أقربه قربانا أي دنوت منه. وقربت أقرب قرابة - مثل كتبت أكتب كتابة - إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة، والاسم القرب. قال الأصمعي: قلت لأعرابي: ما القرب؟ فقال: سير الليل لورد الغد. وقال ابن عطية: قال بعض الحذاق: إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه العرب وهو القرب. قال ابن عطية: وهذا مثال بين في سد الذرائع. وقال بعض أرباب المعاني قوله: « ولا تقربا » إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة، وأن سكناه فيها لا يدوم، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى. والدليل على هذا قوله تعالى « إني جاعل في الأرض خليفة » [ البقرة: 30 ] فدل على خروجه منها.
قوله تعالى: « هذه الشجرة » الاسم المبهم ينعت بما فيه الألف واللام لا غير، كقولك: مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة. وقرأ ابن محيصن: « هذي الشجرة » بالياء وهو الأصل، لأن الهاء في هذه بدل من ياء ولذلك انكسر ما قبلها، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة سواها، وذلك لأن أصلها الياء.
والشجرة والشجرة والشيرة، ثلاث لغات وقرئ « الشجرة » بكسر الشين. والشَجرة والشِجرة: ما كان على ساق من نبات الأرض. وأرض شجيرة وشجراء أي كثيرة الأشجار، وواد شجير، ولا يقال: واد أشجر. وواحد الشجراء شجرة، ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة: شجرة وشجراء، وقصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء، وحلفة وحلفاء. وكان الأصمعي يقول في واحد الحلفاء: حلفة، بكسر اللام مخالفة لأخواتها. وقال سيبويه: الشجراء واحد وجمع، وكذلك القصباء والطرفاء والحلفاء. والمشجرة: موضع الأشجار. وأرض مشجرة، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجرا، قال الجوهري.
التاسعة: واختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نهي عنها فأكل منها، فقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة: هي الكرم، ولذلك حرمت علينا الخمر. وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وقتادة: هي السنبلة، والحبة منها ككلى البقر، أحلى من العسل وألين من الزبد، قاله وهب بن منبه. ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه. وقال ابن جريج عن بعض الصحابة: هي شجرة التين، وكذا روى سعيد عن قتادة، ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها من أجل ندم آدم عليه السلام على أكلها، ذكره السهيلي. قال ابن عطية: وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها. وقال القشيري أبو نصر: وكان الإمام والدي رحمه الله يقول: يعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة.
واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى: « فتكونا من الظالمين » ، فقال قوم أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر قال ابن العربي: وهي أول معصية عصي الله بها على هذا القول. قال: « وفيه دليل على أن من حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث. وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا: لا حنث فيه. وقال مالك وأصحابه: إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره، وعليه حملت قصة آدم عليه السلام فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد بها جنسها، فحمل القول على اللفظ دون المعنى.»
وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين، قال في الكتاب: يحنث، لأنها هكذا تؤكل. وقال ابن المواز: لا شيء عليه، لأنه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزا فراعى الاسم والصفة. ولو قال في يمينه: لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها وفيما اشترى بثمنها من طعام وفيما أنبتت خلاف. قال آخرون: تأولا النهي على الندب. قال ابن العربي: وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك ههنا، لقوله: « فتكونا من الظالمين » [ البقرة: 35 ] فقرن النهي بالوعيد، وكذلك قوله سبحانه: « فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى » [ طه: 117 ] . وقال ابن المسيب: إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فسكر وكان في غير عقله. وكذلك قال يزيد بن قسيط، وكانا يحلفان بالله أنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل. قال ابن العربي: وهذا فاسد نقلا وعقلا، أما النقل فلم يصح بحال، وقد وصف الله عز وجل خمر الجنة فقال: « لا فيها غول » . وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم.
قلت: قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى: « فلما أنبأهم بأسمائهم » [ البقرة: 33 ] فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله جل وعز. وقيل: أكلها ناسيا، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد.
قلت: وهو الصحيح لإخبار الله تعالى في كتابه بذلك حتما وجزما فقال: « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما » [ طه: 115 ] . ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا، أي مخالفا. قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم، وقد قال الله تعالى: « ولم نجد له عزما » .
قلت: قول أبي أمامة هذا عموم في جميع بني آدم. وقد يحتمل أن يخص من ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا. وقد يحتمل أن يكون المعنى لو أن أحلام بني آدم من غير الأنبياء. والله أعلم.
قلت: والقول الأول أيضا حسن، فظنا أن المراد العين وكان المراد الجنس، كقول النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ ذهبا وحريرا فقال: ( هذان حرامان على ذكور أمتي ) . وقال في خبر آخر: ( هذان مهلكان أمتي ) . وإنما أراد الجنس لا العين.
يقال: إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء إبليس إياها - على ما يأتي بيانه - وإن أول كلامه كان معها لأنها وسواس المخدة، وهي أول فتنة دخلت على الرجال من النساء، فقال: ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد، لأنه علم منهما أنهما كانا يحبان الخلد، فأتاهما من حيث أحبا - « حبك الشيء يعمي ويصم » - فلما قالت حواء لآدم أنكر عليها وذكر العهد، فألح على حواء وألحت حواء على آدم، إلى أن قالت: أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شيء سلمت أنت، فأكلت فلم يضرها، فأتت آدم فقالت: كل فإني قد أكلت فلم يضرني، فأكل فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب، لقول الله تعالى: « ولا تقربا هذه الشجرة » فجمعهما في النهي، فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا، وخفيت على آدم هذه المسألة، ولهذا قال بعض العلماء: إن من قال لزوجتيه أو أمتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حرتان، إن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما. وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال، قال ابن القاسم: لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدخول، حملا على هذا الأصل وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ. وقاله سحنون. وقال ابن القاسم مرة أخرى: تطلقان جميعا وتعتقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما، لأن بعض الحنث حنث، كما لو حلف ألا يأكل هذين الرغيفين فإنه بحنث بأكل أحدهما بل بأكل لقمة منهما. وقال أشهب: تعتق وتطلق التي دخلت وحدها، لأن دخول كل واحدة منهما شرطا في طلاقها أو عتقها. قال ابن العربي: وهذا بعيد، لأن بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا.
قلت: الصحيح الأول، وإن النهي إذا كان معلقا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما، لأنك إذا قلت: لا تدخلا الدار، فدخل أحدهما ما وجدت المخالفة منهما، لأن قول الله تعالى « ولا تقربا هذه الشجرة » [ البقرة: 35 ] نهي لهما « فتكونا من الظالمين » [ البقرة: 35 ] جوابه، فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا، فلما أكلت لم يصبها شيء، لأن المنهي عنه ما وجد كاملا. وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم، وهو معنى قوله تعالى: « ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي » [ طه: 115 ] وقيل: نسي قوله: « إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى » [ طه: 115 ] . والله أعلم.
واختلف العلماء في هذا الباب هل وقع من الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا - بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رزيلة فيها شين ونقص إجماعا عند القاضي أبي بكر، وعند الأستاذ أبي إسحاق أن ذلك مقتضى دليل المعجزة، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم - ، فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين: تقع الصغائر منهم. خلافا للرافضة حيث قالوا: إنهم معصومون من جم