سورة البقرة
وأول مبدوء به الكلام في نزولها وفضلها وما جاء فيها، وهكذا كل سورة إن وجدنا لها ذلك، فنقول: سورة البقرة مدنية، نزلت في مُدَدٍ شتى. وقيل: هي أول سورة نزلت بالمدينة، إلا قوله تعالى: « واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله » [ البقرة: 281 ] فإنه آخر آية نزلت من السماء، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن.
وهذه السورة فضلها عظيم وثوابها جسيم. ويقال لها: فسطاط القرآن، قاله خالد بن معدان. وذلك لعظمها وبهائها، وكثرة أحكامها ومواعظها. وتعلمها عمر رضي الله عنه بفقهها وما تحتوي عليه في اثنتي عشرة سنة، وابنه عبدالله في ثماني سنين كما تقدم.
قال ابن العربي: سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة، وقال له: ( اذهب فأنت أميرهم ) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة وصححه. وروى مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة ) ، قال معاوية: بلغني أن البطلة: السحرة. وروي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ) . وروى الدارمي عن عبدالله قال: ما من بيت يقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله صراط. وقال: إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة، وإن لكل شيء لباباً وإن لباب القرآن المفصل. قال أبو محمد الدارمي. اللباب: الخالص. وفي صحيح البستي عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن لكل شيء سناما وإن سنام القرآن سورة البقرة ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال ومن قرأها نهارا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام ) . قال أبو حاتم البستي: قوله صلى الله عليه وسلم: ( لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام ) أراد: مردة الشياطين. وروى الدارمي في مسنده عن الشعبي قال قال عبدالله: من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح، أربعا من أولها وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاثا خواتيمها، أولها: « لله ما في السموات » [ البقرة: 284 ] . وعن الشعبي عنه: لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ولا شيء يكرهه، ولا يقرأن على مجنون إلا أفاق. وقال المغيرة بن سبيع - وكان من أصحاب عبدالله - : لم ينس القرآن. وقال إسحاق بن عيسى: لم ينس ما قد حفظ. قال أبو محمد الدارمي: منهم من يقول: المغيرة بن سميع. وفي كتاب الاستيعاب لابن عبدالبر: وكان لبيد بن ربيعة بن عام بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة من شعراء الجاهلية، أدرك الإسلام فحسن إسلامه وترك قول الشعر في الإسلام، سأل عمر في خلافته عن شعره واستنشده، فقرأ سورة البقرة، فقال: إنما سألتك عن شعرك، فقال: ما كنت لأقول بيتا من الشعر بعد إذ علمني الله البقرة وآل عمران، فأعجب عمر قوله، وكان عطاؤه ألفين فزاده خمسمائة. وقد قال كثير من أهل الأخبار: إن لبيدا لم يقل شعرا منذ أسلم. وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
قال ابن عبدالبر: وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولي، وهو أصح عندي. وقال غيره: بل البيت الذي قال في الإسلام:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه القرين الصالح
وسيأتي ما ورد في آية الكرسي وخواتيم البقرة، ويأتي في أول سورة آل عمران زيادة بيان لفضل هذه السورة، إن شاء الله تعالى.
الآية :1 ( الم )
قوله تعالى: « الم » اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السورة، فقال عامر الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، ولله في كل كتاب من كتبه سر. فهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن نؤمن بها ونقرأ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا: الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسر. وقال أبو حاتم: لم نجد الحروف المقطعة في القرآن إلا في أوائل السور، ولا ندري ما أراد الله جل وعز بها.
قلت: ومن هذا المعنى ما ذكره أبو بكر الأنباري: حدثنا الحسن بن الحباب حدثنا أبو بكر بن أبي طالب حدثنا أبو المنذر الواسطي عن مالك بن مغول عن سعيد بن مسروق عن الربيع بن خثيم قال: إن الله تعالى أنزل هذا القران فاستأثر منه بعلم ما شاء، وأطلعكم على ما شاء، فأما ما استأثر به لنفسه فلستم بنائليه فلا تسألوا عنه، وأما الذي أطلعكم عليه فهو الذي تسألون عنه وتخبرون به، وما بكل القرآن تعلمون، ولا بكل ما تعلمون تعملون. قال أبو بكر: فهذا يوضح أن حروفا من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم، اختبارا من الله عز وجل وامتحانا، فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد. حدثنا أبو يوسف بن يعقوب القاضي حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عمارة عن حريث بن ظهير عن عبدالله قال: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: « الذين يؤمنون بالغيب » [ البقرة: 3 ] .
قلت: هذا القول في المتشابه وحكمه، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في ( آل عمران ) إن شاء الله تعالى. وقال جمع من العلماء كبير: بل يجب أن نتكلم فيها، ويلتمس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة، فروي عن ابن عباس وعلي أيضا: أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقال قطرب والفراء وغيرهما: هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحداهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي منها بناء كلامهم، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب: كانوا ينفرون عند استماع القرآن، فلما سمعوا: « الم » و « المص » استنكروا هذا اللفظ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم. وقال قوم: روي أن المشركين لما أعرضوا عن سماع القرآن بمكة وقالوا: « لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه » [ فصلت: 26 ] نزلت ليستغربوها فيفتحون لها أسماعهم فيسمعون القرآن بعدها فتجب عليهم الحجة. وقال جماعة: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها، كقول ابن عباس وغيره: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الألف مفتاح اسمه الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم مفتاح اسمه مجيد. وروى أبو الضحى عن ابن عباس في قوله: « الم » قال: أنا الله أعلم، « الر » أنا الله أرى، « المص » أنا الله أفضل. فالألف تؤدي عن معنى أنا، واللام تؤدي عن اسم الله، والميم تؤدي عن معنى أعلم. واختار هذا القول الزجاج وقال: اذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى، وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة نظما لها ووضعا بدل الكلمات التي الحروف منها، كقوله:
فقلت لها قفي فقالت قاف
أراد: قالت وقفت. وقال زهير:
بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا
أراد: وإن شرا فشر. وأراد: إلا أن تشاء.
وقال آخر:
نادوهم ألا الجموا ألا تا قالوا جميعا كلهم ألا فا
أراد: ألا تركبون، قالوا: ألا فاركبوا. وفي الحديث: ( من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة ) قال شقيق: هو أن يقول في أقتل: أقْ، كما قال عليه السلام ( كفى بالسيف شا ) معناه: شافيا.
وقال زيد بن أسلم: هي أسماء للسور. وقال الكلبي: هي أقسام أقسم الله تعالى بها لشرفها وفضلها، وهي من أسمائه، عن ابن عباس أيضا ورد بعض العلماء هذا القول فقال: لا يصح أن يكون قسما لأن القسم معقود على حروف مثل: إن وقد ولقد وما، ولم يوجد ههنا حرف من هذه الحروف، فلا يجوز أن يكون يمينا. والجواب أن يقال: موضع القسم قوله تعالى: « لا ريب فيه » فلو أن إنسانا حلف فقال: والله هذا الكتاب لا ريب فيه، لكان الكلام سديدا، وتكون « لا » جواب القسم. فثبت أن قول الكلبي وما روي عن ابن عباس سديد صحيح.
فإن قيل: ما الحكمة في القسم من الله تعالى، وكان القوم في ذلك الزمان على صنفين: مصدق، ومكذب، فالمصدق يصدق بغير قسم، والمكذب لا يصدق مع القسم؟. قيل له: القرآن نزل بلغة العرب، والعرب إذا أراد بعضهم أن يؤكد كلامه أقسم على كلامه، والله تعالى أراد أن يؤكد عليهم الحجة فأقسم أن القرآن من عنده. وقال بعضهم: « الم » أي أنزلت عليك هذا الكتاب من اللوح المحفوظ. وقال قتادة في قوله: « الم » قال اسم من أسماء القرآن. وروي عن محمد بن علي الترمذي أنه قال: إن الله تعالى أودع جميع ما في تلك السورة من الأحكام والقصص في الحروف التي ذكرها في أول السورة، ولا يعرف ذلك إلا نبي أو ولي، ثم بين ذلك في جميع السورة ليفقّه الناس. وقيل غير هذا من الأقوال، فالله أعلم.
والوقف على هذه الحروف على السكون لنقصانها إلا إذا أخبرت عنها أو عطفتها فإنك تعربها. واختلف: هل لها محل من الإعراب؟ فقيل: لا، لأنها ليست أسماء متمكنة، ولا أفعالا مضارعة، وإنما هي بمنزلة حروف التهجي فهي محكية. هذا مذهب الخليل وسيبويه. ومن قال: إنها أسماء السور فموضعها عنده الرفع على أنها عنده خبر ابتداء مضمر، أي هذه « الم » ، كما تقول: هذه سورة البقرة. أو تكون رفعا على الابتداء والخبر ذلك، كما تقول: زيد ذلك الرجل. وقال ابن كَيسان النحوي: « الم » في موضع نصب، كما تقول: اقرأ « الم » أو عليك « الم » . وقيل: في موضع خفض بالقسم، لقول ابن عباس: إنها أقسام أقسم الله بها.
الآية: 2 ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين )
قوله تعالى: « ذلك الكتاب » قيل: المعنى هذا الكتاب. و « ذلك » قد تستعمل في الإشارة إلى حاضر، وإن كان موضوعا للإشارة إلى غائب، كما قال تعالى في الإخبار عن نفسه جل وعز: « ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم » [ السجدة: 6 ] ، ومنه قول خُفاف بن نُدبة:
أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
أي أنا هذا. فـ « ذلك » إشارة إلى القرآن، موضوع موضع هذا، تلخيصه: الم هذا الكتاب لا ريب فيه. وهذا قول أبي عبيدة وعكرمة وغيرهما، ومنه قوله تعالى: « وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم » [ الأنعام: 83 ] « تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق » [ البقرة: 252 ] أي هذه، لكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل تلك. وفي البخاري « وقال معمر ذلك الكتاب هذا القرآن » . « هدى للمتقين » بيان ودلالة، كقوله: « ذلكم حكم الله يحكم بينكم » [ الممتحنة: 10 ] هذا حكم الله.
قلت: وقد جاء « هذا » بمعنى « ذلك » ، ومنه قوله عليه السلام في حديث أم حرام: ( يركبون ثبج هذا البحر ) أي ذلك البحر، والله أعلم. وقيل: هو على بابه إشارة إلى غائب.
واختلف في ذلك الغائب على أقوال عشرة، فقيل: « ذلك الكتاب » أي الكتاب الذي كتبتُ على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق لا ريب فيه، أي لا مبدل له. وقيل: ذلك الكتاب، أي الذي كتبتُ على نفسي في الأزل ( أن رحمتي سبقت غضبي ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده أن رحمتي تغلب غضبي ) في رواية: ( سبقت ) . وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد نبيه عليه السلام أن ينزل عليه كتابا لا يمحوه الماء، فأشار إلى ذلك الوعد كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حِمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان ) الحديث. وقيل: الإشارة إلى ما قد نزل من القرآن بمكة. وقيل: إن الله تبارك وتعالى لما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم بمكة: « إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا » [ المزمل: 5 ] لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مستشرفا ( وفي النسخة: مستسرفا ) لإنجاز هذا الوعد من ربه عز وجل، فلما أنزل عليه بالمدينة: « الم. ذلك الكتاب لا ريب فيه » [ البقرة: 1 - 2 ] كان فيه معنى هذا القرآن الذي أنزلته عليك بالمدينة، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك بمكة. وقيل: إن « ذلك » إشارة إلى ما في التوراة والإنجيل. و « الم » اسم للقرآن، والتقدير هذا القرآن ذلك الكتاب المفسر في التوراة والإنجيل، يعني أن التوراة والإنجيل يشهدان بصحته ويستغرق ما فيهما ويزيد عليهما ما ليس فيهما. وقيل: إن « ذلك الكتاب » إشارة إلى التوراة والإنجيل كليهما، والمعنى: الم ذانك الكتابان أو مثل ذينك الكتابين، أي هذا القرآن جامع لما في ذينك الكتابين، فعبر بـ « بذلك » عن الاثنين بشاهد من القرآن، قال الله تبارك وتعالى: « إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك » [ البقرة: 68 ] أي عوان بين تينك: الفارض والبكر، وسيأتي. وقيل: إن « ذلك » إشارة إلى اللوح المحفوظ. وقال الكسائي: « ذلك » إشارة إلى القرآن الذي في السماء لم ينزل بعد. وقيل: إن الله تعالى قد كان وعد أهل الكتاب أن ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم كتابا، فالإشارة إلى ذلك الوعد. قال المبرد: المعنى هذا القرآن ذلك الكتاب الذي كنتم تستفتحون به على الذين كفروا. وقيل: إلى حروف المعجم في قول من قال: « الم » الحروف التي تحديتكم بالنظم منها.
والكتاب مصدر من كتب يكتب إذا جمع، ومنه قيل: كتيبة، لاجتماعها. وتكتَّبت الخيل صارت كتائب. وكتبتُ البغلة: إذا جمعت بين شُفْري رَحِمِها بحلقة أو سير، قال:
لا تأمنن فَزاريا حللت به على قَلوصك واكتبها بأسيار
والكتبة ( بضم الكاف ) : الخرزة، والجمع كتب. والكتب: الخزر. قال ذو الرمة:
وفراء غرفية أثأى خوارزها مُشَلشِل ضيَّعتْه بينها الكتبُ
والكتاب: هو خط الكاتب حروف المعجم مجموعة أو متفرقة، وسمي كتابا وإن كان مكتوبا، كما قال الشاعر:
تؤمِّل رجعة مني وفيها كتاب مثل ما لصق الغراء
والكتاب: الفرض والحكم والقدر، قال الجَعدِي:
يا ابنة عمي كتاب الله أخرجني عنكم وهل أمنعنَّ الله ما فعلا
قوله تعالى: « لا ريب » نفي عام، ولذلك نصب الريب به. وفي الريب ثلاثة معان:
أحدها: الشك، قال عبدالله بن الزبعرى:
ليس في الحق يا أميمة ريب إنما الريب ما يقول الجهول
وثانيها: التهمة، قال جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتني فقلت كلانا يا بثين مريب
وثالثها: الحاجة، قال:
قضينا من تهامة كل ريب وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
فكتاب الله تعالى لا شك فيه ولا ارتياب، والمعنى: أنه في ذاته حق وأنه منزل من عند الله، وصفة من صفاته، غير مخلوق ولا محدث، وإن وقع ريب للكفار. وقيل: هو خبر ومعناه النهي، أي لا ترتابوا، وتم الكلام كأنه قال ذلك الكتاب حقا. وتقول: رابني هذا الأمر إذا أدخل عليك شكا وخوفا. وأراب: صار ذا ريبة، فهو مريب. ورابني أمره. وريب الدهر: صروفه.
قوله تعالى: « فيه هدى للمتقين » الهاء في « فيه » في موضع خفض بفي، وفيه خمسة أوجه، أجودها: فيهِ هدى. ويليه فيهُ هدى ( بضم الهاء بغير واو ) وهي قراءة الزهري وسلام أبي المنذر. ويليه فيهي هدى ( بإثبات الياء ) وهي قراءة ابن كثير. ويجوز فيهو هدى ( بالواو ) . ويجوز فيه هدى ( مدغما ) وارتفع « هدى » على الابتداء والخبر « فيه » . والهدى في كلام العرب معناه الرشد والبيان، أي فيه كشف لأهل المعرفة ورشد وزيادة بيان وهدى.
الهدى هُديان: هدى دلالة، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، قال الله تعالى: « ولكل قوم هاد » [ الرعد: 7 ] . وقال: « وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم » [ الشورى: 52 ] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه، وتفرد هو سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: « إنك لا تهدي من أحببت » [ القصص: 56 ] فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب، ومنه قوله تعالى: « أولئك على هدى من ربهم » [ البقرة: 5 ] وقوله: « ويهدي من يشاء » [ فاطر: 8 ] والهدى: الاهتداء، ومعناه راجع إلى معنى الإرشاد كيفما تصرفت. قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها، من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: « فلن يضل أعمالهم. سيهديهم » [ محمد: 4 - 5 ] ومنه قوله تعالى: « فاهدوهم إلى صراط الجحيم » [ الصافات: 23 ] معناه فاسلكوهم إليها.
الهدى لفظ مؤنث. قال الفراء: بعض بني أسد تؤنث الهدى فتقول: هذه هدى حسنة. وقال اللحياني: هو مذكر، ولم يعرب لأنه مقصور والألف لا تتحرك، ويتعدى بحرف وبغير حرف وقد مضى في « الفاتحة » ، تقول: هديته الطريق وإلى الطريق والدار وإلى الدار، أي عرفته. الأولى لغة أهل الحجاز، والثانية حكاها الأخفش. وفي التنزيل: « اهدنا الصراط المستقيم » و « الحمد لله الذي هدانا لهذا » [ الأعراف: 43 ] وقيل: إن الهدى اسم من أسماء النهار، لأن الناس يهتدون فيه لمعايشهم وجميع مأربهم، ومنه قول ابن مُقبل:
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة يخشعن في الآل غلفا أو يصلينا
قوله تعالى: « للمتقين » خص الله تعالى المتقين بهدايته وإن كان هدى للخلق أجمعين تشريفا لهم، لأنهم آمنوا وصدقوا بما فيه. وروي عن أبى رَوق أنه قال: « هدى للمتقين » أي كرامة لهم، يعني إنما أضاف إليهم إجلالا لهم وكرامة لهم وبيانا لفضلهم. وأصل « للمتقين » : للموتقيين بياءين مخففتين، حذفت الكسرة من الياء الأولى لثقلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وأبدلت الواو تاء على أصلهم في اجتماع الواو والتاء وأدغمت التاء في التاء فصار للمتقين.
الخامسة: التقوى يقال أصلها في اللغة قلة الكلام، حكاه ابن فارس. قلت ومنه الحديث ( التقي مُلْجَم والمتقي فوق المؤمن والطائع ) وهو الذي يتقي بصالح عمله وخالص دعائه عذاب الله تعالى، مأخوذ من اتقاء المكروه بما تجعله حاجزا بينك وبينه، كما قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وقال آخر:
فألقت قناعا دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم
وخرج أبو محمد عبدالغني الحافظ من حديث سعيد بن زَربي أبي عبيدة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال قال يوما لابن أخيه: يا ابن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قال: نعم، قال: لا خير فيهم إلا تائب أو تقي ثم قال: يا ابن أخي ترى الناس ما أكثرهم؟ قلت: بلى، قال: لا خير فيهم إلا عالم أو متعلم. وقال أبو يزيد البسطامي: المتقي من إذا قال قال لله، ومن إذا عمل عمل لله. وقال أبو سليمان الداراني: المتقون الذين نزع الله عن قلوبهم حب الشهوات. وقيل: المتقي الذي اتقى الشرك وبرئ من النفاق. قال ابن عطية: وهذا فاسد، لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق. وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُبيا عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم: قال فما عملت فيه؟ قال: تشمرت وحذرت، قال: فذاك التقوى. وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فنظمه:
خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
السادسة: التقوى فيها جماع الخير كله، وهي وصية الله في الأولين والآخرين، وهي خير ما يستفيده الإنسان، كما قال أبو الدرداء وقد قيل له: إن أصحابك يقولون الشعر وأنت ما حفظ عنك شيء، فقال:
يريد المرء أن يؤتى مناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا
وروى ابن ماجة في سننه عن أبى أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ( ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خير له من زوجة صالحة إن أمرها أطاعته وإن نظر إليها سرته وإن أقسم عليها أبرته وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله ) .
والأصل في التقوى: وَقْوَى على وزن فعلى فقلبت الواو تاء من وقيته أقيه أي منعته، ورجل تقي أي خائف، أصله وقي، وكذلك تقاة كانت في الأصل وقاة، كما قالوا: تجاه وتراث، والأصل وجاه ووراث.
الآية: 3 ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )
قوله تعالى: « الذين » في موضع خفض نعت « للمتقين » ، ويجوز الرفع على القطع أي هم الذين، ويجوز النصب على المدح. « يؤمنون » يصدقون. والإيمان في اللغة: التصديق، وفي التنزيل: « وما أنت بمؤمن لنا » [ يوسف: 17 ] أي بمصدق، ويتعدى بالباء واللام، كما قال: « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » [ آل عمران: 73 ] « فما آمن لموسى » [ يونس: 83 ] وروى حجاج بن حجاج الأحول - ويلقب بزقّ العسل - قال سمعت قتادة يقول: يا ابن آدم، إن كنت لا تريد أن تأتي الخير إلا عن نشاط فإن نفسك مائلة إلى السأمة والفترة والملة، ولكن المؤمن هو المتحامل، والمؤمن هو المتقوي، والمؤمن هو المتشدد، وإن المؤمنين هم العجاجون إلى الله الليل والنهار، والله ما يزال المؤمن يقول: ربنا في السر والعلانية حتى استجاب لهم في السر والعلانية.
قوله تعالى « بالغيب » الغيب في كلام العرب: كل ما غاب عنك، وهو من ذوات الياء يقال منه: غابت الشمس تغيب، والغيبة معروفة. وأغابت المرأة فهي مغيبة إذا غاب عنها زوجها، ووقعنا في غيبة وغيابة، أي هبطة من الأرض، والغيابة: الأجمة، وهي جماع الشجر يغاب فيها، ويسمى المطمئن من الأرض: الغيب، لأنه غاب عن البصر.
واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا، فقالت فرقة: الغيب في هذه الآية: الله سبحانه. وضعفه ابن العربي. وقال آخرون: القضاء والقدر. وقال آخرون: القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون: الغيب كل ما أخبر به الرسول عليه السلام مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ابن عطية: وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها.
قلت: وهذا الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل عليه السلام حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان. قال: ( أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره ) . قال: صدقت. وذكر الحديث. وقال عبدالله بن مسعود: ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم قرأ: « الذين يؤمنون بالغيب » [ البقرة: 3 ] .
قلت: وفي التنزيل: « وما كنا غائبين » [ الأعراف: 7 ] وقال: « الذين يخشون ربهم بالغيب » [ الأنبياء: 49 ] فهو سبحانه غائب عن الأبصار، غير مرئي في هذه الدار، غير غائب بالنظر والاستدلال، فهم يؤمنون أن لهم ربا قادرا يجازي على الأعمال، فهم يخشونه في سرائرهم وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس، لعلمهم بإطلاعه عليهم، وعلى هذا تتفق الآي ولا تتعارض، والحمد لله. وقيل: « بالغيب » أي بضمائرهم وقلوبهم بخلاف المنافقين، وهذا قول حسن. وقال الشاعر:
وبالغيب أمنا وقد كان قومنا يصلّون للأوثان قبل محمد
قوله تعالى: « ويقيمون الصلاة » معطوف جملة على جملة. وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها، على ما يأتي بيانه. يقال: قام الشيء أي دام وثبت، وليس من القيام على الرجل، وإنما هو من قولك: قام الحق أي ظهر وثبت، قال الشاعر:
وقامت الحرب بنا على ساق
وقال آخر:
وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا حتى تقيم الخيل سوق طعان
وقيل: « يقيمون » يديمون، وأقامه أي أدامه، وإلى هذا المعنى أشار عمر بقوله: من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
إقامة الصلاة معروفة، وهي سنة عند الجمهور، وأنه لا إعادة على تاركها. وعند الأوزاعي وعطاء ومجاهد وابن أبي ليلى هي واجبة وعلى من تركها الإعادة، وبه قال أهل الظاهر، وروي عن مالك، واختاره ابن العربي قال: لأن في حديث الأعرابي ( وأقم ) فأمره بالإقامة كما أمره بالتكبير والاستقبال والوضوء.
قال: فأما أنتم الآن وقد وقفتم على الحديث فقد تعين عليكم أن تقولوا بإحدى روايتي مالك الموافقة للحديث وهي أن الإقامة فرض. قال ابن عبدالبر قوله: ( وتحريمها التكبير ) دليل على أنه لم يدخل في الصلاة من لم يحرم، فما كان قبل الإحرام فحكمه ألا تعاد منه الصلاة إلا أن يجمعوا على شيء فيسلم للإجماع كالطهارة والقبلة والوقت ونحو ذلك. وقال بعض علمائنا: من تركها عمدا أعاد الصلاة، وليس ذلك لوجوبها إذ لو كان ذلك لاستوى سهوها وعمدها، وإنما ذلك للاستخفاف بالسنن، والله أعلم.
واختلف العلماء فيمن سمع الإقامة هل يسرع أو لا؟ فذهب الأكثر إلى أنه لا يسرع وإن خاف فوت الركعة لقوله عليه السلام: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا ) . رواه أبو هريرة أخرجه مسلم. وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا ثوب بالصلاة فلا يَسْعَ إليها أحدكم ولكن ليمش وعليه السكينة والوقار صل ما أدركت واقض ما سبقك ) . وهذا نص. ومن جهة المعنى أنه إذا أسرع انبهر فشوش عليه دخوله في الصلاة وقراءتها وخشوعها. وذهب جماعة من السلف منهم ابن عمر وابن مسعود على اختلاف عنه أنه إذا خاف فواتها أسرع. وقال إسحاق: يسرع إذا خاف فوات الركعة، وروي عن مالك نحوه، وقال: لا بأس لمن كان على فرس أن يحرك الفرس، وتأوله بعضهم على الفرق بين الماشي والراكب، لأن الراكب لا يكاد أن ينبهر كما ينبهر الماشي.
قلت: واستعمال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال أولى، فيمشي كما جاء الحديث وعليه السكينة والوقار، لأنه في صلاة ومحال أن يكون خبره صلى الله عليه وسلم على خلاف ما أخبر، فكما أن الداخل في الصلاة يلزم الوقار والسكون كذلك الماشي، حتى يحصل له التشبه به فيحصل له ثوابه. ومما يدل على صحة هذا ما ذكرناه من السنة، وما خرجه الدارمي في مسنده قال: حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن محمد بن عجلان عن المقبري عن كعب بن عُجْرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا توضأت فعمدت إلى المسجد فلا تشبكن بين أصابعك فإنك في صلاة ) . فمنع صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وهو صحيح مما هو أقل من الإسراع وجعله كالمصلي، وهذه السنن تبين معنى قوله تعالى: « فاسعوا إلى ذكر الله » [ الجمعة: 9 ] وأنه ليس المراد به الاشتداد على الأقدام، وإنما عنى العمل والفعل، هكذا فسره مالك. وهو الصواب في ذلك والله أعلم.
واختلف العلماء في تأويل قوله عليه السلام: ( وما فاتكم فأتموا ) وقوله: ( واقض ما سبقك ) هل هما بمعنى واحد أو لا؟ فقيل: هما بمعنى واحد وأن القضاء قد يطلق ويراد به التمام، قال الله تعالى: « فإذا قضيت الصلاة » [ الجمعة: 10 ] وقال: « فإذا قضيتم مناسككم » [ البقرة: 200 ] . وقيل: معناهما مختلف وهو الصحيح، ويترتب على هذا الخلاف خلاف فيما يدركه الداخل هل هو أول صلاته أو أخرها؟ فذهب إلى الأول جماعة من أصحاب مالك - منهم ابن القاسم - ولكنه يقضي ما فاته بالحمد وسورة، فيكون بانيا في الأفعال قاضيا في الأقوال. قال ابن عبدالبر: وهو المشهور من المذهب. وقال ابن خويز منداد: وهو الذي عليه أصحابنا، وهو قول الأوزاعي والشافعي ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل والطبري وداود بن علي. وروى أشهب وهو الذي ذكره ابن عبدالحكم عن مالك، ورواه عيسى عن ابن القاسم عن مالك، أن ما أدرك فهو آخر صلاته، وأنه يكون قاضيا في الأفعال والأقوال، وهو قول الكوفيين. قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب: وهو مشهور مذهب مالك. قال ابن عبدالبر: من جعل ما أدرك أول صلاته فأظنهم راعوا الإحرام، لأنه لا يكون إلا في أول الصلاة، والتشهد والتسليم لا يكون إلا في أخرها، فمن ههنا قالوا: إن ما أدرك فهو أول صلاته، مع ما ورد في ذلك من السنة من قوله: ( فأتموا ) والتمام هو الآخر.
واحتج الآخرون بقوله: ( فاقضوا ) والذي يقضيه هو الفائت، إلا أن رواية من روى « فأتموا » أكثر، وليس يستقيم على قول من قال: إن ما أدرك أول صلاته ويطرد، إلا ما قاله عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجِشون والمزني وإسحاق وداود من أنه يقرأ مع الإمام بالحمد وسورة إن أدرك ذلك معه، وإذا قام للقضاء قرأ بالحمد وحدها، فهؤلاء اطرد على أصلهم قولهم وفعلهم، رضي الله عنهم.
الإقامة تمنع من ابتداء صلاة نافلة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) خرجه مسلم وغيره، فأما إذا شرع في نافلة فلا يقطعها، لقوله تعالى: « ولا تبطلوا أعمالكم » [ محمد: 33 ] وخاصة إذا صلى ركعة منها. وقيل: يقطعها لعموم الحديث في ذلك. والله أعلم.
واختلف العلماء فيمن دخل المسجد ولم يكن ركع ركعتي الفجر ثم أقيمت الصلاة، فقال مالك: يدخل مع الإمام ولا يركعهما، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف فوات ركعة فليركع خارج المسجد، ولا يركعهما في شيء من أفنية المسجد - التي تصلى فيها الجمعة - اللاصقة بالمسجد، وإن خاف أن تفوته الركعة الأولى فليدخل وليصل معه، ثم يصليهما إذا طلعت الشمس إن أحب، ولأن يصليهما إذا طلعت الشمس أحب إلي وأفضل من تركهما وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن خشي أن تفوته الركعتان ولا يدرك الإمام قبل رفعه من الركوع في الثانية دخل معه، وإن رجا أن يدرك ركعة صلى ركعتي الفجر خارج المسجد، ثم يدخل مع الإمام وكذلك قال الأوزاعي، إلا أنه يجوز ركوعهما في المسجد ما لم يخف فوت الركعة الأخيرة. وقال الثوري: إن خشي فوت ركعة دخل معهم ولم يصلهما وإلا صلاهما وإن كان قد دخل المسجد. وقال الحسن بن حي ويقال ابن حيان: إذا أخذ المقيم في الإقامة فلا تطوع إلا ركعتي الفجر. وقال الشافعي: من دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة دخل مع الإمام ولم يركعهما لا خارج المسجد ولا في المسجد. وكذلك قال الطبري وبه قال أحمد بن حنبل وحكي عن مالك، وهو الصحيح في ذلك، لقوله عليه السلام. ( إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ) . وركعتا الفجر إما سنة، وإما فضيلة، وإما رغيبة، والحجة عند التنازع حجة السنة. ومن حجة قول مالك المشهور وأبي حنيفة ما روي عن ابن عمر أنه جاء والإمام يصلي صلاة الصبح فصلاهما في حجرة حفصة، ثم إنه صلى مع الإمام. ومن حجة الثوري والأوزاعي ما روي عن عبدالله بن مسعود أنه دخل المسجد. وقد أقيمت الصلاة فصلى إلى أسطوانة في المسجد ركعتي الفجر، ثم دخل الصلاة بمحضر من حذيفة وأبي موسى رضي الله عنهما. قالوا: ( وإذا جاز أن يشتغل بالنافلة عن المكتوبة خارج المسجد جاز له ذلك في المسجد ) ، روى مسلم عن عبدالله بن مالك ابن بُحَينة قال: أقيمت صلاة الصبح فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي والمؤذن يقيم، فقال: ( أتصلي الصبح أربعا ) وهذا إنكار منه صلى الله عليه وسلم على الرجل لصلاته ركعتي الفجر في المسجد والإمام يصلي، ويمكن أن يستدل به أيضا على أن ركعتي الفجر إن وقعت في تلك الحال صحت، لأنه عليه السلام لم يقطع عليه صلاته مع تمكنه من ذلك، والله أعلم.
الصلاة أصلها في اللغة الدعاء، مأخوذة من صلى يصلي إذا دعا، ومنه قوله عليه السلام: ( إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل ) أي فليدع. وقال بعض العلماء: إن المراد الصلاة المعروفة، فيصلي ركعتين وينصرف، والأول أشهر وعليه من العلماء الأكثر. ولما ولدت أسماء عبدالله بن الزبير أرسلته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالت أسماء: ثم مسحه وصلى عليه، أي دعا له. وقال تعالى: « وصل عليهم » [ التوبة: 103 ] أي ادع لهم. وقال الأعشى:
تقول بِنتي وقد قرُبتُ مرتحلا يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليكِ مثلَ الذي صليتِ فاغتمضي نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
وقال الأعشى أيضا:
وقابلها الريح في دِنِّها وصلّى على دنها وارتسم
ارتسم الرجل: كبر ودعا، قال في الصحاح، وقال قوم: هي مأخوذة من الصلا وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب فيكتنفه، ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل، لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صَلْوَي السابق، فاشتقت الصلاة منه، إما لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل، وإما لأن الراكع تثنى صلَواه. والصلاة: مغرز الذنب من الفرس، والاثنان صلوان. والمصلي: تالي السابق، لأن رأسه عند صلاه. وقال علي رضي الله عنه: سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلّث عمر. وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه صلي بالنار إذا لزمها، ومنه « تصلى نارا حامية » [ الغاشية: 4 ] . وقال الحارث بن عُباد:
لم أكن من جُناتها علم اللـ ـه وإني بحرها اليوم صال
أي ملازم لحرها، وكأن المعنى على هذا ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به. وقيل: هي مأخوذة من صليت العود بالنار إذا قومته ولينته بالصلاء. والصلاء: صلاء النار بكسر الصاد ممدود، فإن فتحت الصاد قصرت، فقلت صلا النار، فكأن المصلي يقوم نفسه بالمعاناة فيها ويلين ويخشع، قال الخارزنجي:
فلا تعجل بأمرك واستدمه فما صلى عصاك كمستديم
والصلاة: الدعاء والصلاة: الرحمة، ومنه: ( اللهم صل على محمد ) الحديث. والصلاة: العبادة، ومنه قوله تعالى: « وما كان صلاتهم عند البيت » [ الأنفال: 35 ] الآية، أي عبادتهم. والصلاة: النافلة، ومنه قوله تعالى: « وأمر أهلك بالصلاة » [ طه: 132 ] . والصلاة التسبيح، ومنه قوله تعالى: « فلولا أنه كان من المسبحين » [ الصافات: 143 ] أي من المصلين. ومنه سبحة الضحى. وقد قيل في تأويل « نسبح بحمدك » [ البقرة: 30 ] نصلي. والصلاة: القراءة، ومنه قوله تعالى: « ولا تجهر بصلاتك » [ الإسراء: 110 ] فهي لفظ مشترك. والصلاة: بيت يصلّى فيه، قاله ابن فارس. وقد قيل: إن الصلاة اسم علم وضع لهذه العبادة، فإن الله تعالى لم يخل زمانا من شرع، ولم يخل شرع من صلاة، حكاه أبو نصر القشيري.
قلت: فعلى هذا القول لا اشتقاق لها، وعلى قول الجمهور وهي: -
اختلف الأصوليون هل هي مبقاة على أصلها اللغوي الوضعي الابتدائي، وكذلك الإيمان والزكاة والصيام والحج، والشرع إنما تصرف بالشروط والأحكام، أو هل تلك الزيادة من الشرع تصيرها موضوعة كالوضع الابتدائي من قبل الشرع. هنا اختلافهم والأول أصح، لأن الشريعة ثبتت بالعربية، والقرآن نزل بها بلسان عربي مبين، ولكن للعرب تحكم في الأسماء، كالدابة وضعت لكل ما يدب، ثم خصصها العرف بالبهائم، فكذلك لعرف الشرع تحكم في الأسماء، والله أعلم.
واختلف في المراد بالصلاة هنا، فقيل: الفرائض. وقيل: الفرائض والنوافل معا، وهو الصحيح، لأن اللفظ عام والمتقي يأتي بهما.
الصلاة سبب للرزق، قال الله تعالى: « وأمر أهلك بالصلاة » [ طه: 132 ] الآية، على ما يأتي بيانه في « طه » إن شاء الله تعالى. وشفاء من وجع البطن وغيره، روى ابن ماجة عن أبي هريرة قال: هجّر النبي صلى الله عليه وسلم فهجّرت فصليت ثم جلست، فالتفت إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( أشكمت درده ) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ( قم فصل فإن في الصلاة شفاء ) . في رواية: ( أشكمت درد ) يعني تشتكي بطنك بالفارسية، وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
الصلاة لا تصح إلا بشروط وفروض، فمن شروطها: الطهارة، وسيأتي بيان أحكامها في سورة النساء والمائدة. وستر العورة، يأتي في الأعراف القول فيها إن شاء الله تعالى. وأما فروضها: فاستقبال القبلة، والنية، وتكبيرة الإحرام والقيام لها، وقراءة أم القرآن والقيام لها، والركوع والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من الركوع والاعتدال فيه، والسجود والطمأنينة فيه، ورفع الرأس من السجود، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة فيه، والسجود الثاني والطمأنينة فيه. والأصل في هذه الجملة حديث أبي هريرة في الرجل الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة لما أخلّ بها، فقال له: ( إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ) خرجه مسلم. ومثله حديث رفاعة بن رافع، أخرجه الدارقطني وغيره. قال علماؤنا: فبين قوله صلى الله عليه وسلم أركان الصلاة، وسكت عن الإقامة ورفع اليدين وعن حد القراءة وعن تكبير الانتقالات، وعن التسبيح في الركوع والسجود، وعن الجلسة الوسطى، وعن التشهد وعن الجلسة الأخيرة وعن السلام. أما الإقامة وتعيين الفاتحة فقد مضى الكلام فيهما. وأما رفع اليدين فليس بواجب عند جماعة العلماء وعامة الفقهاء، لحديث أبي هريرة وحديث رفاعة بن رافع. وقال داود وبعض أصحابه بوجوب ذلك عند تكبيرة الإحرام. وقال بعض أصحابه: الرفع عند الإحرام وعند الركوع وعند الرفع من الركوع واجب، وإن من لم يرفع يديه فصلاته باطلة، وهو قول الحميدي، ورواية عن الأوزاعي. واحتجوا بقوله عليه السلام: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) أخرجه البخاري. قالوا: فوجب علينا أن نفعل كما رأيناه يفعل، لأنه المبلغ عن الله مراده. وأما التكبير ما عدا تكبيرة الإحرام فمسنون عند الجمهور للحديث المذكور. وكان ابن قاسم صاحب مالك يقول: من أسقط من التكبيرة في الصلاة ثلاث تكبيرات فما فوقها سجد قبل السلام، وإن لم يسجد بطلت صلاته، وإن نسي تكبيرة واحدة أو اثنتين سجد أيضا للسهو، فإن لم يفعل في شيء عليه، وروي عنه أن التكبيرة الواحدة لا سهو على من سها فيها. وهذا يدل على أن عظم التكبير وجملته عنده فرض، وأن اليسير منه متجاوز عنه. وقال أصبغ بن الفرج وعبدالله بن عبدالحكم: ليس على من لم يكبر في الصلاة من أولها إلى آخرها شيء إذا كبر تكبيرة الإحرام، فإن تركه ساهيا سجد للسهو، فإن لم يسجد فلا شيء عليه، ولا ينبغي لأحد أن يترك التكبير عامدا، لأنه سنة من سنن الصلاة، فإن فعل فقد أساء ولا شيء عليه وصلاته ماضية.
قلت: هذا هو الصحيح، وهو الذي عليه جماعة فقهاء الأمصار من الشافعيين والكوفيين وجماعة أهل الحديث والمالكيين غير من ذهب مذهب ابن القاسم. وقد ترجم البخاري رحمه الله ( باب إتمام التكبير في الركوع والسجود ) وساق حديث مُطرّف بن عبدالله قال: صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران بن حصين، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه كبر، وإذا نهض من الركعتين كبر، فلما قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم، أو قال: لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم. وحديث عكرمة قال: رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع، وإذا قام وإذا وضع، فأخبرت ابن عباس فقال: أو ليس تلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لا أُمّ لك فدلّك البخاري رحمه الله بهذا الباب على أن التكبير لم يكن معمولا به عندهم. روى أبو إسحاق السبيعي عن يزيد بن أبي مريم عن أبي موسى الأشعري قال: صلى بنا علي يوم الجمل صلاة أذكرنا بهذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يكبر في كل خفض ورفع، وقيام وقعود، قال أبو موسى: فإما نسيناها وإما تركناها عمدا.
قلت: أتراهم أعادوا الصلاة فكيف يقال من ترك التكبير بطلت صلاته ولو كان ذلك لم يكن فرق بين السنة والفرض، والشيء إذا لم يجب أفراده لم يجب جميعه، وبالله التوفيق.
وأما التسبيح في الركوع والسجود فغير واجب عند الجمهور للحديث المذكور، وأوجبه إسحاق بن راهويه، وأن من تركه أعاد الصلاة، لقوله عليه السلام: ( أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ أن يستجاب لكم ) .
وأما الجلوس والتشهد فاختلف العلماء في ذلك، فقال مالك وأصحابه: الجلوس الأول والتشهد له سنتان. وأوجب جماعة من العلماء الجلوس الأول وقالوا: هو مخصوص من بين سائر الفروض بأن ينوب عنه السجود كالعرايا من المزابنة، والقراض من الإجارات، وكالوقوف بعد الإحرام لمن وجد الإمام راكعا. واحتجوا بأنه لو كان سنة ما كان العامد لتركه تبطل صلاته كما لا تبطل بترك سنن الصلاة. احتج من لم يوجبه بأن قال: لو كان من فرائض الصلاة لرجع الساهي عنه إليه حتى يأتي به، كما لو ترك سجدة أو ركعة، ويراعى فيه ما يراعى في الركوع والسجود من الولاء والرتبة، ثم يسجد لسهوه كما يصنع من ترك ركعة أو سجدة وأتى بهما. وفي حديث عبدالله بن بُحينة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من ركعتين ونسي أن يتشهد فسبح الناس خلفه كيما يجلس فثبت قائما فقاموا، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو قبل التسليم، فلو كان الجلوس فرضا لم يسقطه النسيان والسهو، لأن الفرائض في الصلاة يستوي في تركها السهو والعمد إلا في المؤتم.
واختلفوا في حكم الجلوس الأخير في الصلاة وما الغرض من ذلك على خمسة أقوال: أحدها: أن الجلوس فرض والتشهيد فرض والسلام فرض. وممن قال ذلك الشافعي وأحمد بن حنبل في رواية، وحكاه أبو مصعب في مختصره عن مالك وأهل المدينة، وبه قال داود. قال الشافعي: من ترك التشهد الأول والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلا إعادة عليه وعليه سجدتا السهو لتركه. وإذا ترك التشهد الأخير ساهيا أو عامدا أعاد. واحتجوا بأن بيان النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فرض، لأن أصل فرضها مجمل يفتقر إلى البيان إلا ما خرج بدليل وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) .
القول الثاني: أن الجلوس والتشهد والسلام ليس بواجب، وإنما ذلك كله سنة مسنونة، هذا قول بعض البصريين، وإليه ذهب إبراهيم بن عُلية، وصرح بقياس الجلسة الأخيرة على الأولى، فخالف الجمهور وشذ، إلا أنه يرى الإعادة على من ترك شيئا من ذلك كله. ومن حجتهم حديث عبدالله بن عمرو بن العاص ( وفي النسخة: العاصي ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رفع الإمام رأسه من آخر سجدة في صلاته ثم أحدث فقد تمت صلاته ) وهو حديث لا يصح على ما قاله أبو عمر، وقد بيناه في كتاب المقتبس. وهذا اللفظ إنما يسقط السلام لا الجلوس.
القول الثالث: إن الجلوس مقدار التشهد فرض، وليس التشهد ولا السلام بواجب فرضا. قاله أبو حنيفة وأصحابه وجماعة من الكوفيين. واحتجوا بحديث ابن المبارك عن الإفريقي عبدالرحمن بن زياد وهو ضعيف، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا جلس أحدكم في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته ) . قال ابن العربي: وكان شيخنا فخر الإسلام ينشدنا في الدرس:
ويرى الخروج من الصلاة بضرطة أين الضراط من السلام عليكم
قال ابن العربي: وسلك بعض علمائنا من هذه المسألة فرعين ضعيفين، أما أحدهما: فروى عبدالملك عن عبدالملك أن من سلم من ركعتين متلاعبا، فخرج البيان أنه إن كان على أربع أنه يجزئه، وهذا مذهب أهل العراق بعينه. وأما الثاني: فوقع في الكتب المنبوذة أن الإمام إذا أحدث بعد التشهد متعمدا وقبل السلام أنه يجزئ من خلفه، وهذا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه في الفتوى، وإن عمرت به المجالس للذكرى.
القول الرابع: إن الجلوس فرض والسلام فرض، وليس التشهد بواجب. وممن قال هذا مالك بن أنس وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية. واحتجوا بأن قالوا: ليس شيء من الذكر يجب إلا تكبيرة الإحرام وقراءة أم القرآن.
القول الخامس: أن التشهد والجلوس واجبان، وليس السلام بواجب، قاله جماعة منهم إسحاق بن راهويه، واحتج إسحاق بحديث ابن مسعود حين علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وقال له: ( إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك وقضيت ما عليك ) . قال الدارقطني: قوله ( إذا فرغت من هذا فقد تمت صلاتك ) أدرجه بعضهم عن زهير في الحديث، ووصله بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وفصله شبابة عن زهير وجعله من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب من قول من أدرجه في حديث النبي صلى الله عليه وسلم. وشبابة ثقة. وقد تابعه غسان بن الربيع على ذلك، جعل آخر الحديث من كلام ابن مسعود ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
واختلف العلماء في السلام، فقيل: واجب، وقيل: ليس بواجب. والصحيح وجوبه لحديث عائشة وحديث علي الصحيح خرجه أبو داود والترمذي ورواه سفيان الثوري عن عبدالله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم ) وهذا الحديث أصل في إيجاب التكبير والتسليم، وأنه لا يجزئ عنهما غيرهما كما لا يجزئ عن الطهارة غيرها باتفاق. قال عبدالرحمن بن مهدي: لو افتتح رجل صلاته بسبعين اسما من أسماء الله عز وجل ولم يكبر تكبيرة الإحرام لم يجزه، وإن أحدث قبل أن يسلم لم يجزه، وهذا تصحيح من عبدالرحمن بن مهدي لحديث علي، وهو إمام في علم الحديث ومعرفة صحيحه من سقيمه. وحسبك به!»
وقد اختلف العلماء في وجوب التكبير عند الافتتاح فقال ابن شهاب الزهري وسعيد بن المسيب والأوزاعي وعبدالرحمن وطائفة: تكبيرة الإحرام ليست بواجبة. وقد روي عن مالك في المأموم ما يدل على هذا القول، والصحيح من مذهبه إيجاب تكبيرة الإحرام وأنها فرض وركن من أركان الصلاة، وهو الصواب وعليه الجمهور، وكل من خالف ذلك فمحجوج بالسنة.
واختلف العلماء في اللفظ الذي يدخل به في الصلاة، فقال مالك وأصحابه وجمهور العلماء: لا يجزئ إلا التكبير، لا يجزئ منه تهليل ولا تسبيح ولا تعظيم ولا تحميد. هذا قول الحجازيين وأكثر العراقيين، ولا يجزئ عند مالك إلا « الله أكبر » لا غير ذلك. وكذلك قال الشافعي وزاد: ويجزئ « الله الأكبر » و « الله الكبير » والحجة لمالك حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ « الحمد لله رب العالمين » . وحديث علي: وتحريمها التكبير. وحديث الأعرابي: فكبر. وفي سنن ابن ماجة حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة وعلي بن محمد الطنافسي قالا: حدثنا أبو أسامة قال حدثني عبدالحميد بن جعفر قال حدثنا محمد ابن عمرو بن عطاء قال سمعت أبا حميد الساعدي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة استقبل القبلة ورفع يديه وقال: « الله أكبر » وهذا نص صريح وحديث صحيح في تعيين لفظ التكبير، قال الشاعر:
رأيت الله أكبر كل شيء محاولة وأعظمه جنودا
ثم إنه يتضمن القدم، وليس يت