الآية: 71 ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون )
اللبس الخلط، وقد تقدم في البقرة. ومعنى هذه الآية والتي قبلها معنى ذلك. « وتكتمون الحق » ويجوز « تكتموا » على جواب الاستفهام. « وأنتم تعلمون » جملة في موضع الحال.
الآية: 72 ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون )
نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وغيرهما، قالوا للسفلة من قومهم: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار، يعني أوله. وسمي وجها لأنه أحسنه، وأول ما يواجه منه أوله. قال الشاعر:
وتضيء في وجه النهار منيرة كجمانة البحري سل نظامها
وقال آخر:
من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار
وهو منصوب على الظرف، وكذلك « آخره » . ومذهب قتادة أنهم فعلوا ذلك ليشككوا المسلمين. والطائفة: الجماعة، من طاف يطوف، وقد يستعمل للواحد على معنى نفس طائفة. ومعنى الآية أن اليهود قال بعضهم لبعض: أظهروا الإيمان بمحمد في أول النهار ثم اكفروا به آخره؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك ظهر لمن يتبعه ارتياب في دينه فيرجعون عن دينه إلى دينكم، ويقولون إن أهل الكتاب أعلم به منا. وقيل: المعنى آمنوا بصلاته في أول النهار إلى بيت المقدس فإنه الحق، واكفروا بصلاته آخر النهار إلى الكعبة لعلهم يرجعون إلى قبلتكم؛ عن ابن عباس وغيره. وقال مقاتل: معناه أنهم جاؤوا محمدا أول النهار ورجعوا من عنده فقالوا للسفلة: هو حق فاتبعوه، ثم قالوا: حتى ننظر في التوراة ثم رجعوا في آخر النهار فقالوا: قد نظرنا في التوراة فليس هو به. يقولون إنه ليس بحق، وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة وأن يشككوا فيه.
الآية: 73 ( ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم )
قوله تعالى: « ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم » هذا نهي، وهو من كلام اليهود بعضهم لبعض، أي قال ذلك الرؤساء للسفلة. وقال السدي: من قول يهود خيبر ليهود المدينة. وهذه الآية أشكل ما في السورة. فروي عن الحسن ومجاهد أن معنى الآية ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنهم لا حجة لهم فإنكم أصح منهم دينا. و « أن » و « يحاجوكم » في موضع خفض، أي بأن يحاجوكم أي باحتجاجهم، أي لا تصدقوهم في ذلك فإنهم لا حجة لهم. « أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » من التوراة والمن والسلوى وفرق البحر وغيرها من الآيات والفضائل. فيكون « أن يؤتى » مؤخرا بعد « أو يحاجوكم » ، وقوله « إن الهدى هدى الله » اعتراض بين كلامين. وقال الأخفش: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدقوا أن يحاجوكم؛ يذهب إلى أنه معطوف. وقيل: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ فالمد على الاستفهام أيضا تأكيد للإنكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أتوه؛ لأن علماء اليهود قالت لهم: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ أي لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ فالكلام على نسقه. و « أن » في موضع رفع على قول من رفع في قولك أزيد ضربته، والخبر محذوف تقديره أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تصدقون أو تقرون، أي إيتاء موجود مصدق أو مقر به، أي لا تصدقون بذلك. ويجوز أن تكون « أن » في موضع نصب على إضمار فعل؛ كما جاز في قولك أزيدا ضربته، وهذا أقوى في العربية لأن الاستفهام بالفعل أولى، والتقدير أتقرون أن يؤتى، أو أتشيعون ذلك، أو أتذكرون ذلك ونحوه. وبالمد قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد. وقال أبو حاتم: « آن » معناه « ألأن » ، فحذفت لام الجر استخفافا وأبدلت مدة؛ كقراءة من قرأ « أن كان ذا مال » [ القلم: 14 ] أي ألأن. وقوله « أو يحاجوكم » على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين؛ أو تكون « أو » بمعنى « أن » لأنهما حرفا شك وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر. وتقدير الآية: وأن يحاجوكم عند ربكم يا معشر المؤمنين، فقل: يا محمد إن الهدى هدى الله ونحن عليه. ومن قرأ بترك المد قال: إن النفي الأول دل على إنكارهم في قولهم ولا تؤمنوا. فالمعنى أن علماء اليهود قالت لهم: لا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي لا إيمان لهم ولا حجة؛ فعطف على المعنى من العلم والحكمة والكتاب والحجة والمن والسلوى وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات، أي أنها لا تكون إلا فيكم فلا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم. فالكلام فيه تقديم وتأخير على هذه القراءة واللام زائدة. ومن استثنى ليس من الأول، وإلا لم يجز الكلام. ودخلت « أحد » لأن أول الكلام نفي، فدخلت في صلة « أن » لأنه مفعول الفعل المنفي؛ فإن في موضع نصب لعدم الخافض. وقال الخليل: ( أن ) في موضع خفض بالخافض المحذوف. وقيل: إن اللام ليست بزائدة، و « تؤمنوا » محمول على تُقِرّوا. وقال ابن جريج: المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وقيل: المعنى لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم إلا لمن تبع دينكم لئلا يكون طريقا إلى عبدة الأوثان إلى تصديقه. وقال الفراء: يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله عز وجل « إلا لمن تبع دينكم » ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم « قل إن الهدى هدى الله » . أي إن البيان الحق هو بيان الله عز وجل « أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم » بين ألا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، و « لا » مقدرة بعد « أن » أي لئلا يؤتى؛ كقوله « يبين الله لكم أن تضلوا » [ النساء: 176 ] أي لئلا تضلوا، فلذلك صلح دخول « أحد » في الكلام. و « أو » بمعنى « حتى » و « إلا أن » ؛ كما قال امرؤ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
وقال آخر:
وكنت إذا غمزت قناة قوم كسرت كعوبها أو تستقيما
ومثله قولهم: لا نلتقي أو تقوم الساعة، بمعنى « حتى » أو « إلى أن » ؛ وكذلك مذهب الكسائي. وهي عند الأخفش عاطفة على « ولا تؤمنوا » وقد تقدم. أي لا إيمان لهم ولا حجة؛ فعطف على المعنى. ويحتمل أن تكون الآية كلها خطابا للمؤمنين من الله تعالى على جهة التثبيت لقلوبهم والتشحيذ لبصائرهم؛ لئلا يشكّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم. والمعنى لا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدين، ولا تصدقوا أن يحاجكم في دينكم عند ربكم من خالفكم أو يقدر على ذلك، فإن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله. قال الضحاك: إن اليهود قالوا إنا نحاج عند ربنا من خالفنا في ديننا؛ فبين الله تعالى أنهم هم المدحضون المعذبون وأن المؤمنين هم الغالبون. ومحاجتهم خصومتهم يوم القيامة. ففي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن اليهود والنصارى يحاجونا عند ربنا فيقولون أعطيتنا أجرا واحدا وأعطيتهم أجرين فيقول هل ظلمتكم من حقوقكم شيئا قالوا لا قال فإن ذلك فضلي أوتيه من أشاء ) . قال علماؤنا: فلو علموا أن ذلك من فضل الله لم يحاجونا عند ربنا؛ فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم يحاجونكم يوم القيامة عند ربكم، ثم قال: قل لهم الآن « إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم » . وقرأ ابن كثير « آن يؤتى » بالمد على الاستفهام؛ كما قال الأعشى:
أأن رأت رجلا أعشى أضر به ريب المنون ودهر متبل خبل
وقرأ الباقون بغير مد على الخبر. وقرأ سعيد بن جبير « إن يؤتى » بكسر الهمزة، على معنى النفي؛ ويكون من كلام الله تعالى كما قال الفراء. والمعنى: قل يا محمد « إن الهدى هدى الله إن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم » يعني اليهود - بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم. ونصب « أو يحاجوكم » يعني بإضمار « أن » و « أو » تضمر بعدها « أن » إذا كانت بمعنى « حتى » و « إلا أن » . وقرأ الحسن « أن يؤتي » بكسر التاء وياء مفتوحة، على معنى أن يؤتي أحد أحدا مثل ما أوتيتم، فحذف المفعول.
قوله تعالى: « قل إن الهدى هدى الله » فيه قولان:
أحدهما: إن الهدى إلى الخير والدلالة إلى الله عز وجل بيد الله جل ثناؤه يؤتيه أنبياءه، فلا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم مثل ما أوتيتم، فإن أنكروا ذلك فقل لهم: « إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء » . والقول الآخر: قل إن الهدى هدى الله الذي آتاه المؤمنين من التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم لا غيره. وقال بعض أهل الإشارات في هذه الآية: لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم فإن من لا يوافقكم لا يرافقكم. والله أعلم.
الآية: 74 ( يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
أي بنبوته وهدايته؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما. ابن جريج: بالإسلام والقرآن « من يشاء » . قال أبو عثمان: أجمل القول ليبقى معه رجاء الراجي وخوف الخائف، « والله ذو الفضل العظيم » .
الآية: 75 ( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون )
قوله تعالى: « ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك » مثل عبدالله بن سلام. « ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك » وهو فنحاص بن عازوراء اليهودي، أودعه رجل دينارا فخانه. وقيل: كعب بن الأشرف وأصحابه. وقرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي « من إن تيمنه » على لغة من قرأ « نستعين » وهي لغة بكر وتميم. وفي حرف عبدالله « مالك لا تِيْمَنّا على يوسف » والباقون بالألف. وقرأ نافع والكسائي « يؤدهي » بياء في الإدراج. قال أبو عبيد: واتفق أبو عمرو والأعمش وعاصم وحمزة في رواية أبي بكر على وقف الهاء، فقرؤوا « يؤدّهْ إليك » . قال النحاس: بإسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه البتة ويرى أنه غلط ممن قرأ به، وإنه توهم أن الجزم يقع على الهاء، وأبو عمرو أجل من أن يجوز عليه مثل هذا. والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء؛ وهي قراءة يزيد بن القعقاع. وقال الفراء: مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون: ضربته ضربا شديدا؛ كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع؛ كما قال الشاعر:
لما رأى ألاّ دَعَهْ ولا شِبَعْ مال إلى أرْطاة حِقْف فاضطجع
وقيل: إنما جاز إسكان الهاء في هذا الموضع لأنها وقعت في موضع الجزم وهي الياء الذاهبة. وقرأ أبو المنذر سلام والزهري « يؤدّهُ » بضم الهاء بغير واو. وقرأ قتادة وحميد ومجاهد « يؤدِّهُو » بواو في الإدراج، اختير لها الواو لأن الواو من الشفة والهاء بعيدة المخرج. قال سيبويه: الواو في المذكر بمنزلة الألف في المؤنث ويبدل منها ياء لأن الياء أخف إذا كان قبلها كسرة أو ياء، وتحذف الياء وتبقى الكسرة لأن الياء قد كانت تحذف والفعل مرفوع فأثبتت بحالها.
أخبر تعالى أن في أهل الكتاب الخائن والأمين، والمؤمنون لا يميزون ذلك، فينبغي اجتناب جميعهم. وخص أهل الكتاب بالذكر وإن كان المؤمنون كذلك؛ لأن الخيانة فيهم أكثر، فخرج الكلام على الغالب. والله أعلم. وقد مضى تفسير القنطار. وأما الدينار فأربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير، فمجموعه اثنتان وسبعون حبة، وهو مجمع عليه. ومن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر. وهذا أدل دليل على القول بمفهوم الخطاب. وفيه بين العلماء خلاف كثير مذكور في أصول الفقه. وذكر تعالى قسمين: من يؤدّي ومن لا يؤدّي إلا بالملازمة عليه؛ وقد يكون من الناس من لا يؤدِّي وإن دمت عليه قائما. فذكر تعالى القسمين لأنه الغالب والمعتاد والثالث نادر؛ فخرج الكلام على الغالب. وقرأ طلحة بن مصرف وأبو عبدالرحمن السلمي وغيرهما « دمت » بكسر الدال وهما لغتان، والكسر لغة أزْد السَّراة؛ من « دِمْت تدام » مثل خفت تخاف. وحكى الأخفش دِمت تدوم، شاذا.
استدل أبو حنيفة على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى: « إلا ما دمت عليه قائما » وأباه سائر العلماء، وقد تقدم في البقرة. وقد استدل بعض البغداديين من علمائنا على حبس المِديان بقوله تعالى: « ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما » فإذا كان له ملازمته ومنعه من التصرف، جاز حبسه. وقيل: إن معنى « إلا ما دمت عليه قائما » أي بوجهك فيهابك ويستحي منك، فان الحياء في العينين؛ ألا ترى إلى قول ابن عباس رضي الله عنه: لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين. وإذا طلبت من أخيك حاجة فانظر إليه بوجهك حتى يستحي فيقضيها. ويقال: « قائما » أي ملازما له؛ فإن أنظرته أنكرك. وقيل: أراد بالقيام إدامة المطالبة لا عين القيام. والدينار أصله دِنّار فعوضت من إحدى النونين ياء طلبا للتخفيف لكثرة استعماله. يدل عليه أنه يجمع دنانير ويصغر دُنَيْنير.
الأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جَنَبَتَي الصراط؛ كما في صحيح مسلم. فلا يمكن من الجواز إلا من حفظهما. وروى مسلم عن حذيفة قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة، قال: ( ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ) الحديث. وقد تقدم بكماله أول البقرة. وروى ابن ماجة حدثنا محمد بن المصفى حدثنا محمد بن حرب عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة كثير بن مرة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه رِبْقة الإسلام ) . وقد مضى في البقرة معنى قوله عليه السلام: ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) . والله أعلم.
ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافا لمن ذهب إلى ذلك؛ لأن فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولا. فطريق العدالة والشهادة ليس يجزئ فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة؛ ألا ترى قولهم: « ليس علينا في الأميين سبيل » [ آل عمران: 75 ] فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه؛ ولو كان ذلك كافيا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين.
قوله تعالى: « ذلك بأنهم قالوا » يعني اليهود « ليس علينا في الأميين سبيل » قيل: إن اليهود كانوا إذا بايعوا المسلمين يقولون: ليس علينا في الأميين سبيل - أي حرج في ظلمهم - لمخالفتهم إيانا. وادعوا أن ذلك في كتابهم؛ فأكذبهم الله عز وجل ورد عليهم فقال: « بلى » أي بلى عليهم سبيل العذاب بكذبهم واستحلالهم أموال العرب. قال أبو إسحاق الزجاج: وتم الكلام. ثم قال: « من أوفى بعهده واتقى » [ آل عمران: 76 ] . ويقال: إن اليهود كانوا قد استدانوا من الأعراب أموالا فلما أسلم أرباب الحقوق قالت اليهود: ليس لكم علينا شيء، لأنكم تركتم دينكم فسقط عنا دَينكم. وادّعوا أنه حكم التوراة فقال الله تعالى: « بلى » ردا لقولهم « ليس علينا في الأميين سبيل » . أي ليس كما تقولون، ثم استأنف فقال: « من أوفى بعهده واتقى » الشرك فليس من الكاذبين بل يحبه الله ورسوله.
قال رجل لابن عباس: إنا نصيب في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول: ليس علينا في ذلك بأس. فقال له: هذا كما قال أهل الكتاب « ليس علينا في الأميين سبيل » إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم؛ ذكره عبدالرازق عن معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن صعصعة أن رجلا قال لابن عباس؛ فذكره.
قوله تعالى: « ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون » يدل على أن الكافر لا يُجعل أهلا لقبول شهادته؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه كذاب. وفيه رد عل الكفرة الذين يحرمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع. قال ابن العربي: ومن هذا يخرج الرد على من يحكم بالاستحسان من غير دليل، ولست أعلم أحدا من أهل القبلة قاله. وفي الخبر: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ) .
الآية: 76 ( بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين )
« من » رفع بالابتداء وهو شرط. و « أوفى » في موضع جزم. و « اتقى » معطوف عليه، أي واتقى الله ولم يكذب ولم يستحل ما حُرِّم عليه. « فإن الله يحب المتقين » أي يحب أولئك. وقد تقدم معنى حب الله لأوليائه. والهاء في قوله « بعهده » راجعة إلى الله عز وجل. وقد جرى ذكره في قوله « ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون » ويجوز أن تعود على الموفى ومتقي الكفر والخيانة ونقض العهد. والعهد مصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول.
الآية: 77 ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )
روى الأئمة عن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هل لك بينة ) ؟ قلت لا، قال لليهودي: ( احلف ) قلت: إذا يحلف فيذهب بمالي؛ فأنزل الله تعالى: « إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا » إلى آخر الآية. وروى الأئمة أيضا عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ) . فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: ( وإن كان قضيبا من أراك ) . وقد مضى في البقرة معنى « لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم » .
ودلت هذه الآية والأحاديث أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه؛ وقد روى الأئمة عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة ) . وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما ناقض أبو حنيفة وغلا وقال: إن حكم الحاكم المبني على الشهادة الباطلة يحل الفرج لمن كان محرما عليه؛ كما تقدم في البقرة. وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما فإن فرجها يحل لمتزوجها ممن يعلم أن القضية باطل. وقد شُنّع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح، وبأنه صان الأموال ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة، ولم يصن الفروج عن ذلك، والفروج أحق أن يحتاط لها وتصان. وسيأتي بطلان قوله في آية اللعان إن شاء الله تعالى.