لآيتان: 16 - 17 ( الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار، الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار )
« الذين » بدل من قوله « للذين اتقوا » وإن شئت كان رفعا أي هم الذين، أو نصبا على المدح. « ربنا » أي يا ربنا. « إننا آمنا » أي صدقنا. « فاغفر لنا ذنوبنا » دعاء بالمغفرة. « وقنا عذاب النار » تقدم في البقرة. « الصابرين » يعني عن المعاصي والشهوات، وقيل: على الطاعات. « والصادقين » أي في الأفعال والأقوال « والقانتين » الطائعين. « والمنفقين » يعني في سبيل الله. وقد تقدم في البقرة هذه المعاني على الكمال. ففسر تعالى في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات.
واختلف في معنى قوله تعالى: « والمستغفرين بالأسحار » فقال أنس بن مالك: هم السائلون المغفرة. قتادة: المصلون.
قلت: ولا تناقض، فإنهم يصلون ويستغفرون. وخص السحر بالذكر لأنه مظان القبول ووقت إجابة الدعاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام لبنيه: « سوف أستغفر لكم ربي » [ يوسف: 98 ] : ( أنه أخر ذلك إلى السحر ) خرجه الترمذي وسيأتي. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل ( أي الليل أسمع ) ؟ فقال: ( لا أدري غير أن العرش يهتز عند السحر ) . يقال سحر وسحر، بفتح الحاء وسكونها، وقال الزجاج: السحر من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر الثاني، وقال ابن زيد: السحر هو سدس الليل الآخر.
قلت: أصح من هذا ما روى الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ينزل الله عز وجل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يمضي ثلث الليل الأول فيقول أنا الملك أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعطيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر ) في رواية « حتى ينفجر الصبح » لفظ مسلم. وقد اختلف في تأويله؛ وأولى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي مفسرا عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله عز وجل يمهل حتى يمضي شطر الليل الأول ثم يأمر مناديا فيقول هل من داع يستجاب له هل من مستغر يغفر له هل من سائل يعطى ) . صححه أبو محمد عبدالحق، وهو يرفع الإشكال ويوضح كل احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي ينزل ملك ربنا فيقول. وقد روى « ينزل » بضم الياء، وهو يبين ما ذكرنا، وبالله توفيقنا. وقد أتينا على ذكره في « الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وصفاته العلى » .
مسألة: الاستغفار مندوب إليه، وقد أثنى الله تعالى على المستغفرين في هذه الآية وغيرها فقال: « وبالأسحار هم يستغفرون » [ الذاريات: 18 ] . وقال أنس بن مالك: أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة. وقال سفيان الثوري: بلغني أنه إذا كان أول الليل نادى مناد ليقِم القانتون فيقومون كذلك يصلون إلى السحر، فإذا كان عند السحر نادى مناد: أين المستغفرون فيستغفر أولئك، ويقوم آخرون فيصلون فيلحقون بهم. فإذا طلع الفجر نادى مناد: ألا ليقم الغافلون فيقومون من فرشهم كالموتى نشروا من قبورهم. وروي عن أنس سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يقول إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى المتحابين في وإلى المتهجدين والمستغفرين بالأسحار صرفت عنهم العذاب بهم ) . قال مكحول: إذا كان في أمة خمسة عشر رجلا يستغفرون الله كل يوم خمسا وعشرين مرة لم يؤاخذ الله تلك الأمة بعذاب العامة. وذكره أبو نعيم في كتاب الحلية له. وقال نافع: كان ابن عمر يحيى الليل ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فأقول لا. فيعاود الصلاة ثم يسأل، فإذا قلت نعم قعد يستغفر. وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول: يا رب، أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي. فنظرت فإذا هو ابن مسعود.
قلت: فهذا كله يدل على أنه استغفار باللسان مع حضور القلب. لا ما قال ابن زيد أن المراد بالمستغفرين الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة. والله أعلم. وقال لقمان لابنه: ( يا بني لا يكن الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم ) . والمختار من لفظ الاستغفار ما رواه البخاري عن شداد بن أوس، وليس له في الجامع غيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيد الاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت - قال - ومن قالها من النهار موقنا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات من ليله قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة ) . وروى أبو محمد عبدالغني بن سعيد من حديث ابن لهيعة عن أبي صخر عن أبي معاوية عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ثم قال: ( ألا أعلمك كلمات تقولهن لو كانت ذنوبك كمدب النمل - أو كمدب الذر - لغفرها الله لك على أنه مغفور لك: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ) .
الآية: 18 ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم )
قال سعيد بن جبير: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما نزلت هذه الآية خررن سجدا. وقال الكلبي: لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام؛ فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان. فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال ( نعم ) . قالا: وأنت أحمد؟ قال: ( نعم ) . قالا: نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( سلاني ) . فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله. فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم « شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط » فأسلم الرجلان وصدقا برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قيل: إن المراد بأولي العلم الأنبياء عليهم السلام. وقال ابن كيسان: المهاجرون والأنصار. مقاتل: مؤمنو أهل الكتاب. السدي والكلبي: المؤمنون كلهم؛ وهو الأظهر لأنه عام.
في هذه الآية دليل على فضل العلم وشرف العلماء وفضلهم؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنهم الله باسمه واسم ملائكته كما قرن اسم العلماء. وقال في شرف العلم لنبيه صلى الله عليه وسلم: « وقل رب زدني علما » [ طه: 114 ] . فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه كما أمر أن يستزيده من العلم. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إن العلماء ورثة الأنبياء ) . وقال: ( العلماء أمناء الله على خلقه ) . وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير. وخرج أبو محمد عبدالغني الحافظ من حديث بركة بن نشيط - وهو عنكل بن حكارك وتفسيره بركة بن نشيط - وكان حافظا، حدثنا عمر بن المؤمل حدثنا محمد بن أبي الخصيب حدثنا عنكل حدثنا محمد بن إسحاق حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( العلماء ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة ) وفي هذا الباب حديث عن أبي الدرداء خرجه أبو داود.
روى غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فكنت أختلف إليه. فلما كان ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة قام فتهجد من الليل فقرأ بهذه الآية: « شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم. إن الدين عند الله الإسلام » [ آل عمران: 18 - 19 ] ، قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي عند الله وديعة، وإن الدين عند الله الإسلام - قالها مرارا - فغدوت إليه وودعته ثم قلت: إني سمعتك تقرأ هذه الآية فما بلغك فيها؟ أنا عندك منذ سنة لم تحدثني به. قال: والله لا حدثتك به سنة. قال: فأقمت وكتبت على بابه ذلك اليوم، فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد قد مضت السنة. قال: حدثني أبو وائل، عن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى أدخلوا عبدي الجنة ) . قال أبو الفرج الجوزي: غالب القطان هو غالب بن خطاف القطان، يروي عن الأعمش حديث ( شهد الله ) وهو حديث معضل. قال ابن عدي الضعف على حديثه بين. وقال أحمد بن حنبل: غالب بن خطاف القطان ثقة ثقة. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو حاتم: صدوق صالح.
قلت: يكفيك من عدالته وثقته أن خرج له البخاري ومسلم في كتابيهما، وحسبك. وروي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( من قرأ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم عند منامه خلق الله له سبعين ألف ملك يستغفرون له إلى يوم القيامة ) . ويقال من أقر بهذه الشهادة عن عقد من قلبه فقد قام بالعدل. وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما لكل حي من أحياء العرب صنم أو صنمان. فلما نزلت هذه الآية أصبحت الأصنام قد خرت ساجدة لله.
قوله تعالى: « شهد الله » أي بين وأعلم؛ كما يقال: شهد فلان عند القاضي إذا بين وأعلم لمن الحق، أو على من هو. قال الزجاج: الشاهد هو الذي يعلم الشيء ويبينه؛ فقد دلنا الله تعالى على وحدانيته بما خلق وبين. وقال أبو عبيدة: « شهد الله » بمعنى قضى الله، أي أعلم. وقال ابن عطية: وهذا مردود من جهات. وقرأ الكسائي بفتح « أن » في قوله « أنه لا إله إلا هو » وقوله « أن الدين » . قال المبرد: التقدير: أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو، ثم حذفت الباء كما قال: أمرتك الخير. أي بالخير. قال الكسائي: أنصبهما جميعا، بمعنى شهد الله أنه كذا، وأن الذين عند الله. قال ابن كيسان: « أن » الثانية بدل من الأولى؛ لأن الإسلام تفسير المعنى الذي هو التوحيد. وقرأ ابن عباس فيما حكى الكسائي « شهد الله إنه » « بالكسر » « أن الدين » بالفتح. والتقدير: شهد الله أن الدين الإسلام، ثم ابتداء فقال: إنه لا إله إلا هو. وقرأ أبو المهلب وكان قارئا - شهداء الله بالنصب على الحال، وعنه « شهداء الله » . وروى شعبة عن عاصم عن زرٍّ عن أبي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ « أن الدين عند الله الحنيفية لا اليهودية ولا النصرانية ولا المجوسية » . قال أبو بكر الأنباري: ولا يخفى على ذي تمييز أن هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم على جهة التفسير، أدخله بعض من نقل الحديث في القرآن. و « قائماً » نصب على الحال المؤكدة من اسمه تعالى في قوله « شهد الله » أو من قوله « إلا هو » . وقال الفراء: هو نصب على القطع، كان أصله القائم، فلما قطعت الألف واللام نصب كقوله: « وله الدين واصباً » [ النحل: 52 ] . وفي قراءة عبدالله « القائم بالقسط » على النعت، والقسط العدل. « لا إاله إلا هو العزيز الحكيم » كرر لأن الأولى حلت محل الدعوى، والشهادة الثانية حلت محل الحكم. وقال جعفر الصادق: الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، يعني قولوا لا إله إلا الله العزيز الحكيم.
الآية: 19 ( إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب )
قوله تعالى: « إن الدين عند الله الإسلام » الدين في هذه الآية الطاعة والملة، والإسلام بمعنى الإيمان والطاعات؛ قاله أبو العالية، وعليه جمهور المتكلمين. والأصل في مسمى الإيمان والإسلام التغاير؛ لحديث جبريل. وقد يكون بمعنى المرادفة. فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر؛ كما في حديث وفد عبدالقيس وأنه أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال: ( هل تدرون ما الإيمان ) ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم ) الحديث. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله ) أخرجه الترمذي. وزاد مسلم ( والحياء شعبة من الإيمان ) . ويكون أيضا بمعنى التداخل وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل ومسمى الآخر، كما في هذه الآية إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال؛ ومنه قوله عليه السلام: ( الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان ) . أخرجه ابن ماجة، وقد تقدم والحقيقة هو الأول وضعا وشرعا وما عداه من باب التوسع والله أعلم.
قوله تعالى: « وما اختلف الذين أوتوا الكتاب » الآية. أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائق، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا. قاله ابن عمر وغيره. وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم؛ قاله الأخفش. قال محمد بن جعفر بن الزبير: المراد بهذه الآية النصارى، وهي توبيخ لنصارى نجران. وقال الربيع بن أنس: المراد بها اليهود. ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعم اليهود والنصارى؛ أي « وما اختلف الذين أوتوا الكتاب » يعني في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. « إلا من بعد ما جاءهم العلم » يعني بيان صفته ونبوته في كتبهم. وقيل: أي وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل في أمر عيسى وفرقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد، وأن عيسى عبدالله ورسوله. و « بغيا » نصب على المفعول من أجله، أو على الحال من ( الذين ) والله تعالى أعلم.
الآية: 20 ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد )
قوله تعالى: « فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن » أي جادلوك بالأقاويل المزورة والمغالطات، فأسند أمرك إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ وعلى الله نصرك. وقوله « وجهي » بمعنى ذاتي؛ ومنه الحديث ( سجد وجهي للذي خلقه وصوره ) . وقيل: الوجه هنا بمعنى القصد؛ كما تقول: خرج فلان في وجه كذا. وقد تقدم هذا المعنى في البقرة مستوفى؛ والأول أولى. وعبر بالوجه عن سائر الذات إذ هو أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس. وقال:
أسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا
وقد قال حذاق المتكلمين في قوله تعالى: « ويبقى وجه ربك » [ الرحمن: 27 ] : إنها عبارة عن الذات وقيل: العمل الذي يقصد به وجهه. وقوله « ومن اتبعن » « من » في محل رفع عطفا على التاء في قوله « أسلمت » أي ومن اتبعني أسلم أيضا، وجاز العطف على الضمير المرفوع من غير تأكيد للفصل بينهما. وأثبت نافع وأبو عمرو ويعقوب ياء « اتبعن » على الأصل، وحذف الآخرون اتباعا للمصحف إذ وقعت فيه بغير ياء. وقال الشاعر:
ليس تخفى يسارتي قدر يوم ولقد تخف شيمتي إعساري
قوله تعالى: « وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد » يعني اليهود والنصارى « والأميين » الذين لا كتاب لهم وهم مشركو العرب. « أأسلمتم » استفهام معناه التقرير وفي ضمنه الأمر، أي أسلموا؛ كذا قال الطبري وغيره. وقال الزجاج: « أأسلمتم » تهديد. وهذا حسن لأن المعنى أأسلمتم أم لا. وجاءت العبارة في قوله « فقد اهتدوا » بالماضي مبالغة في الإخبار بوقوع الهدي لهم وتحصيله. و « البلاغ » مصدر بلغ بتخفيف عين الفعل، أي إنما عليك أن تبلغ. وقيل: إنه مما نسخ بالجهاد. وقال ابن عطية: وهذا يحتاج إلى معرفة تاريخ نزولها؛ وأما على ظاهر نزول هذه الآيات في وفد نجران فإنما المعنى فإنما عليك أن تبلغ ما أنزل إليك بما فيه من قتال وغيره.
الآيتان: 21 - 22 ( إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم، أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين )
قوله تعالى: « إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين » قال أبو العباس المبرد: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون يدعونهم إلى الله عز وجل فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين فأمروهم بالإسلام فقتلوهم؛ ففيهم نزلت هذه الآية. وكذلك قال معقل بن أبي مسكين: كانت الأنبياء صلوات الله عليهم تجيء إلى بني إسرائيل بغير كتاب فيقتلونهم، فيقوم قوم ممن اتبعهم فيأمرون بالقسط، أي بالعدل، فيقتلون. وقد روي عن ابن مسعود قال قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يمشي المؤمن بينهم بالتقية ) وروى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية ) . ذكره المهدوي وغيره. وروى شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبدالله قال: كانت بنو إسرائيل تقتل في اليوم سبعين نبيا ثم تقوم سوق بَقْلِهم من آخر النهار. فإن قال قائل: الذين وعظوا بهذا لم يقتلوا نبيا. فالجواب عن هذا أنهم رضوا فعل من قتل فكانوا بمنزلته؛ وأيضا فإنهم قاتلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهموا بقتلهم؛ قال الله عز وجل: « وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك » [ الأنفال: 30 ] .
دلت هذه الآية على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة. قال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أمر بالمعروف أو نهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه ) . وعن درة بنت أبي لهب قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال: من خير الناس يا رسول الله؟ قال: ( آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأوصلهم لرحمه ) . وفي التنزيل: « المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف » [ التوبة: 67 ] ثم قال: « والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر » [ التوبة: 71 ] . فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين؛ فدل على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه. ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذ كانت إقامة الحدود إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب؛ فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة. قال الله تعالى: « الذين إن مكانهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر » [ الحج: 41 ] .
وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة، خلافا للمبتدعة حيث تقول: لا يغيره إلا عدل. وهذا ساقط؛ فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس. فإن تشبثوا بقوله تعالى: « أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم » [ البقرة: 44 ] وقوله: « كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون » [ الصف: 3 ] ونحوه، قيل لهم: إنما وقع الذم ههنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر. ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى، كما بيناه في البقرة عند قوله تعالى: « أتأمرون الناس بالبر » [ البقرة: 44 ] .
أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبدالبر أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وإنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره؛ فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه ليس عليه أكثر من ذلك. وإذا أنكر بقلبه فقد أدى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك. قال: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا ولكنها مقيدة بالاستطاعة. قال الحسن: إنما يكلم مؤمن يرجى أو جاهل يعلم؛ فأما من وضع سيفه أو سوطه فقال: اتقني اتقني فما لك وله. وقال ابن مسعود: بحسب المرء إذا رأى منكرا لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وروى ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه ) . قالوا: يا رسول الله وما إذلاله نفسه؟ قال: ( يتعرض من البلاء لما لا يقوم له ) .
قلت: وخرجه ابن ماجة عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن بن جندب عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلاهما قد تكلم فيه. وروي عن بعض الصحابة أنه قال: إن الرجل إذا رأى منكرا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات « اللهم إن هذا منكر » فإذا قال ذلك فقد فعل ما عليه، وزعم ابن العربي أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج زواله فأي فائدة عنده. قال: والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يبالي.
قلت: هذا خلاف ما ذكره أبو عمر من الإجماع. وهذه الآية تدل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خوف القتل. وقال تعالى: « وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك » [ لقمان: 17 ] . وهذا إشارة إلى الإذاية.
روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) . قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني عوام الناس. فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو بالقتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل؛ وهذا تلقي من قول الله تعالى: « فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله » [ الحجرات: 9 ] . وعليه بنى العلماء أنه إذا دفع الصائل على النفس أو على المال عن نفسه أو عن ماله أو نفس غيره فله ذلك ولا شيء عليه. ولو رأى زيد عمرا وقد قصد مال بكر فيجب عليه أن يدفعه عنه إذا لم يكن صاحب المال قادرا عليه ولا راضيا به؛ حتى لقد قال العلماء: لو فرضنا قودا. وقيل: كل بلدة يكون فيها أربعة فأهلها معصومون من البلاء: إمام عادل لا يظلم، وعالم على سبيل الهدى، ومشايخ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويحرضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستورات لا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى.
روى أنس بن مالك قال: قيل يا رسول الله، متى نترك الأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر؟ قال: ( إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم ) . قلنا: يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: ( الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالتكم ) . قال زيد: تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ( والعلم في رذالتكم ) إذا كان العلم في الفساق. خرجه ابن ماجة. وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في « المائدة » وغيرها إن شاء الله تعالى. وتقدم معنى « فبشرهم » و « حبطت » في البقرة فلا معنى للإعادة.