الآية: 39 ( ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا )
الإشارة بـ « ذلك » إلى هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها هذه الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل عليه السلام. أي هذه من الأفعال المحكمة التي تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة. ثم عطف قوله « ولا تجعل » على ما تقدم من النواهي. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم المراد كل من سمع الآية من البشر. والمدحور: المهان المبعد المقصى. وقد تقدم في هذه السورة. ويقال في الدعاء: اللهم ادحر عنا الشيطان؛ أي أبعده.
الآية: 40 ( أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما )
قوله تعالى: « أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا » هذا يرد على من قال من العرب: الملائكة بنات الله، وكان لهم بنات أيضا مع النبيين، ولكنه أراد: أفأخلص لكم البنين دونه وجعل البنات مشتركة بينكم وبينه. « إنكم لتقولون قولا عظيما » أي في الإثم عند الله عز وجل.
الآية: 41 ( ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا )
قوله تعالى: « ولقد صرفنا » أي بينا. وقيل كررنا. والتصريف: صرف الشيء من جهة إلى جهة. والمراد بهذا التصريف البيان والتكرير. وقيل: المغايرة؛ أي غايرنا بين المواعظ ليذكروا ويعتبروا ويتعظوا. وقراءة العامة « صرفنا » بالتشديد على التكثير حيث وقع. وقرأ الحسن بالتخفيف. قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحسين يقول بحضرة الإمام الشيخ أبي الطيب: لقوله تعالى: « صرفنا » معنيان؛ أحدهما لم يجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا ومحكما ومتشابها ونهيا وأمرا وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا؛ مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وصريف الأفعال من الماضي والمستقبل والأمر والنهي والفعل والفاعل والمفعول ونحوها. والثاني أنه لم ينزل مرة واحدة بل نجوما؛ نحو قوله « وقرآنا فرقناه » [ الإسراء: 106 ] ومعناه: أكثرنا صرف جبريل عليه السلام إليك. وقوله « في هذا القرآن » قيل « في » زائدة، والتقدير: ولقد صرفنا هذا القرآن؛ مثل « وأصلح لي في ذريتي » [ الأحقاف: 15 ] أي أصلح ذريتي. وقوله « في هذا القرآن » يعني الأمثال والعبر والحكم والمواعظ والأحكام والإعلام.
قوله تعالى: « ليذكروا »
قراءة يحيى والأعمش وحمزة والكسائي « ليذكروا » مخففا، وكذلك في الفرقان « ولقد صرفناه بينهم ليذكروا » [ الفرقان:50 ] . الباقون بالتشديد. واختاره أبو عبيد؛ لأن معناه ليتذكروا وليتعظوا. قال المهدوي: من شدد « ليذكروا » أراد التدبر. وكذلك من قرأ « ليذكروا » . ونظير الأول « ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون » [ القصص: 51 ] والثاني: « واذكروا ما فيه » [ البقرة: 63 ]
قوله تعالى: « وما يزيدهم »
أي التصريف والتذكير.
قوله تعالى: « إلا نفورا »
أي تباعدا عن الحق وغفلة عن النظر والاعتبار؛ وذلك لأنهم اعتقدوا في القرآن أنه حيلة وسحر وكهانة وشعر.
الآيتان: 42 - 43 ( قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا )
قوله تعالى: « قل لو كان معه آلهة » هذا متصل بقوله تعالى: « ولا تجعل مع الله إلها آخره » [ الإسراء 22 ] وهو رد على عُباد الأصنام. « كما يقولون » قرأ ابن كثير وحفص « يقولون » بالياء. الباقون « تقولون » بالتاء على الخطاب. « إذا لابتغوا » يعني الآلهة. « إلى ذي العرش سبيلا » قال ابن العباس رضي الله تعالى عنهما: لطلبوا مع الله منازعة وقتالا كما تفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. وقال سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه: المعنى إذاً لطلبوا طريقا إلى الوصول إليه ليزيلوا ملكه، لأنهم شركاؤه. وقال قتادة: المعنى إذا لابتغت الآلهة القربة إلى ذي العرش سبيلا، والتمست الزلفة عنده لأنهم دونه، والقوم اعتقدوا أن الأصنام تقربهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى فقد بطل أنها آلهة. « سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا » نزه سبحانه نفسه وقدسه ومجده عما لا يليق به. والتسبيح: التنزيه. وقد تقدم.
الآية: 44 ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا )
قوله تعالى: « تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن » أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل، لما أسند إليها فعل العاقل وهو التسبيح. وقوله: « ومن فيهن » يريد الملائكة والإنس والجن، ثم عمّ بعد ذلك الأشياء كلها في قوله: « وإن من شيء إلا يسبح بحمده » . واختلف في هذا العموم، هل هو مخصص أم لا؛ فقالت فرقة: ليس مخصوصا والمراد به تسبيح الدلالة، وكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح حقيقة، وكل شيء على العموم يسبح تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهه، ولو كان ما قاله الأولون من أنه أثر الصنعة والدلالة لكان أمرا مفهوما، والآية تنطق بأن هذا التسبيح لا يفقه. وأجيبوا بأن المراد بقوله: « لا تفقهون » الكفار الذين يعرضون عن الاعتبار فلا يفقهون حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء. وقالت فرقة: قوله « من شيء » عموم، ومعناه الخصوص في كل حي ونام، وليس ذلك في الجمادات. ومن هذا قول عكرمة: الشجرة تسبح والاسطوان لا يسبح. وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان: أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد؟ فقال: قد كان يسبح مرة؛ يريد أن الشجرة في زمن ثمرها واعتدالها كانت تسبح، وأما الآن فقد صار خوانا مدهونا.
قلت: ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستبرئ من البول ) قال: فدعا بعسيب رطب فشقه اثنين، ثم غرس على هذا واحدا وعلى هذا واحدا ثم قال: ( لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ) . فقوله عليه الصلاة والسلام. ( ما لم ييبسا ) إشارة إلى أنهما ما داما رطبين يسبحان، فإذا يبسا صارا جمادا. والله اعلم. وفي مسند أبي داود الطيالسي: فتوضع على أحدهما نصفا وعلى الآخر نصفا وقال: ( لعله أن يهون عليهما العذاب ما دام فيهما من بلوتهما شيء ) . قال علماؤنا: ويستفاد من هذا غرس، الأشجار وقراءة القرآن على القبور، وإذا خفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن. وقد بينا هذا المعنى في كتاب التذكرة بيانا شافيا، وأنه يصل إلى الميت ثواب ما يهدى إليه. والحمد لله على ذلك. وعلى التأويل الثاني لا يحتاج إلى ذلك؛ فإن كل شيء من الجماد وغيره يسبح.
قلت: ويستدل لهذا التأويل وهذا القول من الكتاب بقوله سبحانه وتعالى: « واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب. إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق » [ ص: 17 ] ، وقوله: « وإن منها لما يهبط من خشية الله » [ البقرة: 74 ] - على قول مجاهد - ، وقوله: « وتخر الجبال هدا. أن دعوا للرحمن ولدا » [ مريم:90 ] . وذكر ابن المبارك في ( دقائقه ) أخبرنا مسعر عن عبدالله بن واصل عن عوف بن عبدالله قال قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: إن الجبل يقول للجبل: يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال نعم سر به. ثم قرأ عبدالله « وقالوا اتخذ الرحمن ولدا » الآية. قال: أفتراهن يسمعن الزور ولا يسمعن الخير. وفيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما من صباح ولا رواح إلا تنادي بقاع الأرض بعضها بعضا. يا جاراه؛ هل مر بك اليوم عبد فصلى لله أو ذكر الله عليك؟ فمن قائلة لا، ومن قائلة نعم، فإذا قالت نعم رأت لها بذلك فضلا عليها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) . رواه ابن ماجه في سننه، ومالك في موطئه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وخرج البخاري عن عبدالله رضي الله عنه قال: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. في غير هذه الرواية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: كنا نأكل مع وسول الله صلى الله عليه وسلم الطعام ونحن نسمع تسبيحه. وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن ) . قيل: إنه الحجر الأسود، والله اعلم. والأخبار في هذا المعنى كثيرة؛ وقد أتينا على جملة منها في اللمع اللؤلئية في شرح العشرينيات النبوية للفاداري رحمه الله، وخبر الجذع أيضا مشهور في هذا الباب خرجه البخاري في موضع من كتابه. وإذا ثبت ذلك في جماد واحد جاز في جميع الجمادات، ولا استحالة في شيء من ذلك؛ فكل شيء يسبح للعموم. وكذا قال النخعي وغيره: هو عام فيما فيه روح وفيما لا روح فه حتى صرير الباب. واحتجوا بالأخبار التي ذكرنا. وقيل: تسبيح الجمادات أنها تدعو الناظر إليها إلى أن يقول: سبحان الله! لعدم الإدراك منها. وقال الشاعر:
تُلقى بتسبيحة من حيث ما انصرفت وتستقر حشا الرائي بترعاد
أي يقول من رآها: سبحان خالقها. فالصحيح أن الكل يسبح للأخبار الدالة على ذلك لو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود، وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح كما ذكرنا. وقد نصت السنة على ما دل عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء فالقول به أولى. والله اعلم. وقرأ الحسن وأبو عمرو ويعقوب وحفص وحمزة والكسائي وخلف « تفقهون » بالتاء لتأنيث الفاعل. الباقون بالياء، واختاره أبو عبيد، قال: للحائل بين الفعل والتأنيث. « إنه كان حليما » عن ذنوب عباده في الدنيا. « غفورا » للمؤمنين في الآخرة.
الآية: 45 ( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا )
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت سورة « تبت يدا أبي لهب » أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فِهر وهي تقول:
مذمما عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا
والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه؛ فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنها لن تراني ) وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال. وقرأ « وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا » . فوقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر، أخبرت أن صاحبك هجاني! فقال: لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال: فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني ابنة سيدها. وقال سعيد بن جبير رضي الله عنه: لما نزلت « تبت يدا أبي لهب وتب » [ المسد: 1 ] جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه، فقال أبو بكر: لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه سيحال بيني وبينها ) فلم تره. فقالت لأبي بكر: يا أبا بكر، هجانا صاحبك! فقال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله. فقالت: وإنك لمصدقه؛ فاندفعت راجعة. فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، أما رأتك؟ قال: ( لا ما زال ملك ببني وبينها يسترني حتى ذهبت ) . وقال كعب رضي الله عنه في هذه الآية: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التي في الكهف « إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا » ، [ الكهف: 57 ] ، والآية في النحل « أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم » [ النحل: 108 ] ، والآية التي في الجاثية « أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة » [ الجاثية: 23 ] الآية. فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قرأهن يستتر من المشركين. قال كعب رضي الله تعالى عنه: فحدثت بهن رجلا من أهل الشام، فأتى أرض الروم فأقام بها زمانا، ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن فصاروا يكونون معه على طريقه ولا يبصرونه. قال الثعلبي: وهذا الذي يروونه عن كعب حدثت به رجلا من أهل الري فأسر بالديلم، فمكث زمانا ثم خرج هاربا فخرجوا في طلبه فقرأ بهن حتى جعلت ثيابهن لتلمس ثيابه فما يبصرونه.
قلت: ويزاد إلى هذه الآية أول سورة يس إلى قوله « فهم لا يبصرون » . فإن في السيرة في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام علي رضي الله عنه في فراشه قال: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده، وأخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس: « يس. والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم. تنزيل العزيز الرحيم - إلى قوله - وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون » [ يس: 6 ] . حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب.
قلت: ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن؛ فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا وأحدهما يقول للآخر: هذا ديبله؛ يعنون شيطانا. وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني، والحمد لله حمدا كثيرا على ذلك. وقيل: الحجاب المستور طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوه ولا يدركوا ما فيه من الحكمة؛ قاله قتادة. وقال الحسن: أي أنهم لإعراضهم عن قراءتك وتغافلهم عنك كمن بينك وبينه حجاب في عدم رؤيته لك حتى كأن على قلوبهم أغطية. وقيل: نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن، وهم أبو جهل وأبو سفيان والنضر بن الحارث وأم جميل امرأة أبي لهب وحويطب؛ فحجب الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يمرون به ولا يرونه؛ قاله الزجاج وغيره. وهو معنى القول الأول بعينه، وهو الأظهر في الآية، والله اعلم. وقوله: « مستورا » فيه قولان: أحدهما - أن الحجاب مستور عنكم لا ترونه. والثاني: أن الحجاب ساتر عنكم ما وراءه؛ ويكون مستورا به بمعنى ساتر.
الآية: 46 ( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا )
قوله تعالى: « وجعلنا على قلوبهم أكنة » « أكنة » جمع كنان، وهو ما ستر الشيء. وقد تقدم في « الأنعام » . « أن يفقهوه » أي لئلا يفقهوه، أو كراهية أن يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنواهي والحكم والمعاني. وهذا رد على القدرية. « وفي آذانهم وقرا » أي صمما وثقلا. وفي الكلام إضمار، أي أن يسمعوه. « وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده » أي قلت: لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن. وقال أبو الجوزاء أوس بن عبدالله: ليس شيء أطرد للشياطين من القلب من قول لا إله إلا الله، ثم تلا « وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا » . وقال علي بن الحسين: هو قوله بسم الله الرحمن الرحيم. وقد تقدم هذا في البسملة. « ولوا على أدبارهم نفورا » قيل: يعني بذلك المشركين. وقيل الشياطين. و « نفورا » جمع نافر؛ مثل شهود جمع شاهد، وقعود جمع قاعد، فهو منصوب على الحال. ويجوز أن يكون مصدوا على غير الصدر؛ إذ كان قوله « ولوا » بمعنى نقروا، فيكون معناه نفورا نفورا.
الآية: 47 ( نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا )
قوله تعالى: « نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك » قيل: الباء زائدة في قوله « به » أي يستمعونه. وكانوا يستمعون من النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ثم ينفرون فيقولون: هو ساحر ومسحور؛ كما أخبر الله تعالى به عنهم؛ قاله قتادة وغيره. « وإذ هم نجوى » أي متناجون في أمرك. قال قتادة: وكانت نجواهم قولهم إنه مجنون وإنه ساحر وإنه يأتي بأساطير الأولين، وغير ذلك. وقيل: نزلت حين دعا عتبة أشراف قريش إلى طعام صنعه لهم، فدخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله؛ فتناجوا؛ يقولون ساحر ومجنون. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين؛ ففعل ذلك علي ودخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد، وقال: ( قولوا لا إله إلا الله لتطيعكم العرب وتدين لكم العجم ) فأبوا، وكانوا يستمعون من النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور؛ فنزلت الآية. وقال الزجاج: النجوى اسم للمصدر؛ أي وإذ هم ذو نجوى، أي سرار. « إذ يقول الظالمون » أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما. « إن تتبعون إلا رجلا مسحورا » أي مطبوبا قد خبله السحر فاختلط عليه أمره، يقولون ذلك لينفروا عنه الناس. وقال مجاهد: « مسحورا » أي مخدوعا؛ مثل قوله: « فأني تسحرون » [ المؤمنون: 89 ] أي من أين تخدعون. وقال أبو عبيدة: « مسحورا » معناه أن له سحرا، أي رئة، فهو لا يستغني عن الطعام والشراب؛ فهو مثلكم وليس بملك. وتقول العرب للجبان: قد انتفخ سحره. ولكل من أكل من آدمي وغيره أو شرب مسحور ومسحر. قال لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال امرؤ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نغذي ونعلل. وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من هذه التي تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري.
الآية: 48 ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا )
قوله تعالى: « انظر كيف ضربوا لك الأمثال » عجّبه من صنعهم كيف يقولون تارة ساحر وتارة مجنون وتارة شاعر. « فضلوا فلا يستطيعون سبيلا » أي حيلة في صد الناس عنك. وقيل: ضلوا عن الحق فلا يجدون سبيلا، أي إلى الهدى. وقيل: مخرجا؛ لتناقض كلامهم في قولهم: مجنون، ساحر، شاعر.
الآية: 49 ( وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا )
قوله تعالى: « وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا » أي قالوا وهم يتناجون لما سمعوا القرآن وسمعوا أمر البعث: لو لم يكن مسحورا مخدوعا لما قال هذا. قال ابن عباس: الرفات الغبار. مجاهد: التراب. والرفات ما تكسر وبلي من كل شيء؛ كالفتات والحطام والرضاض؛ عن أبي عبيدة والكسائي والفراء والأخفش. تقول منه: رفت الشيء رفتا، أي حطم؛ فهو مرفوت. « أئنا لمبعوثون خلقا جديدا » « أئنا » استفهام والمراد به الجحد والإنكار. و « خلقا » نصب لأنه مصدر؛ أي بعثا جديدا. وكان هذا غاية الإنكار منهم.